فردينان دي ليسبس.. عصفور النار: أسامة كمال

فردينان دي ليسبس.. عصفور النار: أسامة كمال
        

تصوير: وليد منتصر**

          عاد فردينان دي ليسبس (1805- 1894) مثل عصفور النار الذي يتجدد من العدم، عاد بتمثاله كاملًا بالقرب من البقعة الأولى التي ضرب فيه المغامر الفرنسي معوله معلنًا بداية حفر قناة السويس في الخامس والعشرين من شهر أبريل في العام 1859، عاد بتمثاله وحيدًا وفي يده الأولى مُسودة حلمه قنال السويس - بينما يده الأخرى مفتوحة بطول القناة وسبابته تشير بثقة إلى حلمه الذي تحقق وصار تاريخًا مر عليه مائة وثلاثة وأربعون عامًا..

          عاد المغامر إلى داخل ترسانة بورسعيد البحرية في بورفؤاد، ولم يعد إلى قاعدته الخالية التي مازالت تحمل اسمه رغم مرور سبعة وخمسين عامًا على إنزاله عنها أثناء حرب 1956.. في العام 1989جاء الشاب الفرنسي ديفيد بورجوان بمنحة من الحكومة الفرنسية إلى بورسعيد، جاء ليعيد تمثال دي ليسبس إلى الحياة، قضى الشاب فترة تجنيده في بث الروح إلى جسد التمثال المتهرئ والمتكلس والمنزوعة عنه كفوف اليد والقدمين.. ساعد الشاب المُرمم ستة من الفنيين المصريين: أحمد الشافعي، عصام أبوالمعاطي، فوزي عبدالمجيد، عادل عبدالسلام، أحمد أبومايلة، محمد الصافي. أعاد المرممون التمثال إلى سيرته الأولى وإلى لونه الأخضر الناصع بعد ثمانية عشر شهرًا من العمل المتواصل، وبعد إعادة طلائه باثنين وعشرين طبقة من البرونز واثنتين وعشرين دفقة جديدة من دفقات الحياة.. وغادر ديفيد بورجوان بورسعيد ومعه سر الطلاء البرونزي، تاركًا تمثاله ينبض بالحياة مرة أخرى بعد أربعة وثلاثين عامًا من غيابه القسري، وواحد وتسعين عامًا على اعتلائه قاعدته في السابع عشر من نوفمبر في العام 1899.

          في الذكرى الثلاثين لافتتاح القناة.. وخرج التمثال من أيدي مُرمميه إلى منفاه الحالي مُجاورًا لبعض مُخلفات الشركة ومُحاطًا ببعض الشجيرات الخضراء حوله وخلفه.. يقف التمثال عاريًا من مجده الغابر، مثله مثل الفنار القديم الذي يقابله مباشرة على الجانب الآخر من القناة، فلم يعد تمثال دي ليسبس أول مشهد تراه السفن العابرة في استقبالها، ولم تعد الأضواء تنبعث من الفنار بعد أن حاصرته الأبراج السكنية، وتم استبداله بفنار آخر غرب المدينة، الاثنان صورة تليدة لمدينة قديمة، لم يبق منها إلا ظلها البعيد..

          يرى التمثال من منفاه الحالي مكان قاعدته عند مدخل القناة، لكنه لا يجرؤ على العودة إليها بعد أن تباينت آراء أبناء المدينة في أمر عودته، فهو مستعمر غاشم في عين نصفها وجزء من التاريخ في عين نصفها الآخر.. لم يكن التمثال آخر ما تبقى من سيرة المغامر والدبلوماسي الفرنسي فردينان دي ليسبس في بورسعيد، فهناك وعلى بعد أمتار قليلة من مجرى القناة، وتحديدًا في 23 شارع عبدالسلام عارف، وجدنا فيلا رائعة مؤسسة على الطرز الأوربي، ومُحاصرة بالأبراج والأبنية السكنية من حولها، شاع عنها بين غالبية أبناء المدينة أنها بيت دي ليسبس أو مقره في بورسعيد.. على باب الفيلا العتيق شاهدنا يافطتين؛ الأقدم منهما تحمل اسم: لويس طورباي، والأحدث: مشيل شفيق ميخائيل، بينما يبدو اسم آخر مكتوبًا على جدران الفيلا villa vernande - مكتوبًا بحروف منمقة، تراها العين كخبيئة تاريخية لم تفقد بعد جلالها الأول.. بالسؤال تيقنا أن الفيلا لم تكن في يوم من أيامها تخص فردينان دي ليسبس، بل لم تكن حتى مكانًا وصلت إليه قدماه، وأنها مجرد فيلا رائعة بناها مهندس فرنسي من العاملين بشركة القنال القديمة في العشرينيات من القرن الفائت وأهداها إلى زوجته وحبيبته فرناند.. الفيلا مؤسسة على طراز «فيينا الحديثة» وصممها مهندس إيطالي يدعى «نوتي» على شاكلة قصر في فيينا، وانتقلت ملكية الفيلا إلى أشخاص عدة حتى دانت أخيرًا إلى عائلة حفيلة ببورسعيد، ولم يكن بالفيلا حين دخولنا إليها إلا بعض العمال التابعين للمالك والساكنين للعقار لأجل حراسته.. الأمر لم يكن سوى ربط بين اسمين متشابهين وولع بمكان رائع، لم يتخيل أبناء المدينة مالكًا له إلا دي ليسبس.. وظل مكان إقامة دي ليسبس في بورسعيد لغزًا مُحيرًا لنا، حتى عثرنا عليه في كتاب «مدن القنال» للمؤرخ اليوناني جورج سلطناكي الذي ألفه في العام 1922 وأشار فيه إلى أن دي ليسبس كان يسكن في مكان بالقرب من البيت الحديد وتحديدًا في المكان الذي تشغله حديقة البيت، ولم نعثر على أي أثر أو حتى صور فوتوغرافية قديمة تخص بيت دي ليسبس.. (والبيت الحديد هو أحد أشهر مباني بورسعيد طوال تاريخها، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق ويقع في تقاطع شارعي السلطان عثمان (الجمهورية حاليًا) وشارع أوجيني، واسم البيت الأصلي Eastern Exchang Hotel، وسبب تسميته بالبيت الحديد عائد إلى بنائه بالكمرات والأعمدة الحديدية في العام 1884.. واحتلت القوات البريطانية البيت الحديد أثناء الحرب العالمية الأولى وأقامت على أسطحه مدافع مضادة للطائرات لصد غارات القوات الألمانية على المدينة، وذلك قبل أن يتحول البيت إلى فندق على يد مسيو سيميونيني رائد أعمال الفندقة ببورسعيد.. وأُزيل البيت منذ فترة طويلة، وأعيد بناؤه على الشكل والطراز القديم نفسه، لكن زال عنه تفرده القديم).. وعلى مقهى «الواحة» بالقرب من منطقة الملاحة في بورفؤاد، عاد إلينا دي ليسبس ليجلس معنا ويشاركنا الحديث، وجدناه أمامنا وجهًا إلى وجه يحتل أهم بقع الضوء في المقهى، ويسكن في منتصفه تمامًا، ويسطع بتمثاله الرمزي أمام مرتادي المكان، رأينا تمثالًا كاملًا لصاحب مشروع قناة السويس، ومدون أسفله: «تجاوزاتك تاريخ حسناتك في جيوبنا»، في إشارة موحية إلى احترام الدور الذي قام به دي ليسبس.. التمثال من تشكيل ونحت الفنان محمد الشبيني، وهو في الوقت ذاته صاحب المقهى، وقضى عمره متنقلًا بين دول أوربا خاصة السويد، وعاد منذ سنوات قليلة إلى مسقط رأسه وأدركته المنية أخيرًا، وكان يحمل في قلبه عشقًا خاصًا للمغامر الفرنسي ولأسرة محمد علي التي ملأت بصورها جدران المقهى.. ولم يغب دي ليسبس كذلك عن الجمعية اليونانية ببورسعيد، وتجلى أمامنا في بورتريه خاص ورائع يتوسط قاعة الجمعية الرئيسية، فصاحب حلم حفر قناة السويس هو من أهدى الجالية اليونانية أرضًا خالية في شارع التجارة بالعام 1866 لتكون كنيسة وجمعية لهم قبل أن ينتقلوا بعد ذلك إلى شارع سعد زغلول منذ العام 1894 ويبنوا كنيسة وجمعية تتناسبان مع أعدادهم المتزايدة باطراد.. بعد العام 1956 تضاءلت أعداد اليونانيين بشدة، ولم يبق منهم حاليًا إلا عجائز يرون في بورسعيد مجرد ماض بعيد لمدينة كانت يومًا متعددة الثقافات وينقبون في شوارعها عن براءة طفولتهم ويحفظون جميل دي ليسبس المنشئ الأول للمدينة.. لم يكن ينقصنا سوى تنسُّم رائحة دي ليسبس نفسه. هاتفت الأستاذ طارق حسنين، رئيس قسم الصحافة والإعلام بهيئة قناة السويس وجاءني صوته من مكتبه الكائن بمبنى الإرشاد في الإسماعيلية، جاءني صوته مُرحبًا بزيارتي إلى شاليه دي ليسبس.. قطعت مع زميلي المصور وليد منتصر سبعة وسبعين كليومترًا بين بورسعيد والإسماعيلية، كي نستحضر دي ليسبس من غيابه الطويل ليمثل أمامنا.. في الزيارة فُوجئنا بالمضيف غارقًا مثلنا في خبايا التاريخ وباحثًا شغوفًا بكل ما يتعلق بقناة السويس..

          ذهب ثلاثتنا إلى الشاليه الخاص بصاحب أهم عملية جراحية في جغرافية التاريخ الحديث، ووجدنا على باب غرفة دي ليسبس الأستاذ عادل الصولي، المسئول عن شاليهات واستراحات الهيئة.. حدثني الصولي عن عشرين عامًا قضاها في جوار دي ليسبس وحدثني عن شخصيات عديدة قطعت آلاف الأميال لأجل ملامسة سر الزمن القابع في الغرفة التي تقبع خلفه.. بمجرد أن تطأ قدماك غرفة دي ليسبس، تتسرب إليك أنفاس من دخلوا قبلك عبر مائة وخمسين عامًا كاملة، فتاريخ بناء الشاليه يعود إلى العام 1862، وجرت له تغييرات عديدة، ولم يبق منه للتاريخ إلا تلك الغرفة الصغيرة.. في الغرفة تجد سريرًا معدنيًا صغيرًا لا يتسع إلا لمحارب يقضي ساعات قليلة بعيدًا عن معركته التي جاء من أجلها، لا لصاحب مشروع بحجم قناة السويس.. أعلى السرير ستائر مهترئة يكسوها لون التراب أو بمعنى آخر لون الزمن ومثلها الستائر التي تعلو الجدران وتعلو نافذة الشرفة المواجهة للسرير ومثلها أيضًا ورق الحائط النادر الذي يكسو جدران الغرفة وتتناثر من ثناياه رائحة السنوات الآفلة.. أسفل السرير «طشت» لا يتميز في نوعيته عما يستخدمه الفلاحون المصريون.. أمام السرير مكتب دي ليسبس البني العتيق تتوسطه لوحة رائعة للإمبراطورة أوجيني، مكان الصورة يوحي بعلاقة خاصة تربط المغامر بالإمبراطورة الحسناء التي وقع في غرامها العشرات من الرجال، وأُشيع أن دي ليسبس تقدم لخطبتها قبل أن تتزوج بالإمبراطور نابليون الثالث إمبراطور فرنسا، وأنهت حياتها مريضة ووحيدة لا يعرفها أحد بعد زوال مُلكها ومجدها.. تتوزع في الغرفة صور وبورتريهات أخرى: دي ليسبس مع زوجته وصديقه وينجرييلي، دي ليسبس مع أصدقائه في ردائه العربي النادر، دي ليسبس كهلًا وناضجًا، مجموعة من أفراد الأسرة العلوية المصرية، العقد الأصلي لامتياز قناة السويس، دعوة من دي ليسبس لأحد أصدقائه لحضور احتفال حفل افتتاح القناة.

          في دولاب دي ليسبس الخشبي البني اللون والمكون من رفين لمحت أعيننا: «شطرنج، كوتشينة، أطقم شاي، فلاتر مياه، قواقع بحرية، عدة حلاقة بسيطة جدًا». لم تكن غرفة دي ليسبس إلا مكانًا لإقامة تفاصيل التاريخ الصغيرة، التي اكتملت لدينا بالتجول في رحاب حديقة الشاليه وغرف استقباله لنرى عن قرب: قاعدة خالية لتمثال دي ليسبس النصفي، عربته الخشبية الخاصة، مقياس درجة الحرارة المائي والذي مازال يعمل حتى الآن.. وأثناء مغادرتي شاليه دي ليسبس، تذكرت فقط أن دي ليسبس وحلمه - قناة السويس - مثلهما مثل «عصفور النار» يتجددان من العدم ويحضران من الغياب.

          دي ليسبس آخر عصافير النار في حلم حفر قناة السويس بعد الفراعنة والفرس والإغريق والبطالسة والرومان والعرب، وبعد زملائه الفرنسيين: جاك ماري لوبير، بولان تالبوت، لينان دي بلفون، أتباع السان سيمونيين.. دي ليسبس عصفور من النار، يراه البعض عصفورًا مُحلقًا في سماء حلمه، ويراه الآخرون نارًا تحرق من حولها.. وهكذا دائمًا نرى صانعي التاريخ.
-----------------------------------
* كاتب من مصر.
** مصور من مصر.

 

أسامة كمال*
  




فيلا دليسبس في الإسماعيلية والمبنى الإداري الملحق بها









ترمومتر حراري أمام شرفة دليسبس





حديقة فيلا دليسبس في الإسماعيلية





حجرة دليسبس ومكتبه





تمثال دليسبس يطل على المدخل الشمالي لقناة السويس ببورسعيد وتمت إزاحة الستار عنه عام 1899 احتفالا بمرور ثلاثين عاما على افتتاح القناة





امتياز حفر قناة السويس





صورة قديمة لدليسبس في شبابه





الأستاذ طارق حسنين مدير العلاقات العامة في هيئة قناة السويس يستعرض بعض مقتنيات دليسبس





الكارتة الخاصة بدليسبس في حديقة الفيلا





تمثال دليسبس وحاجز الأمواج حيث كانا من أشهر معالم المدينة





قام صاحب مقهى فى مدينة بورفؤاد بنحت نموذج مصغر لتمثال دليسبس وكتب تحته عبارة: تجاوزاتك تاريخ وحسناتك في جيوبنا





فيلا فردينان ببورسعيد ذات الطراز المعماري الفريد والتي ظن كثير من أبناء المدينة أنها كانت سكنا لدليسبس والحقيقة أنه مجرد تشابه أسماء