التراث اليوناني والحضارة العربية الإسلامية

التراث اليوناني والحضارة العربية الإسلامية
        

          من الحقائق الثابتة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية أن التراث اليوناني شكّل عنصراً رئيسياً من عناصر تكوينها؛ ولم يتمثل ذلك في وفرة العلوم والمعارف التي أفاد منها العرب من هذا التراث فحسب، وإنما تمثَّل أيضاً في اتخاذ المثقفين العرب والمسلمين قواعد منطق أرسطو دليلاً أو منهجاً لتنسيق مختلف العمليات الفكرية وخدمة العلوم بغية الوصول إلى الحقيقة. ومن هنا جاء هذا المقال ليلقي نظرة علمية على مكانة التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ويبيّن متى وكيف اتصل العرب بهذا التراث؟ ومن هم رعاته؟ ومن هم نقلته إلى العربية؟ وما أهم الكتب التي ترجمت من اليونانية إلى العربية؟ وما مدى تأثير هذا التراث في الفكر العربي والإسلامي؟

  • وصلت الثقافة اليونانية إلى العرب عن طريق العلماء الهنود، الذين برعوا بصفة خاصة في الرياضيات والفلك والطب، والتي اعتمدوا في معظمها على التراث اليوناني
  • ترجم العرب ما كتبه اليونانيون في ميدان الفلك والجغرافيا، وذلك لمعرفة مواقيت الصلاة والأعياد ومعرفة الطالع. وقد حظي المنجمون وعلماء الفلك بمكانة كبيرة في البلاط العباسي
  • ويقول ابن أبي أصيبعة إن الفارابي فاق جميع المسلمين في صناعة المنطق «فشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وعرف طرق استعمالها»

          وصلت الثقافة اليونانية إلى الشرق مع فتوحات الإسكندر المقدوني (المتوفى عام 323 ق.م)، التي امتدت من ليبيا غرباً إلى الهند شرقاً. وقد عمل الإسكندر على نشر الثقافة اليونانية ومزجها مع ثقافات شعوب المناطق التي فتحها. وظلت هذه الثقافة في هذه المناطق بعد انسحاب جيوش الإسكندر منها.) ويهمنا أن نؤكد أن معظم البلاد التي فتحها الإسكندر غدت، بعد الفتوحات العربية، داخل حدود الدولة العربية الإسلامية، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تصل الثقافة اليونانية إلى العرب والمسلمين من خلال عدة مدن كانت لاتزال حتى ذلك الوقت مراكز أساسية للثقافة اليونانية، منها:

          1 - الإسكندرية: كان قد أسسها الإسكندر المقدوني، وظهرت فيها مدرسة فلسفية مستمدة من آراء أفلاطون (ت347 ق.م) وأرسطو (ت322 ق.م). وبعد أن انتشرت فيها المسيحية سارت جنباً إلى جنب الفلسفة، حيث استخدم المسيحيون الفلسفة والمنطق اليونانيين، لحل المنازعات بين مذاهبهم. وعند الفتح العربي لهذه المدينة كانت قد اشتهرت بالطب والكيمياء والعلوم الطبيعية.

          2 - مدن السريان-النساطرة: مثل نصيبين والرها وغيرهما من مدن شمال الجزيرة السورية، حيث ظهرت فيها مدارس على النمط الإسكندري، أي المزج بين الفلسفة اليونانية والمسيحية. وقامت فيها حركة ترجمة مهمة من اليونانية إلى السريانية قبل الإسلام. وعند الفتح العربي لهذه المدن كانت قد اشتهرت فيها دراسات الفلسفة والمنطق، وسيلعب العلماء النساطرة فيها دوراً علمياً مهماً في العصر العباسي، سواء في قيادة حركة الترجمة من السريانية واليونانية إلى العربية أو المشاركة بفعالية في النهضة العلمية آنذاك.

          3 - حران: كانت هذه المدينة مركزاً للثقافة اليونانية، وظل أهلها الصابئة يرفضون اعتناق المسيحية والإسلام، وبرز منهم عدد من العلماء والفلاسفة الذين لعبوا دوراً كبيراً في حركة الترجمة من السريانية واليونانية إلى العربية في العصر العباسي أمثال ثابت بن قرة وأولاده.

          4 - جنديسابور: وهي مدينة أسسها الملك الفارسي سابور الأول (ت 272م) في جنوب غربي إيران، لتكون معسكراً لأسرى الروم. ثم لجأ إليها عدد من الفلاسفة اليونانيين بعد أن أغلق الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني (ت 565م) مدرسة الفلسفة في أثينا عام 529م. كما هاجر إليها الكثير من العلماء النساطرة نتيجة الاضطهاد الديني الذي تعرضوا له في ظل الدولة البيزنطية التي تعتنق المسيحية على المذهب الملكاني. وسرعان ما اشتهرت جنديسابور بمدرستها الطبية والمشفى الملحق بها. وكان التعليم فيها يقوم على أكتاف العلماء اليونانيين والنساطرة. واللغة المستخدمة فيها كانت اليونانية والسريانية. وبعد الفتح العربي استمرت هذه المدينة بالازدهار العلمي، وفي العصر العباسي انتقل علماؤها النساطرة تدريجياً إلى بغداد وأفل نجمها، ومن هؤلاء العلماء آل بختيشوع، الذين توارثوا خدمة الخلفاء العباسيين منذ عهد أبي جعفر المنصور.

          5 - الهند: كما وصلت الثقافة اليونانية إلى العرب عن طريق العلماء الهنود، الذين برعوا بصفة خاصة في الرياضيات والفلك والطب، والتي اعتمدوا في معظمها على التراث اليوناني. وقد هاجر عدد من هؤلاء العلماء الهنود إلى بغداد وهم يحملون معهم الثقافة اليونانية إلى جانب ثقافة بلادهم، وشاركوا في الكثير من ميادين الثقافة العربية آنذاك.

بدايات الترجمة إلى العربية

          يجمع المؤرخون على أن الترجمة من اليونانية إلى العربية بدأت في العصر الأموي على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (ت 85 هـ). فقد كان هذا الأمير مرشحا لتولي الخلافة بعد أخيه معاوية الثاني، إلا أن مروان بن الحكم (ت 65 هـ) نجح في انتزاعها له ولأولاده من بعده، وبالتالي تحطم حلم خالد في ميدان السياسة وعمل على التعويض عنه بتحقيق المجد في الميدان العلمي، ولاسيما أنه قد امتلك الطموح العلمي والثروة المادية. فقد كانت أهم النظريات الرائجة في ميدان الكيمياء (علم الصنعة) آنذاك، والموروثة عن اليونان والرومان، أن المعادن الرخيصة، مثل النحاس والرصاص والقصدير يمكن أن تتحول إلى ذهب وفضة بواسطة مادة كيميائية غامضة؛ ولهذا استقدم خالد من الإسكندرية أحد العلماء، اسمه «مريانوس»، ليعلمه الكيمياء، وبعد أن أتقنها أمر بترجمة ما كتب باليونانية والقبطية في الكيمياء إلى العربية، فقام بهذا العمل عالم اسمه «اصطفان». وهذه هي أول عملية ترجمة من لغة إلى اللغة العربية. ورغم أن خالد فشل في تحويل تلك المعادن إلى ذهب إلا أنه حقق بعض الاكتشافات في هذا الميدان، كما تشير المصادر إلى أن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز (ت 101 هـ) أمر بنقل بعض كتب الطب من اليونانية إلى العربية. ومهما يكن من أمر فإن حركة الترجمة في هذا العصر، على تواضعها، كانت مقدمة لحركة الترجمة الكبرى التي شهدها العصر العباسي.

الترجمة في العصر العباسي

          كانت ترجمة التراث اليوناني إلى العربية، حدثاً ثقافياً كبيراً، لما ترتب عليها من نتائج بالغة الأهمية، فما العوامل التي ساعدت على ازدهارها في العصر العباسي؟

          1- دعم المجتمع العباسي لحركة الترجمة، إذ لم يقتصر هذا الدعم على الخلفاء العباسيين فحسب وإنما امتد إلى الوزراء والعلماء، ففي مقدمة الخلفاء الذين قاموا برعاية الترجمة يأتي أبو جعفر المنصور (ت 158 هـ) الذي كلّف طبيبه جورجيس بن بختيشوع بترجمة بعض كتب الطب من اليونانية إلى العربية؛ ومن ثم الخليفة المهدي (ت 169 هـ) الذي تُرجم له بعض كتب المنطق، ثم الرشيد (ت 193 هـ) الذي تُرجم له بعض كتب الطب، ثم المأمون (ت 218 هـ) الذي بلغت الترجمة في عهده ذروتها لما كان يتمتع به هذا الخليفة من شغف بعلوم الأوائل (أي علوم اليونان). ومن الوزراء الذين كانوا من رعاة حركة الترجمة نذكر الوزراء البرامكة، والوزير الزيات (ت235هـ) الذي كان ينفق على النساخين والمترجمين ما يقرب من ألف دينار شهرياً. ومن العلماء نذكر أولاد موسى بن شاكر: محمد وأحمد والحسن، الذين كانوا ينفقون على الترجمة نحو خمسمائة دينار شهرياً.

          2 - إن الازدهار الاقتصادي الذي عاشت في ظله الدولة العباسية شكّل سنداً قوياً لحركة الترجمة، حيث تمكنت من الإنفاق بسخاء للحصول على الكتب اليونانية ومكافأة المترجمين.

          3 - إن بناء المؤسسات التي تخدم حركة الترجمة كان عاملاً مهماً في ازدهارها، حيث بنى الرشيد نواة بيت الحكمة في بغداد وقام المأمون باستكماله حتى غدا مركزاً مهماً للترجمة والنسخ، فضلا عن مكتبة للمطالعة، كما أن تأسيس أول معمل للورق في بغداد في عهد الرشيد شكل ثورة في عالم الثقافة، حيث أصبح الحصول على الكتاب أمراً ميسوراً.

          4 - إن التسامح الديني الذي ساد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع العباسي شكّل دافعاً قوياً لمساهمة غير المسلمين في الحركة العلمية النشطة التي غمرت المجتمع العباسي ولا سيما حركة الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية، ولهذا لعب مثقفو مصر وبلاد الشام والعراق وبلاد فارس، من نساطرة ويعاقبة وصابئة وغيرهم، دوراً رائعاً في هذه الحركة.

أهم المترجمين

          لقد اهتم المؤرخون العرب والمسلمون بذكر أسماء المترجمين وتصنيفهم وفقاً لجودة ترجماتهم، وبخاصة ابن النديم صاحب كتاب «الفهرست» وابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء». وسنكتفي بذكر بعض أهم هؤلاء:

          1 - حنين بن إسحق (ت260هـ) وهو من نساطرة الحيرة، وكان يتقن أربع لغات، هي: السريانية واليونانية والعربية والفارسية، وكان يترجم من اليونانية والسريانية إلى العربية. وكان المأمون يعطيه وزن ما يترجمه ذهباً. ترجم حنين وتلاميذه زبدة المؤلفات اليونانية، وتناولها بالشرح والاختصار، وتولى رئاسة بيت الحكمة في عهد الخليفة المتوكل (ت 248 هـ).

          2- ثابت بن قرة (ت288هـ) وهو من صابئة حران، وانتقل إلى بغداد بصحبة محمد بن موسى بن شاكر، الذي أوصله بالخليفة المعتضد (ت 289 هـ) فأدخله في جملة منجميه. ولم يكن أحد في أيام ثابت يماثله في الترجمة وصناعة الطب.

          3 - قسطا بن لوقا البعلبكي (ت288هـ) وهو من المسيحيين الملكانيين، ولد في بعلبك، وكان يتقن السريانية واليونانية والعربية.

          4 - إسحق بن حنين (ت298هـ)، وكان في مستوى أبيه في الترجمة من اليونانية والسريانية إلى العربية، وساعد والده في بيت الحكمة، وترجم وصحح أكثر من نصف مؤلفات أرسطو.

          5 - وهناك عدد كبير آخر من المسيحيين الذين ذاع صيتهم في الترجمة، نذكر منهم على سبيل المثال: حبيش الأعسم (ابن أخت حنين بن إسحق) والحجاج بن مطر وعبدالمسيح بن ناعمة الحمص ومتى بن يونس ويحيى بن عدي وغيرهم. وكان هؤلاء المترجمون يتمتعون بكفاءة علمية كبيرة، ولم يقتصر عملهم على الترجمة فحسب وإنما وضعوا شروحاً وملخصات لتسهيل فهم ما يترجمونه للقراء العرب والمسلمين، هذا فضلاً عن أن هؤلاء المترجمين قاموا كما سنرى- بتأليف كتب ذات قيمة علمية تضاهي أحيانا المستوى العلمي لما يترجم من اليونانية.

دوافع الترجمة في العصر العباسي

          رغم تباين آراء الباحثين حول دوافع ترجمة التراث اليوناني إلى العربية، إلا أنهم أجمعوا على عدة دوافع نذكر منها:

          1 - دوافع علمية: وهي رغبة رعاة الترجمة في العصر العباسي، من خلفاء ووزراء وعلماء، في الاطلاع على الثقافات القديمة والإفادة منها، ولا سيما أن الإسلام وقف منها موقفاً إيجابياً بغض النظر عن عقائد أصحابها. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها ممن سمعها ولا يبالي في أي وعاء خرجت». ومن ناحية أخرى فقد وجد العرب في علوم اليونان إنتاجاً عقلياً متميزاً، ولابد من استيعابه للانتقال إلى مرحلة التجديد والإبداع.

          2 - دوافع دينية: وهي الرغبة في استخدام الفلسفة والمنطق اليونانيين للدفاع عن الإسلام، بطريقة عقلانية، في المناقشات التي كانت تدور بينهم وبين المثقفين اليهود والمسيحيين والمانويين وغيرهم، خاصة أن هؤلاء كانوا يحسنون استخدام المنطق الأرسطي في حوارهم مع المسلمين، وبالتالي كانت الحاجة ماسة إلى دليل بالعربية يكون بأيدي المثقفين يعلمهم قوانين المناظرات وقواعد الحوار، ولهذا كان لابد من ترجمة كتب الفلسفة والمنطق اليونانيين إلى العربية.

          3 - دوافع اجتماعية: وهي الرغبة في تلبية حاجات المجتمع وتنظيم شئونه، فكل العلوم اليونانية التي تُرجمت إلى العربية تخدم جانبا من جوانب المجتمع العربي، والمثال على ذلك: (أ) الطب: ترجم العرب معظم مؤلفات عمالقة الطب اليوناني، أمثال أبقراط (القرن الخامس ق.م) وجالينوس (ت 199 م)، وذلك للإفادة منها في حماية الصحة ومعالجة الأمراض. (ب) الهندسة والحساب: ترجم العرب معظم المؤلفات اليونانية في هذه الميادين، مثل مؤلفات إقليدس (ولد عام 330 ق.م) وأبلونيوس (ت 190 ق.م) وغيرهما، وذلك لحاجتهم إليها في مسح الأراضي وأعمال الري وحل مشكلات الإرث وحسابات بيت المال والخراج.. إلخ. (جـ) الكيمياء: ترجم العرب ما كتبه اليونانيون في ميدان الكيمياء منذ أيام خالد بن يزيد (كما أشرنا)، وكذلك اهتم الخليفة أبو جعفر المنصور بالكيمياء رغبة منه في الحصول على الذهب والفضة، هذا بالإضافة إلى فوائد الكيمياء الأخرى التي تخدم حاجات المجتمع. (د) الفلك والجغرافيا: ترجم العرب ما كتبه اليونانيون في ميدان الفلك والجغرافيا، وذلك لمعرفة مواقيت الصلاة والأعياد ومعرفة الطالع. وقد حظي المنجمون وعلماء الفلك بمكانة كبيرة في البلاط العباسي، وهذا يفسر لنا أسباب ترجمة كتب بطليموس (ت 170 م) المتعلقة بالجغرافيا والفلك إلى العربية أكثر من مرة.

          4 - دوافع نفسية: ينقل بعض المؤرخين، أمثال ابن النديم وابن أبي أصيبعة رواية مفادها أن الخليفة المأمون رأى في منامه الفيلسوف اليوناني أرسطو، وسأله: «ما الحُسْن؟ فقال أرسطو: ما حَسُن في العقل، قلت ثم ماذا؟ قال: ما حَسُن في الشرع، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: لا ثم». ويؤكد هذان المؤرخان أن هذا الحلم كان وراء حركة ترجمة التراث اليوناني إلى العربية. ولكن التحليل العلمي لهذا الحلم يدل على مدى احترام المأمون لأرسطو، ورغبته في نشر المنهج العقلاني في الأوساط الثقافية، هذا فضلاً عن رغبة الخليفة في دعم موقفه المؤيد للمعتزلة الذي يشكل العقل جوهر فكرهم ومقياس أحكامهم. ويهمنا أن نؤكد أن هذا الحلم قد تُرجم على أرض الواقع، حيث أجرى الخليفة اتصالاته مع إمبراطور الروم وجلب أحمالا من الكتب اليونانية من بلاد الروم إلى بيت الحكمة في بغداد، وأحضر أمهر المترجمين لنقلها إلى العربية.

أهم كتب التراث اليوناني التي ترجمت إلى العربية

          لقد ترجم إلى العربية معظم التراث اليوناني الذي وجد فيه المثقفون العرب والمسلمون قيمة علمية كبيرة ويلبي حاجتهم، وسنكتفي بذكر أمثلة عما ترجم، أولاً: في ميدان الفلسفة: تُرجمت بعض مؤلفات أفلاطون مثل كتابيه «السياسة» و«النواميس» وقد ترجمهما حنين بن إسحق. كما ترجمت محاوراته السبع. وتجدر الإشارة إلى أن ما وصلنا من تراث أفلاطون أقل مما وصلنا من تراث أرسطو، وربما يعود ذلك إلى اكتساح أرسطو وفلسفته الميدان الثقافي العربي الإسلامي آنذاك. كما تُرجمت إلى العربية مؤلفات أرسطو وقد وصلت إلينا هذه الترجمات جميعها باستثناء كتاب «الكون والفساد» والمقالتين الأخيرتين من كتابه «ما بعد الطبيعة». ومن كتب أرسطو التي ترجمت إلى العربية نذكر كتاب «المقولات» ترجمة حنين بن إسحق و«البرهان» ترجمة متى بن يونس و«الجدل» ترجمة يحيى بن عدي و«الخطابة» ترجمة إسحق بن حنين. ثانياً: في ميدان الهندسة: ترجم العرب مؤلفات إقليدس مثل كتابه «أصول الهندسة» الذي ترجمه الحجاج بن مطر مرتين، الأولى أيام الرشيد وعرفت بالهارونية، والثانية أيام المأمون وعرفت بالمأمونية. كما ترجمه إسحق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة. كما ترجمت مؤلفات أبلونيوس مثل كتابه «المخروطات» الذي ترجمه هلال الحمصي وثابت بن قرة ومؤلفات أرخميدس (ت 211 ق.م) مثل كتابه «المخروطات» الذي ترجمه ثابت بن قرة. ثالثاً: في ميدان الطب: ترجمت معظم مؤلفات أبقراط الملقب «أبوالطب» مع شروحها، مثل كتابه «الأمراض الحادة» وكتاب «الأخلاط» و«الكسر» وغيرها. وممن ترجم مؤلفاته نذكر: حنين بن إسحق وحبيش الأعسم. كما ترجمت مؤلفات جالينوس، الذي حظي بمكانة كبيرة عند العرب بسبب كثرة مؤلفاته وتنوعها، ويقول حنين بن إسحق إن ما ترجم من كتب جالينوس بلغ نحو مائة كتاب، وترجم حنين وحده منها نحو أربعة وثلاثين كتاباً، في حين ترجم البقية ابنه إسحق وابن أخته حبيش وغيرهما. ومن كتب جالينوس التي ترجمت إلى العربية نذكر كتاب «التشريح الكبير» و«الأدوية المفردة» و«المولود لسبعة أشهر». رابعاً: في ميدان الجغرافيا والفلك: ترجمت معظم مؤلفات الجغرافي بطليموس المتعلقة بالجغرافيا والفلك والتنجيم. مثل كتابه «المجسطي» الذي ترجمه إسحق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة، ويبدو أنه كان قد تُرجم أيضا أيام الرشيد.

          وتجدر الإشارة إلى أنه لم يُترجم إلى العربية ما كتبه اليونانيون في ميدان الأدب والشعر، وربما يعود ذلك لأسباب عدة منها:

          1 - أن الأدب اليوناني اشتمل على أساطير وخرافات تتمثل في صراع الآلهة وهذا لم يتقبله عقل العربي.

          2 - أن الأدب عموماً، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بذوق الشعوب، والذوق العربي ينفر من تلفيق الروايات ويأنف من سماع القصص المختلقة.

          3 - ربما شعر العرب بالاكتفاء الذاتي في ميدان الشعر والأدب مما صرفهم عن ترجمة كتب الشعر والأدب.

          4 - أن العرب لم يتأثروا بالشعراء والمؤرخين اليونان لأنه عندما ورث العرب ثقافة اليونان كان الفكر اليوناني منصرفاً إلى العلم، وكانت الإسكندرية التي حلّت محل أثينة- قد اصطبغت بالنزعة العلمية، ولهذا تأثر العرب بالفلاسفة والأطباء والفلكيين وليس بالأدباء والشعراء.

سمات الترجمة في العصر العباسي

          إذا دققنا في طبيعة حركة الترجمة في العصر العباسي ومضمونها يمكن أن نتلمس سمات عامة تختلف اختلافاً كلياً عن تلك التي جرت في العصر الأموي، ومنها:

          1 - لقد سارت الترجمة في العصر العباسي وفقا لخطة مدروسة في حين كانت في العصر الأموي عفوية أو عشوائية.

          2 - أصبحت الترجمة في العصر العباسي سياسة للدولة في حين كانت في العصر الأموي بدوافع فردية أو شخصية.

          3 - شملت الترجمة في العصر العباسي معظم التراث اليوناني من فلسفة وطب وهندسة ورياضيات وعلوم وجغرافيا وفلك.. في حين اقتصرت الترجمة في العصر الأموي على الكيمياء.

          4 - تلقت حركة الترجمة في العصر العباسي دعماً مادياً ومعنوياً من الدولة وفئات عريضة من المجتمع العباسي، رسمية وغير رسمية، كما أشرنا، في حين لم تتلق هذا الدعم من الدولة الأموية، وإنما كل ما تم كان على نفقة من أمروا بها.

          5 - استمرت الترجمة في العصر العباسي نحو قرنين ونيف (من منتصف القرن الثاني حتى نهاية القرن الرابع الهجريين)، في حين كانت حركة الترجمة في أيام الأمويين سريعة الزوال.

الفلاسفة والتراث اليوناني

          إن رصد تأثير التراث اليوناني في الحضارة العربية الإسلامية موضوع لا يحتمله مقال كهذا، ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى أثر هذا التراث في إبداعات بعض الفلاسفة العرب والمسلمين، الذين بذلوا جهودا جبارة للحصول على كتب التراث اليوناني ودراستها واستيعابها والإفادة منها، لأنهم كانوا يدركون أن هذه الجهود تشكل المقدمة الطبيعية للانتقال إلى مرحلة العطاء والإبداع. ومن هؤلاء نذكر:

          1 - الكندي (ت 252 هـ)، وقد أُطلق عليه لقب «فيلسوف العرب» وجاءت مؤلفاته لتعالج الموضوعات نفسها التي تناولتها الفلسفة اليونانية. وكان الكندي يعلن دائما أنه تلميذ أرسطو. وقام بتلخيص وتفسير الكثير من المؤلفات اليونانية مثل كتابه «أغراض كتاب إقليدس» وكتاب «تقريب قول أرخميدس» و«الطب البقراطي» و«قصد أرسطو في المقولات» وغيرها.

          2 - الرازي (ت320 هـ)، تأثر الرازي تأثراً كبيراً بالتراث اليوناني لدرجة أنه لقب «جالينوس العرب». وتؤكد مؤلفاته هذه الحقيقة، مثل كتابه «اختصار النبض الكبير لجالينوس» و«الشكوك والمناقضات في كتب جالينوس» و«العلم الإلهي على رأي أفلاطون» وغيرها. 

          3 - الفارابي (ت 339 هـ)، درس الفارابي الفلسفة اليونانية في بغداد على يد العالم يوحنا بن حيلان، كما أخذ عنه صناعة المنطق. ويقول ابن أبي أصيبعة إن الفارابي فاق جميع المسلمين في صناعة المنطق «فشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها وعرف طرق استعمالها». وأصبح الفارابي أستاذا للفلاسفة يدرسون على يديه صناعة المنطق. ويقول ابن سينا إنه قرأ كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو أربعين مرة دون أن يفهم ما فيه حتى قرأ كتاب الفاربي في «أغراض ما بعد الطبيعة» فعندئذ انفتح عليه ما كان غامضاً. وسئل الفارابي: من أعلم أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه. وقد لُقب الفارابي بـ «المعلم الثاني»، لأن أرسطو كان قد لقب بـ «المعلم الأول». ومن مؤلفات الفارابي المتعلقة بالتراث اليوناني نذكر: كتاب «شرح كتاب المجسطي» كما شرح كتب أرسطو مثل كتاب «البرهان» و«الخطابة» و«القياس» وغيرها.

          4 - ابن سينا (ت 428 هـ)، درس ابن سينا كتب المنطق الأرسطي وكتب إقليدس وبطليموس وغيرها، بحيث لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره حتى استوعب كتب الفلسفة اليونانية بكل فروعها. ويقول أحد الباحثين «لقد صب ابن سينا التراث الطبي اليوناني ومعارف العرب الطبية في كتابه الضخم «القانون في الطب» وهذا الكتاب يُعد مفخرة التفكير العربي المنظم ونهاية ما وصل إليه من عبقرية». ولا يسعنا المجال للحديث عن أثر الفكر اليوناني في عدد آخر من الفلاسفة والعلماء المسلمين، أمثال: ابن الهيثم (ت 430 هـ) الذي لخص الكثير من كتب أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وأفاد منها. والبيروني (ت 442 هـ) الذي كانت ثقافته يونانية، وحذا في تأليف كتابه «القانون المسعودي» حذو كتاب «المجسطي» لبطليموس، وابن رشد (ت 595 هـ) الذي كان أعظم المتخصصين في فلسفة أرسطو في العصور الوسطى، حتى أن دانتي أطلق عليه في «الكوميديا الإلهية» لقب «الشارح الأكبر».

          وامتد تأثير الفكر اليوناني في ميادين أخرى في الثقافة العربية مثل اللغة العربية نفسها، فالكتاب المنسوب إلى سيبويه في النحو إنما نشأ تحت تأثير منطق أرسطو، حيث نجده وقد رُتّب ترتيبا منطقيا، يبدأ بتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف.. كما ظهر تأثير الفكر اليوناني في مؤلفات الجاحظ الذي كان مطلعاً عليه اطلاعاً واسعاً. وكان للبلاغة اليونانية أثر في علم البلاغة العربي.

          كما كان للفلسفة اليونانية تأثير في مضمون الشعر العربي فقد اشتملت قصائد العديد من الشعراء العرب على معانٍ فلسفية وحكمٍ مقتبسة من الفلسفة اليونانية أمثال: الشاعر صالح عبدالقدوس وأبي تمام والمتنبي والمعري وغيرهم. كما أسهم التراث اليوناني في التكوين العلمي للمترجمين أنفسهم، حيث ألفوا بالعربية بالإضافة إلى ما ترجموه- كتبا في الكثير من ميادين العلم والمعرفة، تحت تأثير الثقافة اليونانية، وهذه المؤلفات أطلق عليها أصحابها تواضعا اسم: مقدمات أو مختصرات أو رسائل.. وقد اشتمل بعضها على إبداعات ذات قيمة علمية كبيرة، كما أنها ساعدت القراء العرب على استيعاب الفكر اليوناني استيعاباً صحيحاً، والأمثلة على ذلك كثيرة منها:

          1 - ألف حنين بن إسحق كتباً كثيرة منها كتاب «الأغذية» و«عشر مقالات في العين».

          2 - ألف إسحق بن حنين كتاب «الأدوية المفردة» وغيره.

          3 - ألف قسطا بن لوقا كتاب «البلغم» و«المدخل إلى المنطق» وغيرهما.

          4 - ألف ثابت بن قرة كتاب «اختصار المنطق» و«اختصار ما بعد الطبيعة» وغيرهما.

الخاتمة

          وبناء على ما تقدم يمكن القول إن نقل التراث اليوناني إلى العربية شكّل منعطفاً كبيراً في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وقد تجلّت آثاره العميقة في ما أبدعه الفلاسفة والعلماء العرب والمسلمون في معظم ميادين العلم والمعرفة. كما شكل هذا التراث نفسه بعد أن تُرجم من العربية إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي- عنصراً أساسياً في بناء النهضة الأوربية الحديثة.
---------------------------------
* باحث وأكاديمي من سورية.

-----------------------------------------

أما والذي أعطاك بطشاً وقوة
                              وصبراً وأزرى بي ونقَّص من بطشي
لقد أمحض الله الهوى لي خالصاً
                              وركَّبه في القلب مني بلا غِش
تبرأ من كل الجسوم وحَلَّ بي
                              فَإنْ متُّ يَوْماً فَاطْلُبُوهُ على نَعْشِي
سلي الليل عني هل أذوقُ رقادَه
                              وهل لضلوعي مستقر على فرشي؟

قيس بن الملوح

 

عادل زيتون*