من المكتبة العربية: التيارات السياسية والفكرية في الخليج العربي (1971 - 2003)

 من المكتبة العربية: التيارات السياسية والفكرية في الخليج العربي (1971 - 2003)
        

عرض: آلاء عباس ياسر*

          من جديد يعود د. مفيد الزيدي ضمن مشروعه التاريخي والفكري عن التيارات السياسية والفكرية في الخليج العربي بعد أن صدر له عام 1998 ضمن سلسلة دراسات إستراتيجية بدايات النهضة الثقافية في منطقة الخليج العربي في النصف الأول من القرن العشرين في أبوظبي، ثم تبعه كتابه المهم «التيارات الفكرية في الخليج العربي 1938 - 1971»، والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت العام 2000 ثم طبعته الثانية العام 2004 والذي اعتبر عملاً جديداً في ثنايا الفكر العربي المعاصر، حيث لم يتناول كتاب من قبل منطقة الخليج العربي بهذا التخصيص المكاني، ويشمل مختلف القوى والتيارات والشخصيات الفكرية في المنطقة والذي لقي الكثير من الأصداء في الأدبيات العربية في الساحة الخليجية.

          وأكد الدكتور الزيدي أن دول الخليج العربي الست، المملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين وسلطنة عُمان، تجمعها صفات وأواصر من التاريخ واللهجات والعلاقات الاجتماعية والبنى الثقافية متجانسة، وتعتمد النفط أساساً لها في اقتصادها وعوائدها المالية الهائلة وثروتها التي ألقت عليها تبعات جديدة، سياسياً وفكرياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ومازالت حتى الوقت الحاضر، لذلك فهي تستحق أن يكتب عنها كوحدة متكاملة في كتاب يجسد التيارات الفكرية فيها من ليبرالية وقومية وإسلامية وماركسية.

          من هنا يأتي الإصدار الجديد للدكتور الزيدي عن التيارات السياسية والفكرية في الخليج العربي 1971 - 2003 الصادر عن منتدى المعارف في بيروت العام 2012 ويقع في 447 صفحة، حيث يؤكد المؤلف في مقدمته على فكرة فلسفية تقول إن الإنسان مادام يعيش إذن هو يصنع الحياة ومن ثم الحضارة وجزء منها عملية الفكر سواء بروح عفوية من خلال إرهاصات الحياة أو بصورة عقلانية قوامها معالجة مشكلة تواجهه.

          يعالج الكتاب الجديد الفترة بين 1971 بداية الانسحاب البريطاني من منطقة الخليج العربي واستقلال بعض دولها وهي قطر والبحرين وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة والتغيير الذي حصل في سلطنة عمان ومجيء السلطان قابوس بن سعيد وعملية التحديث في البلاد. أما عام 2003 فهو الاحتلال الأمريكي للعراق وأثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تركزت ليست على العراق فحسب بل على دول الخليج العربي، واعتبر هذا التاريخ نقطة تحول في المنطقة بأسرها.

البنى السياسية الحاكمة والنظم الوراثية

          يتضمن الكتاب خمسة فصول، جاء الفصل الأول عن البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الخليج العربي من حيث دراسة البنى السياسية الحاكمة والنظم الوراثية ثم النفط والاقتصاد الريعي، وأثر الثروة النفطية على الدولة والمجتمع، ثم النخب والفئات الاجتماعية داخل بنية المجتمع الخليجي والأسر الحاكمة والنخب الاجتماعية داخل بنية المجتمع الخليجي ثم الهجرة الأجنبية الوافدة التي دخلت إلى المنطقة من أجل العمل وتحولت إلى عبء يثير قلق المراقبين وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية، بل حتى السياسية وخاصة العمالة الآسيوية. ثم تناول الدكتور الزيدي الثقافة والإعلام من الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون والأندية الثقافية والتعليم والجامعات حيث شهدت المنطقة تحولات كبيرة في هذه الفترة والتحول من التعليم الديني الكتاتيبي إلى التعليم المدني العلماني وظهور الكليات والجامعات الأهلية ومجيء المعلمين والأساتذة العرب والأجانب بمختلف التخصصات لتطوير التعليم فيها، ثم الأندية والتجمعات الثقافية التي نشطت مع النمو في الوعي السياسي والاجتماعي بمختلف اتجاهاتها.

          ثم انطلق الدكتور الزيدي لدراسة التيارات وأولها التيار الليبرالي في الخليج العربي من ظهور الشخصيات والتجمعات الليبرالية الخليجية التي تأثرت بشكل أو بآخر بالواقع العربي، ثم الديوانيات كجزء من البنية الاجتماعية وخاصة في الكويت وتحولها إلى فضاء للحرية كديمقراطية اجتماعية ثم قضية المرأة الخليجية كواحدة من أبرز مشكلات الليبراليين مع الحكومات الخليجية أو من التيارات الدينية والسلفية في تشددها في تقييد حرية المرأة وحرمانها من حقوقها. ثم عالج الدكتور الزيدي مجالس الشورى والانتخابات في دول الخليج العربي وما واجهت من نجاح أو فشل عبر مسيرتها خلال هذه العقود محط الدراسة مع التركيز على التجربة الغنية البرلمانية في الكويت وتطورها مع حالة المواجهة بين مجلس الأمة والحكومات الكويتية من حين لآخر، وأثرها في عملية الإخفاق لهذه التجربة، ثم أبرز التنظيمات الليبرالية في المنطقة واتجاهاتها وشخصياتها والمحاولات الإصلاحية التي برزت في ظل الضغوط والتغيرات المحلية والإقليمية التي دفعت نحو المطالبات بالإصلاح من قبل النخب الاجتماعية الخليجية، والتطرق إلى القضايا التي عالجها الليبراليون وهي الديمقراطية والمشاركة السياسية وقضية المرأة والإصلاح الاجتماعي ومشكلة البدون.

          وتطرق الدكتور الزيدي في الفصل الثالث إلى التيار القومي في الخليج العربي من حيث نشأة وتطور التيار القومي العربي وتغلغل الفكر القومي العربي في منطقة الخليج العربي، والعوامل التي أدت إلى تكوين هذا التيار من شخصيات وقوى فكرية وسياسية ثم أبرز القوى والتنظيمات القومية في الخليج العربي ثم حركة القوميين العرب والناصرية والقوى القومية الأخرى، وعالج المؤلف القضايا والاهتمامات لدى القوميين في المنطقة وهي القضية الفلسطينية والحرب العراقية - الإيرانية والحرب على العراق العام 1991 وتداعيات غزو الكويت والادعاءات الإيرانية بالبحرين والجزر العربية الثلاث وعروبة الخليج ثم المحاولات الوحدوية في الخليج العربي ثم الوجود الأجنبي في المنطقة.

          وتناول الدكتور الزيدي التيار الإسلامي في الخليج العربي من حيث تطور التيار الإسلامي في الوطن العربي، وظهور التيار الإسلامي في منطقة الخليج العربي، مع الحركات والتنظيمات الإسلامية فيها بمختلف اتجاهاتها ثم دور الإسلام في المملكة العربية السعودية، ثم أهم مطالب واهتمامات الإسلاميين من الشورى والدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية والديمقراطية وقضية المرأة ومواجهة الغزو الأجنبي والقضية الفلسطينية ونصرة الشعب الفلسطيني وغيرها.

          في الفصل الأخير تناول الدكتور الزيدي التيار الماركسي في الخليج العربي، ونشأة وتطور الماركسية العربية ثم تغلغل التيار الماركسي في الخليج العربي، وأبرز الشخصيات الفاعلة من الماركسيين بعد العام 1971 ومطالب هؤلاء الماركسيين في المنطقة مثل الاشتراكية والديمقراطية والإصلاح والقضية الفلسطينية والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والاستعمار والامبريالية وأزمة الكويت العام 1990 وانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية.

تكوينات جديدة بعد 1971

          يخلص المؤلف في مشروعه الفكري عن دول الخليج العربي إلى أن هذه الدول عاشت بعد العام 1971 بتكوينات جديدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، انعكست على واقع التيارات السياسية والفكرية في المنطقة في العقود الثلاثة التالية، بعد أن شهد النظام الإقليمي والدولي تحولات مهمة في انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية وبروز النظام الدولي الجديد وكلها تطورات أثرت بشكل أو بآخر في طبيعة التيارات السياسية والفكرية في الخليج العربي.

          يرى الدكتور الزيدي أن التيار الليبرالي تصاعدت فيه المواجهة مع الحكومات الخليجية بعد العام 1971 مع التطورات الإقليمية والدولية أخذت الأنظمة الخليجية تدرك أن الديمقراطية أو هامش الحريات يحفظ الاستقرار والأمن لها، وبعد أزمة الكويت العام 1990 لتأكيد هذه الأطروحة مع الضغوط الخارجية للتعجيل بالإصلاح والديمقراطية، فتم تقديم تنازلات لصالح الليبراليين. وظلت المطالبة بإقامة حياة برلمانية ديمقراطية تؤمن بها الأنظمة الحاكمة ودساتير شرعية تحقق مكاسب للشعوب ودعم النخب الاجتماعية والسياسية وتفعيل الحياة الديمقراطية والمشاركة في صنع القرار.

          أما القوميون فقد شهدوا تراجعاً بعد العام 1971 له آثاره بعد نكسة حزيران (يونيو) العام 1967 وخاصة القوميين العرب والناصرية ثم صعود التيار الإسلامي وانعكاسات ذلك على المجتمع الخليجي أمام تراجع التيار القومي في الواقع السياسي والفكري في المنطقة، واتجاه المجتمع نحو القبلية ما أدى إلى احتواء الفكر القومي وابتعاد أغلب شخصياته عن العمل الفكري بالاتجاه نحو المال والأعمال والتجارة والوكالات والأعمال الخيرية أو المناصب الحكومية. ثم تصاعد المد القومي بعد الحرب بين العراق وإيران ودعم القوميين للعراق في حربه مع تأييد ودعم من أغلب الحكومات الخليجية للعراق أيضاً. إلا أن الموقف تراجع بعد الغزو العراقي للكويت، حيث انقلب القوميون الخليجيون ليقفوا مع الشرعية الحاكمة في الكويت، ما أدى إلى تراجع الفكر القومي بشكل ملحوظ بعد هذه الأزمة.

          أما التيار الإسلامي فيرى الزيدي أن حضوره الواضح في الساحة السياسية والفكرية جاء بعد العام 1971 وتحوله من خطاب شعبي إلى خطاب الإسلام السياسي وظهور العديد من التنظيمات الإسلامية والشخصيات والمنتديات، وتحول بعضه إلى العمل المسلح والمشاركة في ساحات أخرى خارج الخليج العربي ما شكل تهديداً للأنظمة الحاكمة في الداخل ومواجهة مازالت قائمة حتى الآن.

          في حين ظهرت في التيار الماركسي تنظيمات وخاصة في سلطنة عمان والسعودية والبحرين، ولكنه أصيب بنكسة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتوقف دعمه السياسي والفكري، وبدأت النخب والتنظيمات الماركسية تندرج إما بالحياة العامة أو تندمج مع التيار الليبرالي في تنظيمات تناست أفكار العنف الثوري والتغيير المسلح والعمل نحو الديمقراطية والوطنية بحيث شهد هذا التيار ضعفاً واضحاً وتراجعاً إلى حد كبير.

          هكذا فإن دراسة التاريخ الفكري للحركات والتنظيمات السياسية لها مكانة خاصة في حقل الدراسات التاريخية سواء في الجانب السياسي أو الأيديولوجي نظراً لأن دراسة الفكر لا يمكن أن تنفصل عن دراسة البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع، حيث تؤثر وتتأثر الواحدة بالأخرى في ظل عملية التغيير التي تتم في المجتمعات الإنسانية، وهذا ينطبق على واقع الحال في الخليج العربي.
--------------------------------------
* باحثة وكاتبة من العراق.

 

 

تأليف: د. مفيد الزيدي