من المكتبة الأجنبية: علامَ يُطلق اسمُ فلسطين؟

 من المكتبة الأجنبية: علامَ يُطلق اسمُ فلسطين؟
        

عرض: د. داليا سعودي**

          كتاب للمفكر الفرنسي الكبير ألان جريش، تحت عنوان: «علامَ يُطلق اسمُ فلسطين؟»، له أهمية خاصة في بيان المكانة المركزية التي تتبوأها القضية الفلسطينية في عالم اليوم، حتى باتت القضية الأكثر استنهاضًا لاهتمام الرأي العام الدولي. في هذا الكتاب، ينطلق الكاتب من حادثة دنشواي ليصل في النهاية إلى العدوان على غزة في العام 2008، ليعرض فيما بين دنشواي المصرية وغزة الفلسطينية دعائم الفكر الاستعماري الغربي الذي يتأسس عليه المشروع الصهيوني برمته. فيتناول اعتناق الغرب لمنطق الإقصاء، ودفاعه عن «حقه في الاستعمار» بذريعة الدفاع عن الحضارة، وصراعه مع السكان الأصليين، وعدم تورعه عن الإقدام على التطهير العرقي.

          كما يعرض الكاتب لمراحل تحول الدولة اليهودية من «يهودية الجيتوات» إلى «يهودية بعضلات»، مختتمًا تحليله التاريخي المفصل بجدلية تعاطف الغرب مع السامية ومناهضة العرب لها، مع طرح عقلاني لما تبقى من آفاق السلام. كما يطرح الدكتور جريش في ملحقين تاليين فكرة استغلال الدين كغطاء لتحقيق أطماع مادية، وينتقد حجج الكاتب الصهيوني برنار هنري ليفي الذي يمثل بخطابه المتحيز لإسرائيل نموذج الخطاب السائد في وسائل الإعلام الغربية. يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ترجمة له للدكتورة داليا سعودي.

          وقد كتبت المترجمة في مقدمة ترجمتها للكتاب «علامَ يُطلق اسمُ فلسطين؟ - بين براءة السؤال وشجاعة الإجابة»: لا يستبطن المترجمُ بالضرورة جميع ما يترجم. فعملية «الترانسفير» اللغوي تقتضي منه تسكين إملاءات حسه النقدي، وحبس رأيه الشخصي، لكونه - رغم احتياز النص في لغة الهدف - مطالبًا بالتزام أقصى درجات الغياب. وبطواعية المرغم، عليه أن يعير صوته، ومفرداته، وحتى تضاعيف عباراته لصاحب النص الأصلي، متحريًا في أدق نبراته كل ما أوتي من أمانة.

          في مجال ترجمة الدراسات التي تعرض لقضايا خلافية ، أو تؤسس لخطط توفيقية في نزاعات متشابكة الأطراف كما في النزاع العربي الإسرائيلي، تصير مهمة المترجم أقل يسرًا، ولاسيما إذا كان يتبنى وجهة نظر أحد الطرفين المتنازعين، وتتجاوب في حافظته أدبيات موغلة في مثاليتها الرافضة، هاتفةً : «لا تصالح».

          لكن هذا كتاب لألان جريش. تستدعي فيه جدية الباحث جدية الإنصات، وتستوجب فيه نزاهةُ الطرح إبطالَ أي حكم مسبق، وينتفي مع تركيبية الرؤية التي يطرحها أي نزوع لتبسيط مخل. فهنا إسهام نقدي قيم يفكك خطاب الهيمنة الاستعمارية الغربية، ويقوض آخر حصونها الماثلة في نموذج الاحتلال الإسرائيلي.

          ربما يبُدأ تعريف الكاتب بذكر مناصبه. فيقال إنه الرئيس المشارك لمجلس إدارة صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» العريقة، ورئيس تحريرها في سنوات مضت، ورئيس رابطة الصحفيين الفرنسيين المتخصصين بشئون المغرب العربي والشرق الأوسط، وغير ذلك من المناصب. لكن أهمية ألان جريش الباقية لا تكمن في مناصبه ، بقدر ما تكمن في اضطلاعه المتميز بمهمة الصحفي. الصحفي كمؤرخ للحظة، بمقتضى التعبير المنسوب لألبير كامو.

          على الجسر المعلق فوق الهوة الفاصلة بين الشرق والغرب، يقف ألان جريش منذ ولد في مصر في عام 1948، ليشب في بيت يساري في قاهرة ناصرية مفعمة بآمال التحرر من الاستعمار... قاهرة كانت بعدُ محتفظةً بكوزموبوليتانيتها وبتعدد ألوان أطيافها، حين كان جميع التلاميذ يقفون، على اختلاف دياناتهم، لينشدوا في طابور الصباح، في المدرسة الفرنسية المؤممة: «الله فوق كيد المعتدي...». وفي عام 1956، رأى الصبي أفعال المعتدي، وبقيت في ذاكرته، ومن ثَمّ، في كتاباته، وهو يشرح للقارئ الغربي الأبعاد المغيبة عنه فيما يتعلق بشرق أوسط "يسكن قلبه"على حد تعبيره.

          في بداية الستينيات، انتقل ألان جريش للإقامة في باريس، وبعد فترة عمل بالصحافة في وقت كانت فيه فرنسا خارجة للتو من حرب الجزائر. وطوال ثلاثة عقود، لم ينقطع ألان جريش عن وضع الكتب، وكتابة المقالات، وإلقاء المحاضرات حول قضايا «العالم الثالث» وعن شرق أوسط تغيب بشأنه لدى الغرب المعلومة الدقيقة والرؤية الموضوعية. وقد أولى جريش القضية الفلسطينية النصيب الأوفر من اهتمامه، مناصرًا حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي أتم رسالة دكتوراه حول منظمة التحرير الفلسطينية. كما عُني بدراسة الإسلام السياسي وعلاقة مسلمي الغرب بالدولة العلمانية في أوربا لاسيما في فرنسا.تقوده في أطروحاته أحكام العدالة الاجتماعية، وشواغل الضمير الإنساني اليقظ.

          في هذا الكتاب، «علامَ يُطلق اسم فلسطين؟»، ينطلق ألان جريش من تساؤل ينتحل مخايل البراءة، تساؤل يطلب تعريفًا جامعًا مانعًا لاسم أفقدته اعتيادية التداول اليومي الجدة المؤهِّلة لطرح التساؤل. لسان حاله في انتحال البراءة يقول: «تعالوا نسرد الأحداث التاريخية من أولها، في ضوء الوثائق التي عادة ما يغض الغرب الطرف عنها». ليكشف ما كان من المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين من اتباع لمسالك لا تختلف في جورها ودمويتها عن تلك التي اتبعها الرجل الأبيض مع السكان الأصليين في جنوب إفريقيا، أو في الجزائر، أو أستراليا وغيرها. وإن كانت الحالة الإسرائيلية تستصحب تعقيدات يشرحها الكاتب باستفاضة مستنيرة، تشير إلى مطاوي الخلل الكائنة في لب الذهنية الغربية السادرة في استعلائها.

          ثمة آثار في الكتاب لبذور كان قد نثرها الراحل الكبير إدوارد سعيد، وقد نضجت وأثمرت رؤى تعيد قراءة تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في سياقه الحضاري. وهي رؤى إذا ما قُرأت في لغتها الفرنسية تكتسب قيمة تنويرية تصحح كثيرا من المفاهيم المغلوطة وتكشف بشجاعة عن حقائق يصر الإعلام الغربي على تجاهلها بل وتزييفها. أما لو قُرأت تلك الرؤى باللغة العربية فسيكون لها نفع كبير في بيان سمات الخطاب القادر على النفاذ إلى عقل الغرب والتأثير فيه والتغيير من ثم في منظومة مسلماته الراسخة.

          هكذا يسعى هذا الكتاب الفريد إلى بيان المكانة المركزية التي تتبوأها القضية الفلسطينية في سياق التحولات التي تشهدها الساحة الدولية في اللحظة السابقة مباشرة لقيام الثورات العربية في مطلع عام 2011. وهي مكانة يتضح مبلغ أهميتها بفعل وجود فلسطين على خط التماس ما بين الشمال والجنوب، وما بين الشرق والغرب . بكل ما يعني ذلك من إرث تاريخي وحضاري مركب، لا تفتأ ظلاله تترامى على وجه الحاضر، الذي راح مع ذلك يتغير، لا بفعل عوامل سياسية واقتصادية وعسكرية فحسب ، وإنما أيضًا بفعل فقدان الغرب لاحتكار صفة الراوي الأوحد للتاريخ. فها هي شبكة قنوات الجزيرة تسحب البساط من تحت أقدام وسائل الإعلام الغربية، وها هي ثورات الربيع العربي تتجاوب أصداؤها في أرجاء العالم أجمع. لنكتشف مع نهاية الكتاب، أن حل الدولة الواحدة الجامعة للفلسطينيين واليهود، الذي قدمه المؤلف بوصفه ثمرة من ثمار طبيعته الطوباوية الدائمة التفاؤل، إنما هو حل غير مستبعد بفعل الضغط الكاسح الذي تمثله ثورة الشعوب العربية على إسرائيل وعلى الرأي العام الدولي.

          فهل تنجح سورة الغضب العربي وعملية التحول الديمقراطي الناتجة عنها في تقديم إجابة شافية لسؤال باتت الإجابة عليه ملحة، ألا وهو «علامَ يُطلق اسمُ فلسطين»؟ لكي لا يظل الاسم مرادفًا لمظلمة مستمرة، ولانتهاك دائم للقانون الدولي، ولمنطق قائم على الكيل بمكيالين، وعلى استمرار سيطرة الغرب الاستعمارية. علام يُطلق اسم فلسطين في أعقاب الثورات العربية؟

          تلك هي المساءلة التي يطرحها القارئ على الأيام المقبلة.
------------------------------------
* مفكر من فرنسا.
** مترجمة من مصر.

-----------------------------------------

أقول لصاحبي والعيس تهوي
                              بنا بين المنيفة فالضمار
تَمَتَّعْ مِنْ شَميمِ عَرَارِ نَجْدٍ
                              فما بَعْدَ العَشِيَّةِ منْ عَرَارِ
ألا حبَّذا نفحاتِ نجد
                              ورَيَّا رَوْضِهِ غِبَّ القِطَارِ
وَأهْلُكَ إذْ يَحلُّ الحَيُّ نَجْداً
                              وأنت على زمانك غير زار
شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وما شَعَرْنَا
                              بَأنْصَافٍ لَهُنَّ ولا سَرَارِ
فأما ليلهن فخيرُ ليل
                              وأطولُ ما يكونُ مِنَ النهار

قيس بن الملوح

 

 

تأليف: ألان جريش*