(المسرح نموذجاً) التحوّلات السياسية الجديدة في العالم العربي

 (المسرح نموذجاً) التحوّلات السياسية الجديدة في العالم العربي

لتتبّع مسار الثقافة في العالم العربي اليوم، وربطه بما يتعرض له من إحداثيات تغييرية، لابد من تقصي سيرورة التحوّلات التي تحصل في هذا العالم، التي يسهم في جزء كبير من صنعها جيل عرف بجيل «الفيس بوك». وقد برز هذا الإسهام في مشاركته السياسية إلى جانب مثقفين ومفكرين سابقين، وفي العمل على تأسيس ثقافة عربية تتلاءم مع هذه التحولات وتعبّر عنها.

الثورات التي تحدث في العالم العربي اليوم لم تنزع فقط أدوات الظلم والفساد والقمع، بل هي تحدث تحوّلات ستؤسس لمرحلة سياسية جديدة في العالم العربي، وستفجّر مساءلات كثيرة تتعلق بالثقافة العربية التي كانت ولاتزال غائبة ومتغيبة قصديًا ومتناسية الدور الفعلي المنوط بها طيلة زمن طويل. وأهم هذه المساءلات المطروحة هي ما يرتبط، وبالدرجة الأولى: بأنطولوجيا الثقافة، العربية اليوم، وبوجوه التغيير التي ينبغي أن تصيب هذه الثقافة نظرًا لارتباط الواقع السياسي بالحالة الثقافية، وثانيًا: ما يرتبط بما سيلعبه هؤلاء الشباب من دور تغييري وتأصيلي فيها نظرًا لما يتمتعون به من دينامية فكرية، لاسيما أن هؤلاء الشباب قد أدركوا أن على عاتقهم تقع مهمات ثقافية تتوغل في مأساة الوطن، وتتلاءم مع اللحظة التاريخية التي يعيشها هذا العالم العربي. وقد برز ذلك من خلال مشاهدتنا وتتبعنا لما يجري على الساحات العربية، حيث قام الشباب العربي التونسي والمصري والسوري واللبناني بالثورة، وأعلنوا عن مواقفهم السياسية وطرحوا آراءهم الفكرية، التي تمهّد للتغيير، وتجعل الآخرين من كل الأجيال والفئات الاجتماعية يؤمنون بمواقف هؤلاء الشباب ويتبنون مواقفهم الثورية، ويأخذونها على محمل الجد بعدما كانوا يتهمونهم بالضلالة والجهل وبأنهم نتاج سلبي وسطحي لـ«الفيس بوك». هذا مع العلم بأن هؤلاء الشباب، وقبل أن يتوغلوا في عالم السياسة، كانوا قد بدأوا بإجراء التغيير الثقافي وتحديدًا الفني، الذي كانت ملامحه قد بدأت تبرز في ممارساتهم الثقافية الفنية والفكرية: ففي الموسيقى مثلاً، بدأت تظهر موسيقى «الهيب هوب» و«الراب» اللتين استخدمتا في المخيمات الفلسطينية في لبنان، وفي عمان، وفي فلسطين. وفي الكتابة والتأليف: بادر هؤلاء بحراكهم الثقافي وكتبوا نصّهم الإبداعي المسرحي والشعري التفاعلي عبر الـ«فيس بوك» وعبر «التويتر». وعقدوا العزم على التحاور والنقاش وطرحوا آراءهم وتبادلوها فيما بينهم.

إن دل هذا الحراك الثقافي على شيء، فهو يدل على أن هذه الثورات وجدت أرضًا خصبة لدى الشباب الذين صنعوها عن إدراك ووعي ما قبليين، مستبدلين وسائل التحاور والتفاعل التقليدية بأخرى تتلاءم مع عصرهم عصر التكنولوجيا، فبعدما كان جيل الستينيات والسبعينيات يمارسون نشاطهم الثقافي والسياسي، ويتحاورون في المقاهي والأندية الثقافية والمؤتمرات، انتقلت هذه الممارسة الحوارية التفاعلية لدى شباب اليوم عبر وسائلهم التكنولوجية المتطورة «الفيس بوك» و«التويتر» و«المدونة»، وذلك باستخدامهم أدوات ثقافية ذات رؤى ما بعد حداثية، ولكنهم وظّفوها بما هو مغاير عن المابعد حداثي، لأنهم اختاروا ألا يشتغلوا إلا بعقل جمعي أكثر دينامية وانفتاحا على حركية الحيز العام، فانخرطوا في الفعل الإنساني من منظور عملي يجمع بين الفكرة والعمل، وبين النخب والناس العاديين والهامشيين، دون أن يعني ذلك أن ممارسة الثقافة والتأسيس لثقافة جديدة ينبغي أن يلغيان ثقافة الأجيال السابقة، بل من المفترض أن يعملوا من أجل التواصل معها وانتقاء منها ما يحمل نسغ تطورها، إهمال وإسقاط الجانب الأيديولوجي الذي اتسمت به الثقافة في تلك المرحلة، والتي وظفت ضمن إطاره لترعى ثقافة فكرية مرتبطة باتجاهات سياسية كانت سائدة آنذاك.

كما يدرك هؤلاء الشباب أن التغيير الذي ينبغي أن يلحق بالثقافة يجب أن تتوافر فيه الديمقراطية كشرط يمنحها (الثقافة) القدرة على التفاعل في المجتمع ، ويحصّن الجيل الشبابي برؤية مستقبلية تحمي الثقافة، وتسهم في تطويرها ونشرها، وتتيح لها التفاعل مع الثقافات الأخرى دون أن تذوب فيها، ويمكن الناس من التعبير عن آرائهم بوعي مصحوب بالإرادة المستقلة، ويتيح للشعوب المطالبة بحريتها والتعبير عن آرائها وإجهار خطابها الذي اعتادت السلطات أن تكتمه منذ أمد بعيد، وأن تخنق أنفاس أغلب مثقفيه وتصادر عقولهم، وتهمّش مواقفهم، وتلغي دورهم الفعلي في مجتمعهم، حتى لا يندمج المثقفون فيه ويتفاعلون معه، وحتى لا يسهمون في مساره التطوري، ولكي يعجزوا عن تأسيس تقاليد ثقافية إلا في ظروف معروفة تخضع لشروط السلطة.

وقد بدأت ملامح تأثير هذه الديمقراطية تظهر، في ضوء هذه التحوّلات السياسية، في ممارسات الشباب الثقافية والفنية كالمسرح والسينما والتلفزيون والموسيقى، لأن أي تغيير سياسي يطرأ سينجلي تأثيره سريعًا في هذه الفنون، ففي الموسيقى والغناء - مثلاً - ظهرت ملامح ذلك في «ميدان التحرير» «في مصر، عندما بدأ الشباب يؤلفون ويلحنون أغانيهم فغنوا «الحايحة» و«يا مصر هانت وبانت..»، و«امنين فهمتنا». وفي المسرح طبعًا وهو من أوائل الظواهر الثقافية التي تبدو عليه سمات التغيير، فلو ألقينا نظرة بانورامية على سيرورته، لألفينا أنه منذ بداياته، أي منذ العصر الإغريقي الذي قونن المسرح، وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسمات عصره: الفكرية والدينية والسياسية «الصراع مع الآلهة ومع القدر، العلاقة مع نبوءات دلفي، الصراع بين الآلهة والإنسان، الحياة السياسية». وكذلك جسد معطيات المرحلة التي ظهر فيها في العصور الوسطى حيث ظهر المسرح الديني، وفي عصر النهضة، وفي زمن الحرب العالمية الأولى حيث ظهر مسرح العبث واللامعقول، ولم يقتصر التغيير على الاتجاهات الفنية الحاملة في رؤيتها البعد الفكري، بل شمل أيضًا البنية الفنية التي بدأت تتغير وتكسر القواعد التقليدية لتوجد أشكالاً فنية حداثية، ومابعد حداثية تتلاءم، والبعد الفكري الذي يعبّر عن المرحلة التاريخية التي ينتج فيها. وتلا ذلك ظهور نظريات تدعو إلى التغريب لتتلاءم مع الواقع السياسي في تلك المرحلة: هذه أمثلة تستعرض علاقة المسرح بزمن ظهوره ومكانه، لأنه كلما تغيرت المراحل بمعطياتها السياسية ستتغير الرؤية الفكرية في المسرح، وكذلك البنية الفنية، ما يؤكد علاقة المسرح بلحظته التاريخية وهنا / الآن.

متلقي/صانع الثورة ومفكك شيفرات ثقافية

هذا ما ينطبق على هذه الظواهر الفنية التي ينتجها ويصنعها هؤلاء الشباب الذين يخلقون عالمهم، ويؤسسون ثقافة جديدة ولفن جديد، وهم يشكّلون في الوقت نفسه جمهوره ومتلقيه، وهذا المتلقي هو في الأغلب جمهور «الفيس بوك» ومتلقيه ومفكك شيفراته، إنه في الغالب صانع هذه التغيرات السياسية في العالم العربي، وهو المتلقي المتفاعل وليس الساكن، إنه الفاعل، فهو منذ اليوم يستعد لصناعة هذه التغيرات ويصنع ثقافته وفنونه ويطرح رؤيته، إنه المتلقي الفعلي وليس الافتراضي لمسرح نوعي: مسرح يطرح قضاياه ويغوص في أعماق واقعه، مسرح يصنّف بأنه «مسرح الشباب»، وهذا التصنيف لم يأت من عدم، فهو نتاج جيل يطمح إلى التغيير ولكن بإيقاع سريع، لا يهادن ولا يتباطأ، لأن إيقاع العصر ونتاجات العولمة والتطورات التكنولوجية ومستلزمات ما بعد الحداثة لا تنتظر، فهي تدعوه ليشكّل ويتشكّل ضمن هذه المنظومة التقنية، على أن يعي أن هذا التشكّل لن يسقط منه هويته، كما أنه لم يعد متلقيًا فقط - فهو الذي يصنع مصيره ومستقبله، ويصنع هذه المرحلة، هو أيضًا جمهور يتلقى ويجتمع حول طروحات عدة، وحزبه الافتراضي الوحيد هو الانضواء تحت لواء الـ«فيس بوك» حيث التحاور والتفاعل والتداعي من أجل التغيير.

إن المتتبع لمسيرة هؤلاء الشباب وتحديدًا مسيرتهم الفنية، حيث تتجسد رؤاهم الفكرية والفنية بأدوات وأساليب حداثية وما بعد حداثية، يمكنه التعرف إلى آلية تفكير هؤلاء الشباب، والكشف عن الهواجس التي تشغلهم والقضايا الوطنية التي تؤرقهم.

رؤية ثقافية وأبعاد فكرية

إن هؤلاء الشباب لن يتناسوا ولن يسقطوا من حسابهم البعد الفكري الذي سيحمله نتاجهم الفني، إنهم تغييريون. صحيح أنه في زمن الثورات والتغيرات السياسية والحروب، يفسح المجال للمسرح الكوميدي بمعنى السطحي «الفودفيل والفارس»، وتنشط خشبات المسرح لتقديم هذا النوع من العروض تحت ذريعة التنفيس والتخفيف من معاناة هول الحروب، ولكن واقع المسرح وجمهوره يختلفان اليوم، فالجمهور نفسه هو من صنع ثورته، وهو مَن قرر لحظة التغيير بغض النظر عن «عوامل التحفيز واستغلال الفرص من قبل أطراف سياسية أو فكرية»، فمن الطبيعي أن يشعر هذا الجمهور في لبنان ومصر وتونس وسورية واليمن والمغرب بأنه صار صاحب قراره، وما نشهده على شاشات التلفزة من الترجمة الفنية التي تستلهم الأفكار الثورية، التي تسود التظاهرات، لباس الكفن، الأغاني التي بدأت تتلى في «ميادين التحرير» هي التي ستعزز ثقافة الناس وتسهم في تعميق النظر إلى أهمية الفكر في المسرح والسينما.

ومن تجليات الممارسات المسرحية في هذه المرحلة بعض العروض المسرحية التي بدأت تعرض على الخشبة المسرحية العربية، كلبنان والمغرب، وقد عرض أغلبها في باريس: كمسرحية «زنقة زنقة» وهي أول مسرحية عربية تتحدث عن الثورات العربية في عالمنا العربي للمخرج اللبناني قاسم إسطنبولي، والذي بدأ عروضه المسرحية في الشارع أثناء قيام الثورة المصرية أمام مبنى السفارة المصرية ليجسّد لوحة الغضب، وفي ساحة «الإسكوا» في بيروت مع بداية الثورة الليبية، ليجسّد من خلالها شخصية العقيد معمر القذافي ونبض الشارع العربي ومعاناة الشعوب والثورات، من خلال الكوميديا الساخرة والتراجيديا، وأبطالها هم القذافي ومبارك وبن علي رموز السلطة وقهر الشعوب بالظلم والاستبداد. تجسّدت هذه الثيمات في مشاهد متنوعة، منها مشاهد التعذيب في السجون المصرية، التي تظهر كيف تحوّلت مصر كلها إلى سجن كبير يعاني فيه المصريون يوميًا، ثم ينتقل إلى ثورة المظلوم على الظالم محطّمًا القيود، راقصًا مع الكراسي ومحطمًا إياها أيضًا، للدلالة على إسقاط نظام متسلط (مجلة الكلمة)، يخلط إسطنبولي التراجيديا بكوميديا ساخرة، فيمثل شخصية «العقيد»، بإتقانه لهجته وحركاته وملامح شخصيته ولغة جسده ولحظات الصمت.

وفي العرض التونسي «مسرح قصير من أجل الثورة» نجد أربعة مشاهد قصيرة بين رقص وأداء وتجهيز، وقعتها عليا سلامي. ومن مصر، قدمت نورا أمين عرضها «احتمالات الثورة» في نص يشرح التحرّك الشعبي الضخم، وأهدافه المتشعبة بتشعب أطيافه، وأسئلة الراهن بعد إسقاط النظامي، أيضًا عرض سوري بعنوان «الثورة غدًا تؤجل إلى البارحة» للتوأم السوري محمد وأحمد ملص وهما من بين المثقفين السوريين الذين اعتقلوا أخيرًا، وتجسّد المسرحية شخصيتي متظاهر ورجل أمن، وتشير إلى ملامح وأجواء الانتفاضة السورية الراهنة.

إنه عرض سريع لإرهاصات ثقافية مسرحية تشير إلى الثورة وتعلن موقفها من هذه التحولات، وقد تقصدنا تسميتها بالإرهاصات لأنها من أولى التجارب التي تقدم على طريق تأسيس ثقافة مسرحية مختلفة، وعلى أمل تهيئة الناس وتهيئة الجمهور/المتفرج، لكي يتلقى هذه الثقافة الجديدة ثقافة الثورة وما بعدها، لأن هناك رفض البعض الآخر هذه المقولة، وأكّد أن هذه الأعمال هي جزء من المنظومة الثقافية والمسرحية منذ نشأتها، في حين أن هناك من آمن بهذه الخطوات الأولية الهادفة إلى التغيير، وهذا التغيير سيحصل وإن كان سيستغرق سنوات عدة.
------------------------------
* أكاديمية من لبنان.

------------------------------------------

وكلُّ شباب أو جديدٍ إلى بلَى
وكل امرئٍ يومًا إلى الله صائرُ
وكل قريني إلفة لتفرقٍ
شتاتًا وإن ضنا وطال التعاشرُ
ولكنَّما أَخْثَى عَلَيْه قَبِيلة ٍ
أخا الحربِ إن دارت عليكَ الدوائرُ
فَآليْتُ لا أَنْفَكُّ أَبْكِيكَ ما دَعَتْ
على فنن ورقاءُ أو طار طائرُ

ليلى الأخيلية

 

وطفاء حمادي*