جمال العربية: صالح جودت.. بين غواية الحِسّ وعروبية النَّفَس

يقول المتأملون في شعر صالح جودت إن الموسيقى لديه هي قدس أقداسه، وإن حرصه على الجرس الهامس، والكلمة الموحية، واهتمامه بالقافية والموسيقى الداخلية، جعل لشعره فتنته وغوايته، عند المتابعين له منذ بواكيره الأولى، شاعرًا شابًّا في كوكبة شعراء أبولو، ثم نجمًا بين أعلامها الكبار: علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ومحمد عبدالمعطي الهمشري، ومحمود حسن إسماعيل، وأحمد رامي، وحسن كامل الصيرفي، وأقرانهم من شعراء الوطن العربي الذين هيأوا للرومانسية في الشعر أجواءها ونماذجها الأولى، وفي مقدمتهم: أبو القاسم الشابي وعمر أبو ريشة والأخطل الصغير وأمين نخلة وإلياس أبو شبكة وإبراهيم طوقان وغيرهم.

          وعلى مدار خمسين عامًا من الإبداع الشعري، أنجز صالح جودت ستة دواوين شعرية أولها ديوان صالح جودت عام 1934 فديوان ليالي الهرم عام 1957 فديوان أغنيات على النيل عام 1962 فديوان حكاية قلب عام 1965 فديوان ألحان مصرية عام 1968 فديوانه الأخير الله والنيل والحب عام 1973. وأتيح لشعره - الذي افتقد قارئه معظم دواوينه - طبعة جديدة وكاملة حقَّقها وقدَّم لها الأديب الباحث محمد رضوان، أسماها: صالح جودت: شاعر الحب والحرية، حياته وشعره وقصائده المجهولة، صدرت في العام الماضي عن مكتبة جزيرة الورد في القاهرة.

          ويبدو أن التفات صالح جودت، منذ مطالع شبابه إلى أهمية الغناء ودوره في نشر الشعر والتعريف به وتحقيق شهرة غير عادية من خلاله - تأثرًا بصديقه الشاعر الغنائي الكبير أحمد رامي الذي استهلكت أغنياته المؤلفة لأم كلثوم المساحة الأكبر من طاقته الشعرية - يبدو أن التفاته هذا، بنسبة أقلّ بكثير من رامي - قد حقَّق له من ناحية تقدمًا في الشهرة وذيوع الصيت بين أقرانه من شعراء أبولو، وإن كان يجيء في مرتبة بعد علي محمود طه الذي جعل ذيوع قصائده المغناة الشاعر الأول في الحضور والأهمية عندما تذكر الحركة الرومانسية في الشعر وجماعة أبولو بصفة خاصة. كما انعكس التفات صالح جودت إلى إبداع الأغنية على إبداعه لقصائده وكتاباته بصفة عامة، فأكسبها رقة وموسيقية وحرصًا على الإيقاع واهتمامًا بلغة خالية من مجاهدات الصنعة أو مكابدات العنت والخشونة، فهي لغة سلسة متدفقة منسابة، تشبه في سلاستها وعذوبتها انسياب النيل الذي هام به الشاعر، وأطلقه عنوانًا على اثنين من دواوينه، وعلى كثير من قصائده ومقطوعاته المغناة.

          ولد صالح جودت وعاش بين عاميْ (1908 - 1976) وخلال حياته الممتدة، وعمله في الصحافة، خاض كثيرًا من المعارك الأدبية والسياسية، اتَّسم معظمها بالحدّة والعنف، وبخاصة ما كان منها ضد المجددين في الشعر العربي، الذين أبدعوا النماذج الأولى في شعر التفعيلة أو الشعر الحرّ ثم في قصيدة النثر، وما أطلق عليه شعر الحداثة. فقد حمل عليهم بشدة، وكانت ردودهم عليه أعنف وأشدّ، وأدى هذا كله إلى تعمد إهمال الأجيال الجديدة لشعره، وإبعاده عن مكانه ومكانته اللتين يستحقهما في حركة الشعر المصري العربي الحديث، وبخاصة أنه في طليعة الشعراء المصريين الذين ربطتهم علاقات وثيقة وحميمة مع شعراء الوطن العربي في سورية ولبنان والعراق وغيرها من الأقطار العربية، وكانت له مشاركاته الدائمة - ممثلاً لشعراء مصر - في كثير من مهرجانات الشعر في بغداد ودمشق وبيروت.

          وقد تهيّأ لصالح جودت بسبب إتقانه للغة الفرنسية - ومن بعدها اللغة الإنجليزية - الاطلاع والمتابعة لكثير من دواوين شعراء الرومانسية الغربية، وبخاصة شيلى وكيتس ووردزورث وألفرد دى فيني وألفرد دى موسيه وفيكتور هيجو ولامارتين، وامتلأت دواوينه الأخيرة بترجمات شعرية لقصائد مكتوبة بالفرنسية والإنجليزية، برع في ترجمتها حتى لتبدو وكأنها مكتوبة في الأصل بالعربية.

          ويبدو أن بروز الطابع الحسِّيّ في شعره، هو الذي جعل ناقدًا كبيرًا هو الدكتور محمد مندور يقول عنه - في كتابه عن الشعر المصري بعد شوقي - إن صالح جودت شاعر غنائي حسّي لعوب، ويسلكه في عداد الشعراء العابثين منذ امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وصولاً إلى علي محمود طه - الذي وُصف بالأبيقورية وقيل إن صالح جودت هو الأقرب إليه من حيث المزاج النفسي والشعري، والولع بالعبث وشيطنة أهل الحضر من المصريين وإن شعره يشفُّ عن روح الصالونات المصرية وما يجرى فيها من دعابات غزلية عابثة. لكن الدكتور مندور سرعان ما يقول - في حديثه عن صالح جودت وتقييمه لشعره -: «ومع ذلك، فإن هذا الشاعر الغنائي الطروب، لا يلبث أن ينقلب إلى شاعر إنساني عميقٍ مُشْجٍ عندما تضيّق عليه الخناق تجارب الحياة فيصحو وجدانه إلى ما فيه من آلام وما في تلك الآلام من عمق، على نحو ما نحُسّ من قصيدة فريدة له هي «نحو الآخرة» التي نظمها على أثر مرض عضال ألقى به في مصحة العباسية حيث أحسّ باليأس والعناء عندما أوشك الداء أن يقهره، ومن حوله مرضى من أمثاله يزيدون شعوره ببلواه حدّة». ويرى مندور ضرورة أن تقارن هذه القصيدة بقصيدة مماثلة للشاعر خليل مطران نظمها في ظروف مماثلة وهو عليل في مكس الإسكندرية، وهي قصيدة «المساء» التي يقول في مستهلها:

داء ألمَّ فخلت فيه شفائي
                              من صبوتي، فتضاعفت بُرحائي

          وهكذا تجمعت عناصر ومقومات في شعر صالح جودت، جذبت إليه قدرًا كبيرًا من المتابعة والاهتمام: جرأةٌ وخروج على المألوف في التناول، من غير اهتمام بالتقاليد والمواضعات، وطابع حسّي عابث يُغري المحرومين من الشباب بأن يجدوا فيه عِوضًا عن الشظف والحرمان في دوائر العلاقة مع المرأة، وإيقاع موسيقي لافت يصافح الأُذن ويطربها عند قراءة قصائده أو الاستماع إليها، وولع بالألفاظ الموحية واللغة السهلة الميسورة، المصقولة صقلاً فنِّيًّا بارعًا، يذكِّرنا بجماليات المدرسة الشامية في الشعر وبخاصة عند أمين نخلة وعمر أبو ريشة ومن بعدهما علي محمود طه ونزار قباني، وعناصر درامية تتخلل مقاطع القصيدة وثناياها، اكتسبها صالح جودت من كتاباته الغنائية والروائية والتمثيلية في العديد من الأعمال الفنية، الأمر الذي جعل قصيدته تحتشد بأصوات أخرى غير صوت الشاعر نفسه، وتستجيب لحوارات ومداخلات تتطلبها الطبيعة الدرامية للنص الشعري.

          في قصيدة من شعره الباكر عنوانها «الماضي» يقول صالح جودت:

لا تذكري الماضي، فما أنا ذاكرُ
                              وأَحبّ أحلامي إليَّ الحاضرُ
إني غفرتُ لكِ الذي حدّثْتنيِ
                              عنه، فهل لي من فؤادكِ غافرُ؟
يا من يعذبك الصدى، لا ترجعي
                              لخرائب الماضي، وقلبك عامرُ
عيشي مع اللحن الجديد، ومتّعي
                              دنيا هواكِ، بما يغني الشاعرُ

***

ماضيك لم يخلد، وماضيَّ انتهى
                              وكلاهما في الحبِّ وهمٌ خاسرُ
ماضيك، ما ماضيك؟ طيش صبيةٍ
                              بلهاء يجذبها الهوى فتخاطرُ
وتعود مثقلة الجراحِ شقيةً
                              في صدرها بالحبّ قلب كافرُ

***

ماضيّ، ما ماضيَّ غير حكايةٍ
                              لولاكِ لم يك للحكاية آخرُ
لا تسأليني كم عشقتُ، فإنني
                              كان الهوى روضي، وقلبي طائرُ
ما زال يبتذل الهوى وفروعه
                              فيؤمها ويضمُّها ويغادرُ
لم يُؤوهِ في الروض وكرٌ آمنٌ
                              أو يُغْرهِ بالحبِّ غصْنٌ عاطرُ
ولكم شقيت به، فما أنا بالذي
                              هانت عواطفه ولا أنا غادرُ
لكنَّ جوعًا للجمالِ ألمَّ بي
                              فمضيتُ في نهم الذئابِ أُغامرُ
حتى عرفْتكِ فاكتشفتُ حقيقتي
                              ورأيت أحلامي إليك تبادرُ
ويقول لي قلبي: هنالك وقفةٌ
                              كُتبتْ عليْكَ.. هنا الغرام الآخر!

          ويهدي صالح جودت قصيدته «المشية الموقعة» إلى تلك السارية في الليل والناس نيام، تؤنس الشاعر بمشيتها المنغّمة، وكأن ما ينبعث في مشيتها من أنغام يجد معادله في شعره الموقّع، وهي قصيدة تكشف عن ولعه الحسِّيّ بالمرأة وافتنانه في رسم صورتها الجسمية:

لحّنتُ أشعاري على مشيتك الموُقّعة
إن سرتِ في الدرب سمعتُ في الفؤاد قرقعة
تحكم في ساحته وتستبيح أضلعه
كأنما قيثارةٌ في قدميك مُودعة
تُسمعني في الخطوتين نغماتٍ أربعة

***

يا نغماتٍ تحت أقدام الجمال طيّعة
هل أنت من فن السماءِ ونُهاها المبدعة
ترنيمة لم يُدْنِ «بتهوفن» منها إصبعه
وغنوة أمامها أوتاره مُقطّعة!
آم آيةٌ لله في الأرض: جمالاً ودَعة
تُوجّهُ الكافرَ لله، وتنضو بُرقعه
وتُحكمُ الإيمان في مهجته المزُعزعة؟
أم أنَّ كل خطوة شيطانةٌ ملعلعة
إن خطرت بالعابد السّاجد عند صومعه
أَغرتُ بلحنها اللعوبِ قلْبه ليتبعه
يكاد من فتنته باللحن ينسى مُبدعه!

***

ساقاكِ، لا، بل عُمدٌ أنوارها مندلعة
مزاجها من الضحى والجلوة المشعشعة
وقدماكِ، لا، بل القيثارةُ المُرصّعة
أوتارها العشرة ذات الكرةِ الـمُدوْلعة
يا عجبي، تعزف من غير يدٍ مُوقِّعة!

          وفي قصيدة عنوانها «برَدَى» تتفجر شاعرية صالح جودت بكل ما يحمله وجدانه من انتماء عروبي أصيل، وما تتفجر به أعماقه من عشق لدمشق وما تضمه من مواقع ألهمت خيال الشعراء، وجعلت من قصائدهم عقود محبة للغوطتين والهامة ودُمّر وبرَدى وغيرها. وتنساب القصيدة في إيقاعها الجياش المتدفق نموذجًا بديعًا لشعر صالح جودت في نَفَسه القوميّ، وحرارة توهّجه وهو يشارك في مهرجان الشعر الثالث الذي أقيم في دمشق عام 1961 ضمن كوكبة من الشعراء المصريين، يقول:

أتوب، وأدعو، وأستغفرُ
                              وأخلصُ لله ما أَضمرُ
وأستعجل الله يوم المآبِ
                              ويومَ خلائقهُ تُنْشرُ
إذا قيل موعده «الغوطتان»
                              وموقع جنّته «دُمّرُ»
فإن لم يكن «برَدَى» كوثري
                              فيا ضيعة العُمر يا كوثرُ
تفجّر من صخره السّلسبيلُ
                              وضوّع من ليْلهِ العنبرُ
ومرّت يدُ الله فوق روابيـ
                              ـــه، تُنْمي الكرومَ وتستقطرُ
وتجعل من «برَدَى» دنّها
                              وتسكبُ فيه الذي تعصرُ

***

فديْتُكَ يا «برَدَى» ما جريْتَ
                              تغنَّيْتَ بالحب إذ تهدرُ
تجُبُّ عيونُك سحْرَ العيونِ
                              وتحسدُ روْنقكَ الأنهرُ
على درجاتك طال الربيعُ
                              وطاف بك الصحبُ والمعشرُ
أكان الملائكُ إلا ذويكَ
                              وهم فلقُ الصبح أو أطهرُ
لهم همةٌ تتحدى الزمانَ
                              وعزمٌ على الدهر لا يُقهرُ
كم انسربوا في شعاب الوجودِ
                              وكم علَّموه، وكم عمّروا
وكم أزّ من جهدهم مصنعٌ
                              وكم عزَّ من كدِّهم متجرُ
وضوّع من عَرْفهم مسرحٌ
                              وأبدع من عزفهم مزهرُ
وأينع من غرسهم فنُّ مصْرَ
                              وغنّى بشعرهمو المهجرُ

***

دمشق، وماذا تكونُ الجِنانُ
                              سواكِ، إذا أذّن المحشرُ؟
وما الفِتنُ الحورُ إلا بناتُكِ
                              والشهدُ من ثغرها يقطرُ
وقد هشَّ لي البَرَدُ اللؤلؤيُّ
                              وبشّ ليَ الكرزُ الأحمرُ
وطالعني الوردُ، وردُ الشباب
                              وداعبني الفاتنُ الأحورُ
ورفرف لي خلف بيض الجوانح
                              قلبٌ هو الفستقُ الأخضرُ
تُهامسني بالذي يُسْتَرُ
                              وتومئ لي بالذي يُضْفَرُ
وتهتفُ بي من حجابِ الحياءِ
                              تقول: أتى الشاعرُ الأسمرُ
وراحت تعاتبني أن تغيَّبْتُ
                              حوْلاً، هو العمرُ أو أكثرُ
فقلتُ لها: ما شعرتُ بِبيْنٍ
                              فقلبي على البيْنِ لا يَقدرُ
تركْتُكِ من مهرجانٍ مضى
                              وحبُّكِ بالقلب مستأثرُ
وقد عشتُ بعدك من غير قلبٍ
                              فكيف بِبُعدكِ أَستشعرُ؟
فقالت: لنا الله في خافقيْنا
                              أقلبُكِ في حيِّنا يخطرُ
وقلبي هناك على الشاطئيْن
                              من النيل يفتنهُ المنظرُ
يُحلّقُ من بُرج «بنتِ الـمُعزِّ»
                              فيبهرهُ ما بنى «جوهرُ»
وتُصْبيه معجزةُ الأوّلينَ
                              وما خَلَّدتْ فنَّهُ «الأقصرُ»
ويأخذه التيه من فتيةٍ
                              يِناؤهمو الهرمُ الأكبرُ
وتسْحرهُ لمعاتُ المآذنِ
                              والعلمُ والنورُ والأزهرُ
وما شاقني مثل ما شاقني
                              حديث من المجد لا يَفْترُ
حديث الأولى في سبيل العروبة
                              لم يب لم يبخلوا بالذي أمهروا
وباعوا الحياة وأوهامَها
                              وهاموا بأوطانهم فاشتروا

***

عروبةُ يا وطن الخالدينَ
                              ويا من تغنَّتَ بها الأعصرُ
وقام على صخرها «مأربٌ»
                              ونامت على حجرها «تدمرُ»
نميْتِ على أرضكِ الأنبياءَ
                              فعزَّ الوجودُ بما بشّروا
وأوفى بعهدك من أسلموا
                              ومن نصروا الله واستنصروا
وما شاب حْسْنَكِ إلا اليهود
                              ولا شاه إلا الذي دبّروا
لقد ملأ «النقْب» رهطُ «النضير»
                              وعادت بآثامها «خيْبرُ»
وقامت لهم دولةٌ في السِّفاحِ
                              دعامتها الخمر والميْسرُ
فما لسمائكِ لا تستعيذُ
                              وما لرمالكِ لا تنفرُ
وما لرجالكِ لا يغضبون
                              وما لسيوفكِ لا تُشهرُ؟
أما آن للأرض أن تُستردَّ
                              وآن لأهلك أن يثأروا؟
عروبة، يا من صَهرْتِ الشعوبَ
                              وعاش لُبابكِ لا يُصهرُ
وفاز بكِ «الكرْدُ» «و«الصادقون»
                              ولاذ بك الزَّنجُ والبربرُ
وألقى الفراعينُ طاغوتهم
                              وحجُّوا لذاتكِ واستغفروا

***

سليني، فعندي تواريخُ مصرِ
                              وفيها لكِ الأثرُ الخيّرُ
لَكمْ لجَّ في تُرْبها فاتحٌ
                              وأَوْغلَ طاغٍ ومستعمرُ
تخطّر «قمبيز» في أرضها
                              وأعقبهُ الفحلُ «إسكندرُ»
ونامت على عرشها «كليوباترا»
                              وهوّم في بحرها «قيصرُ»
وهمُّوا بصبغة أخلاقها
                              بلون الغزاةِ، فلم يقدروا!
إلى أن أتى الفارسُ العربيُّ
                              فأدركها صُبْحها الـمُسفرُ
وألقى «المقوقس» مفتاحها 
                              إليه، ودان له العسكرُ
وما كان فتحًا ولكنه
                              كما يشرقُ الأملُ الـمُزهرُ
شعاراتهُ الباقياتُ: التحررُ
                              والسّلْم، والعملُ الـمُثمرُ
وآياتهُ البيناتُ: السماحةُ
                              والعدلُ، لا اللونُ والعُنصرُ

***

أجل، ذاك موسمنا يا دمشقُ
                              وفيه خريفُكِ يخضوضرُ
وأنتِ إذا لم تكوني الجِنانَ
                              فإنك من رُوحها عبقرُ
مشينا إليكِ مع المهرجانِ
                              خطى المؤمنين إذا كبّروا
نردُّ زمانكَ يا «بحتريُّ»
                              ونُعلي مكانكَ يا منبرُ
ونتلو من الشعر ما يستطابُ
                              ونسمعُ منه الذي يُسكرُ
أجل، ذاك ميعادنا يا دمشقُ
                              وموسمُه عيدُنا الأكبرُ
وما مهرجانُكِ إلا الحساب
                              لمن قدّموا الخير أو أخّروا
رعى الله من قومنا فتيةً
                              مشوا للجهاد، فما قصّروا
ولكن تلاقوْا على دعوةٍ
                              ينُادي بها الثائرُ الأسمرُ

          وجمال العربية في هذه القصيدة العامرة يتجلى في نفسها العروبيّ الزاخر، وزهو الشاعر بوتر الشعر الذي يُجسّد خيط الانتماء القويّ لكل ما هو عربي وأصيل، وفي إيقاعها الذي تتدفق به تفاعيل بحر الكامل في يُسْرٍ وطواعية، دون مشقة أو إعنات، وقوافٍ محكمة خُلقتَ لتوضع في مواضعها من الكلام، وخيال شعري محلّق، تنهض به لغة قشيبة مصقولة، فيها جِدّة الشباب، ورونق الحياة، وبهاء الخلود.