لحظة استشراف.. أو الوقوف على أطلال العصر

ساعة وقف أحد المؤرخين المعاصرين (واسمه م. ستورمر) على مشارف الألفية الثالثة (التي نحن فيها اليوم)، وجد نفسه يكتب، ويقول: «نحن في بداية عصر جديد يتميّز بقدر كبير من انعدام الأمن، وبالأزمات الدائمة، وغياب أي شكل من أشكال الوضع الراهن».. مضيفًا: «ينبغي أن ندرك تمام الإدراك أننا نواجه الآن واحدة من أزمات التاريخ العالمي»، ومقررًا، في ضوء ما رأى، أن «ليس ثمة قوى منتصرة وأخرى مهزومة اليوم».

 

ليس هذا رأي فرد متشائم، وإنما هناك من بين المؤرخين المعاصرين من يشاطره الرؤية والرأي (مثل «إريك هوبزباوم» مؤلف كتاب «عصر التطرفات» وكتب أخرى تتناول فيها تاريخ العصر الحديث)، إذ يجد أن القرن العشرين قد انتهى «إلى مشكلات لا يملك أحد حلولًا لها، أو يزعم أنه قادر على ذلك».

 

والسؤال هنا هو: أين نحن، العرب، من هذا الواقع؟ وأين نحن في هذا الواقع؟

 

أجد في الجواب عن مثل هذا السؤال ضرورة العودة إلى الى ما سمّاه هوبزباوم بـ«القرن العشرين الوجيز»، وإن في إطاره العربي، فأرى أنه إذا كانت الشعوب والأمم تبحث عن «عصورها الذهبية» لتجعل منها عناوين لتواريخها، فإن العصر الذهبي بالنسبة لنا، نحن العرب في العصر الحديث، كان النصف الأول من القرن العشرين. فهو، بحسب ما قُدّم عنه من قراءات، العصر الأهم في الثقافة العربية الحديثة، إن إبداعًا أو فكرًا ومكونات بناء عقل جديد. ولن تُمثّل العقود الأولى من النصف الثاني منه، في أفضل حالاتها وأجلاها، سوى امتداد لما كان قد تأسس فيه، أو قُدِّم من أطروحات أساسية.. أما العقود الأخيرة، فقد شهدت بدايات التراجع، لتعلن النهايات انكسار الخطوات الأولى، وبؤس عطاءاتها، وضمور العقل فيها ضمورًا أضحى يهدد بخطر الموت الذي أدرك الكثير مما كان على أرض الواقع.. لنكون اليوم، وعلى غير مستوى من مستويات الحياة والتاريخ، في حالة مخجلة للتاريخ!

 

لعل من أكثر الجوانب أهمية في فكر النصف الأول من القرن العشرين تلك التي تبلورت فيها أطروحات الفكر النهضوي العربي، وقد امتلك هذا «الفكر الجديد» المتكوِّن تصورًا موضوعيًا عن «الذات» و«الآخر» ـ سواء بالمعية مع هذا «الآخر» والاتفاق مع ما كان له من أفكار ورؤى أراد تأسيس الحياة الجديدة عليها، أم بالضد منه والاختلاف معه، وأهمها: ما يتصل بالرؤية الحضارية الجديدة التي رأى هذا الفكر العربي الجديد، من خلالها، أن صعود الأمة وارتقاءها مصاف العصر ينبغي أن تكون فيه، كما كانت في عصورها الذهبية الأولى: أمة تاريخ، وثقافة، وإنسان محكم التطلّع إلى الغد ـ إلى عصر يتيح لنفسه فيه الارتقاء حكمة وإبداعًا، بما يشكل إضافة حقيقية إلى روح العصر، ويكون هو نفسه على المسار الإنساني الجديد لحضارة العصر... وقد مثّل هذا كله ثورة حقيقية في الواقع العربي، هدفها التغيير، ومنطقها البناء الذي يتم من خلال التحول: من حال السكون ووضع القبول بالأمر الواقع إلى التمرد والرفض بما يحقق القوة لاندفاعة التغيير هذه التي وجدت في نفس الإنسان ما يُحركها متمثلًا في الروح الإبداعية الخلاقة.. فقامت المدينة (العربية في هذه المرة) المعبرة عن ذاتها الحضارية من خلال إبداع جديد الحقيقة والجوهر، وبرؤية جديدة للعالم والدور الذي ينبغي أن يكون لنا فيه. وكانت فضلًا عن هذا، رؤية مناهضة للكولونيالية التي عاشت أشد فترات انحسارها أمام هذه الموجة الثورية العربية بزخمها الكبير.

 

ولم تكن رؤية مثقفي هذه المرحلة، التي نحن بصددها، رؤية تجزيئية، ولا منفصلة عما كان ينشغل به «العالم الحضاري»، لا الكولونيالي، من حولهم.. ولعل هذا هو ما أتاح لهم إدراكًا حقيقيًا لما يمكن أن نسميه «نظام التنوير». وحتى يوم وجدوا ما كانوا قد وضعوه من فكرهم هذا في نطاق الممارسة العملية قد حوصر، من أجل إفشال نتائجه، فإن ذلك لم يحل بينهم وبين الإجابة عما كان يثار من أسئلة (عُرِفت بالأسئلة الكبرى في بعض حالاتها)، فضلًا عما أثاروه، هم أنفسهم، من أسئلة تضيف تصورًا جديدًا وتُغني تصورات سابقة.

 

ولم يصل الأمر بأي منهم، ولا بحقبة من الحقب التي عاشوها ومارسوا أدوارهم فيها، إلى ما وصلنا إليه اليوم من نزعات ونزوعات مضادة للعقلانية، ومن رِدّات «فكرية» لا يمكن وصفها، وتعيينها، حالة وموقعًا، إلًا بنسبتها إلى التراجع عن منطق العصر، والتخلف عن أطروحات التقدم فيه، بما يشير إلى ما هو «وَهَن انحطاط» يأخذ بالعقول قبل النفوس.

 

إننا اليوم في «عصر الفراغ». ينبغي أن نواجه أنفسنا بمثل هذه الحقيقة.. وهو فراغ أصبح اليوم مفتوحًا على سعته لدخول الحركات السلفية والتقليدية بنزوعاتها المختلفة، والتي لن تقود الحياة في هذه الأمة إلا إلى التراجع، والهامشية الحضارية، وانعدام الفاعلية الاجتماعية المجردة من أي موقف تاريخي. وهل يريد الأعداء التاريخيون لهذه الأمة أكثر من هذا؟.

--------------------
* كاتب من العراق.