ملف غسان كنفاني: بناء الهويّة الوطنية الفلسطينية

مع أنه لم يعش طويلًا على هذه الأرض، إذ اغتالته الدولة الصهيونية في ريعان شبابه وهو في السادسة والثلاثين من عمره (1936 - 1972) إلا أن الروائي وكاتب القصة والناقد والمسرحي والباحث وكاتب المقالة ورجل السياسة الفلسطيني غسان كنفاني يظلُ شخصية مركزية في التاريخ الفلسطيني المعاصر. فما كتبه يدخل في نسيج نظرة الشعب الفلسطيني إلى هويته، وما أنجزه غسان على مدار حياته القصيرة تلك هو محاولة لإيجاد موضع للفلسطيني المطرود من أرضه وتاريخه في هذا العالم.

 

أهمية غسان كنفاني لا تقتصر على ما أنجزه من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات ودراسات سياسية وأدبية، أو على عمله السياسي والتنظيمي في حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بل تتعدى ذلك إلى كون كتاباته تتضمّن تصورًا خلاقًا للهوية الوطنية الفلسطينية، ودعوة إلى إعادة بناء هذه الهويّة في أزمنة الصراع. فبالنسبة له ليست الهوية ثابتة، ومن ضمنها الهوية الفلسطينية التي ينبغي العملُ عليها بصورة مستمرة حتى تستطيع الصمود في وجه مخطط الطمس والمحو الذي عملت عليه الصهيونية العالمية في ترويجها لمقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» وادعائها عدم وجود هوية فلسطينية، فالفلسطينيون هم بعض الفلاحين والبدو الذين كانوا يعيشون في فلسطين عندما أنشئت دولة «إسرائيل»!

 

في مواجهة هذه السياسة الصهيونية، التي ساندتها بعض دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة فترة طويلة من الزمن، سعى غسان كنفاني إلى بناء الهوية الفلسطينية في رواياته وقصصه، وأعماله الأدبية عامة، بالتوازي مع الدراسات التي كتبها عن ثورة 1936، وأدب المقاومة الفلسطينية والصهيونية بصورة منفصلة، للتوصل إلى كيفية إدارة الصراع مع العدو. فقد قرأ أسباب فشل ثورة 1936 وعدم قدرتها على مواجهة المصير التراجيدي الذي انتهى إليه الشعب الفلسطيني في العام 1948، ورأى في أدب المقاومة الطالع من قلب الظلام الإسرائيلي دلالة على أن الهوية الفلسطينية لم تُمْحَ أو تطمس كما أراد لها المخططون الإستراتيجيون الصهاينة. كما أنه حاول التوصل في كتابه عن الأدب الصهيوني إلى عناصر الهوية الصهيونية وكيف عمل المفكرون والأدباء اليهود في أوربا على بناء هذه الهوية خلال الأزمنة الحديثة. ولعل هذه الدراسة التي تنتمي إلى فترة مبكرة نسبيًا، في حقبة الدراسات العربية التي اشتغلت على العدو الإسرائيلي، أن تكون من بين أعمق الدراسات المكتوبة عن الموضوع، لكونها وضعت في منظورها الإستراتيجية الصهيونية الماثلة في إلغاء الفلسطيني ومحوه وتحويله إلى مجرد فلاحين وبدو كانوا متناثرين على خريطة فلسطين قبل «إقامة دولة إسرائيل التي تنتمي إلى الأزمنة الحديثة!».

 

على أهمية الدراسات التي كتبها غسان، والتي تستحق أن تعاد طباعتها مجددًا بمقدمات ضافية تشير إلى ريادتها وراهنيّتها في الوقت نفسه، فإن أعمال غسان الروائية والقصصية وحتى المسرحية، أكثر كشفًا عن رؤيته للهوية الفلسطينية، وكيفية ابتعاث هذه الهوية مجددًا، وبنائها كهوية حديثة معاصرة قادرة على مواجهة الهوية الأخرى التي استطاعت، من خلال الانتماء إلى أزمنة الحداثة، الحلول بصورة مؤقتة محل الهوية الفلسطينية. في أعماله الأدبية ينظر غسان إلى الهوية الفلسطينية بوصفها هوية متحركة وقادرة على تقديم نفسها كمثال للمقاومة الإنسانية رفيعة المستوى. ولا شك في أن هذه الرؤية السابقة لزمنها تصلح الآن، وبعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، لكي يعيد الفلسطينيون بناء إستراتيجيات وجودهم استنادا إليها. فقد تاهت بوصلة الفلسطينيين، قبل اتفاقيات أوسلو وبعدها طويلًا، وآن لها أن تؤشر في الاتجاه الصحيح.

 

استنادًا إلى ما سبق يمكن القول إن سؤال الوجود والهوية يُشكّل قلب عمل غسان كنفاني الروائي. رواياته، بما تتمتع به من طاقة تجريبية لافتة وبحث في الغنى النوعي للأشكال وقدرة على تجسيد الأفكار والتجارب، تعدّ تعبيرًا خلاقًا عن الحلم الفلسطيني وابتكار الهوية. ويستطيع القارئ أن يلاحظ كيف أن تجربة غسان الروائية مرّت بتحولات جذرية خلال الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها، وكيف أن هذه التجربة، المدهشة في غزارة الإنتاج والتنويع على الأدوات والتقنيات وأشكال الرواية، استطاعت أن ترسم التحولات التاريخية في التجربة الفلسطينية والقلق والطموحات والأتواق التي انطوى عليها الأفراد الفلسطينيون الذين رسمهم غسان في أعماله بريشة قلقة.

 

رجال في الشمس

يركز غسان، منذ عمله الروائي الأول «رجال في الشمس» (1963)، على الإشكاليات المصيرية التي صنعت معنى الوجود الفلسطيني، على ما يقيم في جوهر تجربة الفلسطينيين. لقد تنبه إلى رسم المشهد الفلسطيني الواسع من خلال اختيار الشخصيات وإخضاعها لعملية تَفَحص تفضي في النهاية إلى تشكيل المعنى الذي يحاول الروائي إيصاله إلى القارئ: أي القول إن التجارب الفردية للفلسطينيين محكومة مسبقًا بواقع الفلسطينيين كشعب استؤصل من أرضه وأصبح مستحيلًا على أفراده أن يعيشوا وتتطور حياتهم بمعزل عن اختراق التجربة العامة وتأثيرها المسبق على لحظات عيشهم. ويمكن أن نلحظ التنوع الشكليّ في روايات غسان وتطور تجربته من الشكل، الذي تأثّر برواية «الصخب والعنف» للروائي الأمريكي الجنوبي وليم فوكنر، في «ما تبقى لكم» (1966)، عبر تعدد الرواة وجعل الأرض شخصية محورية من شخصيات الرواية، إلى رواية الفكرة التي تستخدم الشخصيات بوصفها وسائلَ سردية لإيصال فكرة محورية معينة. لكن اللافت في أعمال غسان الروائية هو قدرتها على التعبير عن التجربة التاريخية للشعب الفلسطيني، عن عناصر القلق والغنى الداخلي لهذه التجربة.

 

على أرضية هذا الفهم تلتقي روايته «رجال في الشمس» مع مجمل أعماله القصصية والمسرحية، حيث يكشف الفلسطيني عن وجهه الإنساني ويعيد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية على نفسه: أسئلة الولادة والموت، والعلاقة بالأرض، والرحلة والمصير المُعلَّق على «جسر الأبد» (عنوان واحدة من مسرحياته). إن رواياته تهتم بتقديم إجابة سردية على الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت، كما في «رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم» على اختلاف ما بين هاتين الروايتين من تجلية لوضع الفلسطيني وشروط استجابته لتهديد الموت. ولعل انشغال غسان بالعثور على أجوبة لأسئلته المؤرقة حول فلسطين دفعه إلى تعميق أسئلته لتصبح سؤال الإنسان المقتلع المفني المغترب عن شرطه الوجودي، ما جعل عددًا من رواياته صالحة لتكون ذات صبغة إنسانية خالصة، عالميّة الهوية بسبب الشُحنة الوجودية العميقة التي تنطوي عليها الشخصيات والأحداث. يعود ذلك إلى كون غسان، مثله مثل محمود درويش، يدرك أن الحكاية الفلسطينية هي من بين الحكايات الكبرى والتراجيديات المعقدة التي تصلح لأن نفسر على خلفيتها معنى صراع البشر على الأرض والتاريخ، لذلك عمل على كتابة هذه الحكاية بصورة تضعها في سدة هذه الحكايات الكبرى. ومن هنا تبدو روايته، التي تهز قارئها من الدال، أعني «رجال في الشمس، بمنزلة جدل مركَّب للأسئلة الفلسطينية والأسئلة الوجودية، ذات الأعماق الإغريقية، التي تتعلق بلا جدوى بالفعل البشري وسخرية القدر في اللحظات المصيرية المعقدة. إن غسان يكتب واحدًا من أعماله الرئيسية الأساسية وهو يرى حركة التحرر الوطني الفلسطينية وقد بدأت تتراءى في الأفق، ولذلك يسأل أبو الخيزران: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟» لكنه يبني عمله الروائي بطريقة تضع هذا السؤال المُدوّي، الذي يحمل نبرة اتهام قصوى للذات والآخرين، في تقاطع مع ثقل المصير، وضغط المأساة، وحضورها القوي الذي يلغي مفاعيل السؤال الذي سأله أبوالخيزران. لم يكن غسان، بحدسه القوي وذكائه النادر ككاتب ومثقف، راغبًا في التبشير ببزوغ الحركة الوطنية الفلسطينية من رحم التاريخ ثانيةً، بل كان يهدف من «رجال في الشمس» إلى كتابة التراجيديا الفلسطينية بصورة تجعلها قادرة على الالتحام مع تراجيديات أخرى في التاريخ يتراءى فيها المصير المعقد للأفراد والشعوب. ومن هنا فإنه يدفع بشخصيات عمله الروائي إلى حتفها المحتوم الذي تغذ الخطى نحوه بعيون معصوبة.

 

يحول غسان كنفاني رواياته إلى أُمثولات (Allegories), إلى حكايات رمزية قادرة على إضاءة نفسها فيما هي قادرة على إضاءة حكايات الآخرين. بهذا المعنى فإن في الإمكان النظر إلى رواية «ما تبقى لكم» لا بوصفها روايةً عن مصير الفلسطيني، ورحلته التي قرر فيها أن يأخذ مصيره بيديه ويجابه عدوه، بل بوصفها رواية تحدي الإنسان للشروط المُذلّة المفروضة عليه. إن غسان يوضح، من خلال الشخصيات التي يرسمها، والشروط التي يغمس فيها هذه الشخصيات، أن خلاص الإنسان ينبع من داخله، من قدرته على المواجهة واتخاذ قراره بنفسه. وهو يضع قارئه في مواجهة هذه المحصلة الفلسفية الوجودية لبحثه الإبداعي، يقيم بناًء سرديًا مركبًا يوحي بأن القدر التراجيدي الضاغط يلغي مشيئة الإنسان.

 

مصائر كارثية

تقول أعمال غسان، في الظاهر لا على الحقيقة: لا مهربَ من القدر. لكنها، وهي تُكثّف التعبير عن المصير الذي تلوح كارثيته في الأفق، تشدد على ضرورة أن يأخذ الإنسان مصيره بيديه. وهذا هو معنى سؤال أبي الخيزران الشهير في «رجال في الشمس» الذي وجد جوابه في الصفحات الأخيرة من رواية غسان التالية «ما تبقى لكم» التي يدل تركيبها السردي المعقد، برمز الساعة فيها وجعل الأرض من بين الشخصيات الفعليّة في الرواية، على رغبة غسان في كتابة أعمال روائية يطلع بعضها من قلب بعض. كما يدل الأمر السابق على مواصلة غسان وضع التجربة الفلسطينية في أفقها الإنساني الواسع، ولعل «ما تبقى لكم»، باستخدامها تقنية تعدد الأصوات واستلهامها رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، تحاول أن تضع السؤال الفلسطيني الذي يشغل شخصياتها، في قلب أسئلة المصير البشري. فـ «ما تبقى للفلسطيني» يتصل بالشرط الوجودي للصراع بين البشر، ولا يخص الفلسطيني وحده. ومن هذه النقطة بالذات يصعد عمل غسان كنفاني ليحقق كونيته واندراجه في أفق الثقافة العالمية، ويصطف جنبًا إلى جنب مع الأعمال الروائية الكبرى التي أنجزت في القرنين التاسع عشر والعشرين في العالم على وسعه. لكن غياب الترجمات المميزة لعمل غسان إلى اللغات الأساسية، وعدم تبني دور نشر كبيرة لهذه الترجمات، لم تمكنه حتى هذه اللحظة من احتلال مكانته الفعلية في مكتبة الأدب العالمية.

 

إذا نظرنا إلى أعمال غسان كنفاني الروائية الأخرى: «أم سعد» (1969)، و«عائد إلى حيفا» (1969)، والروايات غير المكتملة، مثل «العاشق» و«الأعمى والأطرش» و«برقوق نيسان»، سوف نجد أن الروائي يواصل، تحت ضغط الشرط التاريخي، بحث سؤال الوجود الفلسطيني في ضوء الشروط الإبداعية نفسها: وضع فلسطين تحت مجهر الوجود الإنساني المعقد، وعدم الانزلاق إلى التعبير المبسط الشعاريّ عن قضيتها الكبرى التي تلامس وجدان البشر جميعا.

 

على الرغم من أن البعض قد يقول إن «أم سعد» قد اضطرت إلى تبسيط قولها والاقتراب من لغة الشعار والبطولة، فإن قراءة معمقة لهذا العمل الروائي غير المركب تجعلنا نرى العمق الإنساني لهذه الحكاية الفلسطينية. إن أم سعد، الرواية والشخصية، ذات سطوح رمزية في وجه من وجوهها، وهذا ما ينقذها من الوقوع في وهدة الشعار والانسياق وراء نبرة البطولة الجوفاء التي أوقعت كثيرًا مما كتب من أدب فلسطيني في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وحتى في ثمانينياته وتسعينياته، في الضحالة والضعف الأسلوبي.

 

إذا كانت «أم سعد» تبدو في الظاهر عملًا روائيًا بسيطًا غير معقد فإن «عائد إلى حيفا» هي بحث عميق في معنى الهوية والمصير والانتماء، وأثر شروط العيش اليومي في تشكيل القناعات وقرارات البشر في أن يكونوا أو لا يكونوا. تقول «عائد إلى حيفا»: ليس الدم هو الرابط الوحيد بين الفلسطينيين بل الفعل والانتماء إلى الأسئلة المصيرية نفسها. إن هذه الرواية الساحرة تستشرف أسئلة التحرر الوطني الفلسطيني وتعيد تركيب الهوية الفلسطينية من خلال المواجهة التي تقوم بين الأب الفلسطيني والابن الذي أصبح يهوديًا بالتربية والتبني. هكذا يواجه الفلسطيني صورته المنقسمة، بل المشروخة، في مرآة الصراع المعقدة، ويقرر في النهاية أن يقاوم دون المضيّ في مفاوضة عقيمة مع الآخر الذي هو امتدادٌ له، عبر رابطة الدم، وانفصالٌ عنه كذلك في قراره المصيريّ بالاصطفاف مع العدو الذي ربّاه.

 

لا أظن، في سياق مراجعة ما أنجزه غسان كنفاني على الصعيد الإبداعي، أن هناك روائيًا فلسطينيًا آخر استطاع أن يغوص في أعماق التجربة الفلسطينية ويكتب جوهر هذه التجربة، جاعلًا مغامرة الفلسطينيين تتقاطع مع مصائر البشر جميعًا، معطيًا الحكاية الفلسطينية ملامح تاريخية مركبة وامتدادات فلسفية تدور حول أسئلة المصير والإرادة وقدرة الإنسان على التدخل في اللحظة الحاسمة لتقرير مصيره الفردي والعام. ومن هنا أهميةُ غسان المزدوجة: على الصعيد الإبداعي، إذ استطاع أن يضع الرواية الفلسطينية في أفق الكتابة السردية العربية المبدعة، وعلى صعيد التعبير عن الحكاية الفلسطينية التي أصبحت في كتاباته حكاية البشر لا حكاية الفلسطينيين وحدهم عندما بادل الشخصيات الفلسطينية بشخصيات غير فلسطينية في قصصه ومسرحياته، وفعل العكس في رواياته، لتلتحم مصائر الفلسطينيين بمصائر غيرهم من البشر.

 

قصص تراجيديا العيش الفلسطيني

قصص غسان كنفاني القصيرة لا تختلف في منطوقها كثيرًا عن رواياته، ففيها أيضًا نعثر على تبادل المصائر، والأفق الإنساني الذي يحمل غسان إليه أبطال قصصه. ثمّة في قصصه تحوّل جذري في الكتابة القصصية الفلسطينية، ووصولٌ بها إلى مستوى لم يتحقق في كتابات القاصين الفلسطينيين قبله. ورغم عمره القصير على هذه الأرض، أصدر غسان أربع مجموعات قصصية: «موت سرير رقم 12» (1961)، أرض البرتقال الحزين» (1963)، «عالم ليس لنا» (1965)، «عن الرجال والبنادق» (1968)، إضافة إلى عدد من القصص تمّ ضمُّها إلى مجلد أعماله القصصية الكاملة الذي نشرته لجنة تخليده في العام 1973.

 

إذا كانت روايات غسان قد اهتمت بتقديم إجابة سردية على الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت، فإن قصصه تقرأ تراجيديًا العيش الفلسطيني في حياة شخصيات مُغْفَلَة الهُويّة تعيش ضمن الحدود الدنيا لشروط الوجود. إنها تعيش على حواف التاريخ وفي قلب المغامرة الوجودية المعقدة، وتمثل في الوقت نفسه كينونة رمزية، مثقلةً بالمعنى، لانسحاق الإنسان ضمن شرط التاريخ.

 

لاشك في أن غسان كنفاني كان يكتب قصصه، بدءًا من «كعك على الرصيف» (التي نشرها للمرة الأولى في مجلة العربي) وصولًا إلى آخر قصة لم يتح له أن يكملها، وفي ذهنه تجربته الفلسطينية المريرة اللاهبة. وهو لذلك لم يكن راغبًا في كتابة قصص تغيب عنها فلسطين لتحضر في صورها المطلقة المجردة. كان غسان كنفاني يكنّي عن فلسطين في قصصه، ويشير إليها مداورةً وهو يكتب «عالم ليس لنا» أو «أرض البرتقال الحزين»، واضعًا فلسطينه الشخصيةَ والوطنيةَ في قلب الممارسة البشرية للعيش، ناظرًا إليها في حضورها الأقوى وتمثيلها المعقد للإنسان المعذب المرتحل الباحث عن تحقيق مصيره والذاهب ليجابه حياتَه أو موتَه. ويمكن لقارئ قصصه أن يستبدل الشخصيات الفلسطينية بشخصيات من جنسيات وأزمنة أخرى، ليكتشف أن غسان حوّل فلسطين إلى تعبير رمزي معقد عن تراجيديا العيش الإنساني على الأرض.
----------------------
* كاتب من الأردن.

 

 

 

 

في أعماله الأدبية ينظر غسان إلى الهوية الفلسطينية بوصفها هوية متحركة وقادرة على تقديم نفسها كمثال للمقاومة الإنسانية رفيعة المستوى