عودة إلى الأدب

الحرية هي النور المقدس للعقل الذي يقوم الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بتسليطه على وقائع وعلاقات ما يقوم بدرسه كي تتكشف حقائقه الملتبسة، وتستبين شروطه المراوغة، فيسلس قياد الموضوع المدروس، ويتجلى ما لم يكن معروفا ولا منطوقا من أسراره التي لا تجود بالخبيء من معارفها، ولا بالمسكوت عنه من صوامتها إلا لمن هو قادر على إنطاق المسكوت عنه، وإذاعة أسراره الكاشفة على عاشقي المعرفة، في جسارة من يعرف أن الحرية هى الشرط الأول لاكتمال حضور الكائن الإنساني الذي كرمه الله على بقية مخلوقاته بكونه حرا قادرا على اختيار أفعاله التي يصنع بها بنو الإنسان عالمهم على أعينهم، وذلك منذ أن خلقهم الله أحرارا، يمتلكون من شجاعة الحضور في الوجود، وشجاعة الكشف عن غير المعروف، وجسارة إنطاق المسكوت عنه.

 

مهما كانت تكلفة فعل الحرية الذي هو الأصل في معنى اختيار مصائرهم، والمعيار الذي تتحدد على أساسه إثابتهم أو نقيض إثابتهم على كل فعل خلاق من أفعال معرفتهم التي يهتدى بها من حولهم، وتستنير بها مجتمعاتهم. ويتوافق مع فعل الحرية في معنى النور، العقل الذي هو نور بدوره، ذلك لأنه يحل محل الضوء الذي يهتدي به كل فعل خلاق، يرتقي بمعنى الوجود الإنساني في حالة الفعل الابتكاري للذات العارفة التي لا تكتفي بالكشف الدائم عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف، بل يحرقها الشوق إلى تعرف كل شيء يغتني به وجودها الذي يكشف العقل عن أسراره، مدفوعا بالدافع الخلاق للحرية التي لا يكتمل الحضور المعرفي للكائن إلا بها، خصوصا من حيث تلازم الحرية والعقلانية في تأسيس كل فعل معرفي غايته الارتقاء بالإنسان من وهاد الضرورة إلى ذرى الحرية، ومن كثافة الإظلام إلى شفافية النور، ومن ثم الانتقال بالجماعة من حال الجهل إلى مقامات المعرفة وأحوالها التي يغدو بها الإنسان إنسانا متصفا بكمال الحضور أو حضور الكمال.

 

وعندما تتلازم الحرية مع العقلانية في المعنى والمغزى، تتولد دلالة الإنسانية التي هي اللازمة التي يكتمل بها العقل التنويري للإنسان، والجسارة المعرفية غير الهيابة التي يخترق بها هذا العقل حجب الظلام، وعوائق التخلف، مفسحا الطريق للنور الأسني للمعرفة أو العلم الذي تكتمل به إنسانية العارف التي تجاوز الخاص إلى العام، وتنفذ من المتعين إلى الملموس إلى المجرد الذي يتنزل منزلة القانون أو المبدأ الكلي، حيث تتقارب المتشابهات، وتتباعد المتضادات على درجات من سلم قانون السببية الذي يغدو منطقا داخليا للفعل المعرفي للذات في علاقتها بها بما تسعى إلى معرفته أو إدراكه، بعيدا عن أي سطوة مسبقة، أو أي عائق سابق على الحركة الذاتية لفعل الذات المعرفي في كل مجال من مجالات ممارستها للحرية التي هي فعل اجتماعي وسياسي في آن، ما ظل محافظا على إنسانيته التي تتخذ مكوناتها أو محفزاتها الثلاثة ما يمنح المعرفة حضورها المتغير بتغير الزمان والمكان والوضع أو الشرط الاجتماعي.

 

حلقة وصل بين ابن خلدون ودور كايم

أغلب الظن أن طه حسين كان يفكر في شيء من ذلك، بمعنى من المعاني، عندما عاد من فرنسا حاملا درجة الدكتوراه الجديدة، وبعد أن اكتملت له عدته من معارف الفلسفة العقلانية التي ارتبطت باسم ديكارت والديكارتية، فضلا عن المعارف الاجتماعية التي جعلته حلقة وصل بين فلسفة ابن خلدون الاجتماعية وإميل دور كايم ( 1858 - 1917) الذي تأثر كل التأثر بفلاسفة عصر التنوير الفرنسي. أمثال سان سيمون ومونتيسكيو وجان جاك روسو وفولتير وديدرو، وذلك على نحو أكد في وعي طه حسين مبادئ أساسية، أهمها:

 

1 - وجوب ملاحظة ودراسة الظواهر الاجتماعية دون التأثر بأفكار سابقة، وتحليلها كما هي موجودة، بعيدا عن أي مؤثرات خارجية، والتحرر بصفة مطردة من فكرة سابقة، مهما كانت وأيا كانت.

 

2 - تعريف الظواهر الاجتماعية المدروسة بما لا يخلط بينها وغيرها، وذلك لتحديد الآلية المنهجية التي تساعد على الوصول إلى تحديد الخصائص الجوهرية للظاهرة من خلال درس الخواص الخارجية التي تنتهي بالباحث إلى اكتشاف الخصائص الجوهرية.

 

ولم يقتصر تأثير الوسط الأكاديمي الفرنسي على دور كايم، فقد كان هناك بوجليه الذي ساعد دور كايم في الإشراف على طه حسين، ومعه جلوتسس أستاذ التاريخ اليوناني، وبلوك أستاذ التاريخ الروماني، وسينوبوس أستاذ التاريخ.

 

وعندما وصل طه حسين إلى مصر في سنة 1919 كان كل شيء يتوثب بثورة 1919 التي تركت أعمق الأثر في المجتمع المصري، وخلخلت التقاليد الثابتة إلى أبعد حد. وتم تعيين طه حسين أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية التي كانت لاتزال أهلية، وظلت كذلك إلى سنة 1925، حين أصبحت مصر مملكة، وتم تتويج السلطان فؤاد ملكا على البلاد، فأمر بتحويل الجامعة إلى جامعة حكومية، تشرف عليها الجامعة إشرافا كاملا. وانتقل طه حسين من قسم التاريخ إلى قسم اللغة العربية الذي صار أستاذا فيه، وذلك بنفوذ رعاته من الأحرار الدستوريين، وعلى رأسهم عبدالخالق ثروت الذي حضر المحاضرة الأولى لطه حسين بوصفه مدرسا للتاريخ.

 

عودة إلى الأدب

ويبدو أن الفترة من 1919 إلى 1925 كانت فترة انتقالية لازمة، كي يستكمل طه حسين استقراره النفسي والفكري. وهي الفترة التي اكتملت بالعمل في قسم اللغة العربية، ومن ثم بداية العودة إلى المجال الأثير للأدب العربي في عصوره المختلفة التي ينهض على درسها قسم اللغة العربية، حيث انطلقت الثورة الفكرية العاصفة التي تكامل فيها مبدأ الحرية مع لوازمه التي تصل النزعة العقلانية بالنزعة الإنسانية. وهكذا تحددت شعارات الحرية وأسس ممارستها المنهجية في الدرس الأدبي على النحو التالي:

 

أولا: إن الوقت قد حان لوضع تاريخ أدبي صحيح، يتناول آدابنا وفنوننا العربية بالبحث العلمي الحقيقي. هذا النوع من التاريخ يحتاج إلى جهود متضافرة في مجالات عديدة، منها التحقيق والتوثيق، ومنها الدرس العلمي والفني. ولكن هذه الجهود لم تبذل بعد، ولم نعرفها على وجهها العلمي الصحيح الذي عرفه طه حسين في فرنسا، أو قرأه مترجما إلى الفرنسية. ولأن هذه الإنجازات العلمية لم تحدث في الآداب العربية، ولم تتراكم بما يؤدي إلى تأسيس وعي علمي في الدرس الأدبي، فإن الأمر انعكس على درس تاريخ الأدب العربي الذي لم نكتشف الكثير من نصوصه، إلى أوائل عشرينيات القرن الماضي، ولم تحقق، ولم يُدرس أدباؤه وشعراؤه، إفرادا أو جمعا، درسا منهجيا خالصا، ولا انتهى تحقيق نصوصه، رغم كثرة هذه النصوص في الجاهلية والإسلام. وكيف تريد أن تضع تاريخ الأدب العربي - في ما يقول طه حسين - «ولم يدون للغة العربية فقها على نحو ما دون من فقه اللغات الحديثة والقديمة، ولم ينظم للغة العربية نحوها وصرفها على نحو ما نظم للغات الحديثة والقديمة نحوها وصرفها». وأضف إلى ذلك عدم وجود معاجم تاريخية، معتمدة على النصوص الصحيحة، تبين تطور دلالات الكلمات، فتعين على فهم أدق للنصوص. ولابد أن يدرس هذا كله وغيره درسا علميا تاريخيا، حتى إذا أثمرت الجهود العلمية المتضافرة، في كل المجالات اللازمة للتاريخ الأدبي، من الممكن صنع تاريخ أقرب إلى الدقة، وأكثر عونا لكل علم يترتب عليه، أو يبدأ منه.

 

ثانيًا: علمية التاريخ الأدبي أو عقلانيته، في بعده المنهجي، وذلك بالمعنى الذي يكون به التاريخ الطبيعي وصفا علميا للكائنات الطبيعية. ومن أراد أن يصف شيئا من الأشياء وصفا علميا صادقا فعليه أن يعطيك صورة صادقة منه في ذاته. ولن يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا تجرّد بوصفه باحثا من تحيزاته المسبقة، ومن الأوهام الشائعة التي رسخت في الأذهان، فأصبحت في حكم المسلمات غير القابلة للنقاش.

 

ثالثًا: يبقى مبدأ المبادئ ونقطة البدء التي ينطلق منها البحث ليعود إليها، أقصد إلى مبدأ الحرية الضروري بالقياس إلى العلم والأدب والفلسفة والفن، وهو ضروري بالقياس إلى الحياة العقلية والشعورية كلها: حرية الفكر. ويوضح طه حسين ذلك بقوله: «أريد أن أحدثك عن هذه الحرية التي يطمع فيها كل علم ناشئ ليستطيع أن يقوى وينمو ويأخذ بحظه من الحياة، هذه الحرية هي التي تمكنه من أن ينظر إلى نفسه كأنه كائن موجود ووحدة مشتعلة، ليس مدينا بحياته لعلوم أخرى أو لفنون أخرى أو لعوامل اجتماعية وسياسية ودينية أخرى. أريد أن يظفر (درس) الأدب بهذه الحرية التي تمكنه من أن يدرس لنفسه. والتي تمكنه من أن يكون غاية لا وسيلة». وتلك عبارات تسترجع معاني الموضوعية على النحو الذي فهمها به طه حسين من أستاذه دور كايم، والتي جعلها تقوم على مبدأ الحرية التي أصبح هو إياها على مستويات التنظير والممارسة في آن. ولذلك يوضح طه حسين ما يعنيه بقوله: «الحرية بهذا المعنى شرط أساسي لنشأة التاريخ الأدبي في لغتنا العربية. فأنا أريد أن أدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف، كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات، لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان. وأنا أريد أن يكون شأن اللغة والآداب شأن العلوم التي ظفرت بحريتها واستقلت بها من قبل، والتي اعترفت لها كل السلطات بحقها في الحرية والاستقلال».

 

وانطلاقا من تضافر العقلانية والحرية، ومعهما النزعة الإنسانية التي تكمل الزوايا الثلاث لمنهج الدرس الأدبي، انطلق طه حسين في بحث الأدب العربي.

 

معركة المعارك

وكان لابد أن يدخل في معارك متدرجة إلى أن وصل إلى معركة المعارك. وكانت المعركة الأولى خاصة بالعصر العباسي الأول، ذلك العصر الذي يبدو من كتاب الأغاني أنه عصر لهو وعبث ومجون، ويبدو فيه هارون الرشيد خليفة ينتقل من جارية إلى جارية، كأن لا شيء في حياته غير عالم الحريم بغموضه وسحره وأوهامه. وكان لابد للنزعة العقلانية أن ترفض هذه الصورة، وأن تضع في مقابل صورة هارون الرشيد اللاهي صورة هارون الرشيد الذي كان يحج عاما ويغزو عاما آخر، ونترك للعقل أن يعيد تشكيل الصورة المقبولة منطلقا من هذا الخليفة التاريخي الذي كان لابد من إعادة الاعتبار إليه. ومن يقرأ مقالات «حديث الأربعاء» التي كان ينشرها طه حسين في جريدة «السياسة الأسبوعية» التي كان يرأس تحريرها صديقه محمد حسين هيكل، فسوف يجد أن المعركة الأولى لنزعة الحرية المضفورة بالعقلانية، كانت حول العصر العباسي الأول، ومع الأستاذ محمد كرد علي المفكر السوري الذي كان من رجال الأدب والإصلاح، وأول وزير للمعارف والتربية في سورية، ورئيسا لمجمع اللغة العربية في دمشق منذ تأسيسه سنة 1919، السنة نفسها التي فرغ فيها طه حسين من دراسته في فرنسا وعاد إلى مصر. ومن اليسير ملاحظة أن مبدأ الحرية هو الذي قاد عقل طه حسين إلى التمرد من إطار الصورة النمطية الموروثة عن العصر العباسي، وذلك بالقدر الذي قادته النزعة العقلانية - في فعل الممارسة الحر - إلى تكوين صورة مغايرة للعصر العباسي كانت مثارا للجدل والخلاف.

 

وبعد ذلك، انتقل العقل الجسور إلى دراسة ظاهرة الغزل العذري التي ارتبط بها شعراء من طراز جميل بثينة وكثيِّر عزة وقيس بن الملوح (مجنون ليلى). وقد انتهى طه حسين إلى أن هذه الظاهرة نشأت لحرمان النفوس، بوصفها نوعا من الشعر المناقض لغزل الترف الذي أنتجته الأرستقراطية القرشية، ممثلة في أبنائها، ما بين مكة والمدينة، وتمثل في شعراء من أمثال عمر بن أبي ربيعة والعرجي والأحوص بن محمد الأنصاري الذين خلفوا شعرا هو النقيض لما اصطلحنا على تسميته باسم «الحب العذري».

 

الشك ابن العقلانية وجسارة الحرية

وهنا تتضافر العقلانية مع جسارة الحرية في استخدام الشك في القصص التي صحبت هذا الشعر، والتي أرجعها طه حسين إلى القُصَّاص الذين مضوا في تأليف قصص عن عذاب الحب، لدى قوم وصفوهم حقا أو باطلا، بأنهم «إذا أحبوا ماتوا». وكان من الطبيعي أن يخترع رواة مثل هذه القصص الكثير من الوقائع الخيالية، استجابة لرغبات المستمعين إليهم، وذلك في سياق أدى إلى اختراع شخصيات بعينها من العاشقين الذين لابد أن تنتهي قصص حبهم الخيالية بالموت، كما حدث مع قيس بن الملوح، أو مجنون ليلى العامري الذي شك طه حسين في وجوده التاريخي، من منظور فعل الممارسة الذي تضافرت فيه الحرية في الفكر مع النزعة العقلانية التي تضع المعطيات المتاحة للموضوع المدروس موضع المساءلة الصارمة التي لا تخشى من النتائج التي تنتهي إليها، مادامت قد بدأت فعل المساءلة بالتسليم بأن الدرس الأدبي» في حاجة إلى ألا يعتبر علما دينيا ولا وسيلة دينية. وهو في حاجة إلى أن يتحرر من هذا التقديس. وفي حاجة إلى أن يكون كغيره من العلوم قادرا على أن يخضع للبحث والنقد والتحليل والشك والرفض والإنكار، لأن هذه الأشياء كلها هي الأشياء الخصبة حقا».

 

هكذا، يصل طه حسين إلى معركته الكبرى التي ضمها كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي صدر في مارس سنة 1926، حيث يفاجئ طه حسين القارئ بقوله متحدثا عن منهجه في كتابه: «أريد أن أقول إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة في ما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع هذا المنهج الفلسفي الذي استخدمه «ديكارت» للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما. والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرًا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غلا مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث».

 

وتنتهي المقدمات المنهجية إلى النتيجة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، وهي: «أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام». هذه النتيجة بما حملته من صدمة هائلة كان لابد أن تثير ثائرة المحافظين، أولا، على طريقة «المحدثين» التي اصطنعها طه حسين في الدرس، وهي طريقة زاد من حدة الهجوم عليها ما ورد في الكتاب من شك في السلامة التاريخية للقص القرآني الذي رأى طه حسين أن الأصل في بعض آياته هو ضرب المثل الذي قد ينطوي على نوع من التخييل المراد به التأثير في النفوس وليس التأريخ الحرفي الذي يقوم على إخفاء الحقائق المجردة. وبدأت حملة الهجوم على الكتاب الذي لم ينل كتاب مثله من الهجوم في تاريخ الفكر العربي الحديث إلى اليوم ما ناله. وتعددت حملات التشكيك في الكتاب وصاحبه، فقيل إن فكرة الكتاب مأخوذة من بحث لمارجليوس عن الشعر الجاهلي. واقترنت حملات التشكيك بالذمة العلمية بحملات التشكيك في سلامة العقيدة وانهالت على طه حسين حملات التكفير التي اختلطت بدوافع سياسية ونوازع اجتماعية غير بريئة، وصدر في الرد على كتاب «في الشعر الجاهلي» كتب عديدة، سبق أن أشرت إليها في مقال سابق ضمن هذه المجلة (عدد ديسمبر سنة 1999).

 

القضاء على حلم الخلافة

ولا أريد تكرار ما سبق أن ذكرت. لكن حسبي الإشارة إلى السياق التاريخي لكتاب طه حسين الذي صدر في سياق، لم يكن يخلو من توتر سابق، تسبب فيه كتاب علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي قضى على حلم الملك فؤاد في الخلافة، حين صدر ليؤكد أن الإسلام لم يفرض على المسلمين نظام حكم بعينه، وأنه ترك الأمر لاجتهادهم في اختيار النظام السياسي الذي تستلزمه متغيرات حياتهم وشروط زمنهم في هذا العصر أو ذاك. وكانت الخلافة العثمانية قد سقطت في مارس 1924. وتطلعت الأنظار إلى إحيائها. وكانت أكثر الأعين تطلعا إليها هي عينا عبدالعزيز بن سعود في المملكة العربية السعودية، وعينا الملك فؤاد الذي تطلع إلى أن يكون خليفة، يبايعه المسلمون، بديلا عن الخليفة الذي سقط والخلافة التي أسقطها كمال أتاتورك، والتي رثاها الشاعر أحمد شوقي، بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:

 

 

عادت أغاني العرس رجع نواح

 

ونعيت بين معالم الأفراح

كفنت في ليل الزفاف بثوبه

 

ودفنت عند تبلج الإصباح

شيعت من هلع بعبرة ضاحك

 

في كل ناحية وسكرة صاح

ضجت عليك مآذن ومنابر

 

وبكت عليك ممالك ونواح

 

وقد أوعز الملك فؤاد لرجاله من مشايخ الأزهر أن يدعوا له، وأن يجمعوا المسلمين حوله، كي يغدو خليفة للمسلمين. ونشط الطامعون في ذهب الملك فؤاد للدعوة له، لكن جاء صدور كتاب الشيخ علي عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» كالقنبلة التي انفجرت في المشروع، فأطار الكتاب الحلم بتأكيده أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، ولا من مبادئه الواجبة الاتباع. وكان لابد من معاقبة الشيخ علي عبدالرازق، فاجتمعت هيئة كبار العلماء، وسحبت منه شهادة العالمية، الأمر الذي أدى إلى عزله من منصبه في محكمة المنصورة التي كان يتولى القضاء الشرعي فيها. واضطر ممثل الأحرار الدستوريين عبدالعزيز فهمي وزير العدل إلى الاستقالة من الوزارة التي ساندت حكم هيئة كبار العلماء - ولسوء حظ الشيخ علي عبدالرازق كان رئيس الوزراء أحمد زيور باشا، رجل الملك فؤاد، الذي أصدر قرارا بتعيينه رئيسا للديوان الملكي في أكتوبر 1934.

 

ولم تكد تمضي أشهر على ضجة كتاب الشيخ على عبدالرازق الذي عاقبته حكومة أقلية متحالفة مع ملك مستبد، إلا وقد صدر كتاب طه حسين في شهر مارس 1926، وذلك في مناخ سياسي مختلف من حيث قضية الحريات. وكانت وزارة زيور باشا قد سقطت في الثالث عشر من مارس 1925 بعد تنكيلها بعلي عبدالرازق. وجاء إلى الحكم وزارة ائتلافية، مكونة من حزب الوفد الذي أصبح حزب الأمة المتمسك بدستور 1923 الذي يحمي حرية الفكر والإبداع، وحزب الأحرار الدستوريين الذي هو حزب الليبرالية المصرية المتمثلة في أثرياء الأمة، والرافضة لدكتاتورية الملك فؤاد. وكان هذا الموقف لمصلحة طه حسين المنتسب إلى الجامعة المصرية التي عرف مجلسها آنذاك حق أساتذتها في حرية الاجتهاد والتفكير، وذلك في الجلسة التي عقدتها الجامعة لمناقشة كتاب طه حسين الذي أصدرت تعليماتها بسحبه من الأسواق، احتراما للمشاعر الدينية التي أثارها المتعصبون بتوقفهم عند بعض العبارات الملتبسة، ولم يحاسب مجلس الجامعة الأستاذ على اجتهاده، لأن هذا المجلس كان يؤمن بحرية الاجتهاد. ولذلك كان من الطبيعي أن يقف في صف أستاذ الجامعة المصرية التي كانت قد أصبحت حكومية من عام واحد.

 

ولكن مشايخ الأزهر لم يصمتوا، فتقدموا بشكاوى رسمية إلى البرلمان. وكان سعد زغلول الوفدي رئيس البرلمان في الحكومة الوفدية. ولم يتردد العقاد في الدفاع عن حرية التفكير بوصفه نائبا وفديا. وهو الموقف نفسه الذي اتخذه علي الشمسي باشا وزير المعارف الوفدي. ورغم تعاطف «البلاغ» الوفدية مع الساخطين على طه حسين بنشر البرقيات التي كانت ترد إلى الجريدة في إدانة جرم طه حسين الذي تعدى على الدين في ما اتهمه المشايخ الذين لم ينسوا سخطهم القديم عليه، فإن البرلمان قرر إحالة الموضوع للنيابة العمومية بلغة ذلك الزمان. هكذا تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ إلى سعادة النائب العمومي يتهم فيه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بأنه ألف كتابًا أسماه «في الشعر الجاهلي». ونشره على الجمهور، وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن العظيم... وفي الخامس من يونيو من العام نفسه، أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر.. تقريرا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب ألفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية وكذب فيه القرآن صراحة.. وطلب شيخ الأزهر اتخاذ الوسائل القانونية.. وبتاريخ 14 سبتمبر من العام نفسه، تقدم عبدالحميد البنان عضو مجلس النواب ببلاغ إلى رئيس النيابة حول الموضوع نفسه. وكان لابد أن تقوم النيابة بواجبها، فتولى محمد نور رئيس نيابة مصر التحقيق مع طه حسين، واستمر التحقيق إلى أن فرغ. وأصدر محمد نور قرار النيابة في التحقيق في الثلاثين من مارس سنة 1927.

 

دفاعاً عن الحرية

ويناقش القرار ما ورد في كتاب طه حسين ويحيل الجوانب الأربعة التي اقترنت بإقامة الدعوى الجنائية على المؤلف. وما إن ينتهى من ذلك حتى يأتي بفقرة خاصة عن الحكم القانوني، فيقول إن المادة الثانية عشرة من الأمر الملكي رقم 42 لسنة 23 بوضع نظام دستوري للدولة المصرية، نصت على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وكذلك نصت المادة الرابعة عشرة من الدستور نفسه على أن حرية الرأي مكفولة وأن لكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون، وأخيرا نصت المادة التاسعة والأربعون بعد المائة على أن الإسلام دين الدولة، فلكل إنسان إذن حرية الاعتقاد بغير قيد ولا شرط وحرية الرأي في حدود القانون (أو حرية الرأي التي يحميها القانون) وبعد أن تحدث رئيس النيابة يختتم تقريره الذي هو قراره بالحكم التالي: «إن للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث، حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكن لشدة تأثر نفسه بما أخذ عنهم قد تورط في بحثه حتى تخيل حقًا ما ليس بحق، أو مازال في حاجة إلى إثبات، فكان يجب عليه أن يسير على مهل، وأن يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكنه أقدم بغير احتياط، فكانت النتيجة غير محمودة. وحيث إن مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا. محمد نور: رئيس نيابة مصر. القاهرة في 30 مارس سنة 1927.

 

وفي العام نفسه الذي صدر فيه قرار النائب العمومي، أصدر طه حسين الطبعة المنقحة من كتابه بعنوان «في الأدب الجاهلي»، مؤكدا أن كتاب السنة الماضية حذف منه فصل، وأثبت مكانه فصل، وأضيف إليه فصول، وغير عنوانه بعض التغير» ، وكان من أهم فصول الكتاب المضافة الفصل الذي يتكلم فيه طه حسين عن الحرية، وهو تأصيل لاتزال له قيمته، إذ نعود إليه كلما أطبقت أصابع الاستبداد والتعصب على رقابنا، وأمسك كلاهما بقلم الباحث أو المبدع لتحطيمه. وعندئذ، نصوغ بما كتبه طه حسين، ولايزال محفورا في قلوب وعقول كل أصحاب الأقلام التي مضت على دربه في حرية البحث الأدبى، فلا نتردد في أن نكرر أقواله: «من ذا الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرا بالإسلام أو هادما له، وأنا لا أريد أن أبشر أو أناقش الملحدين، وأن أكتفي من هذا كله بما بيني وبين الله من خطر ديني؟! تستطيع أن تصدقني، فأنا أوثر صناعة من الصناعات مهما تكن مهينة مزدراة على صناعة الأدب كما يفهمها هؤلاء الذين يدرسون الأدب من حيث هو وسيلة لا أكثر ولا أقل. وهب السلطة السياسية أخذت المؤرخين بأن يضعوا تاريخهم تحت تصرف السياسة، فلا يكتبون أو يدرسون إلا إذا كان في ما يكتبون أو يدرسون تأييدا للسلطة السياسية أو على نحو من أنحاء تصرفها، أليس المؤرخون جميعا، إن كانوا خليقين بهذا الاسم، يؤثرون أن يبيعوا الفول أو الكراث على أن يكونوا أدوات في أيدي السياسة يفسدون فيها العلم والأخلاق؟».

 

هذا هو الدرس الذي علمنا إياه طه حسين فحفظناه، رغم أن زمنه كان أفضل من زماننا في حرية الفكر واستقلال كل كاتب باجتهاده الخلاق في دنيا الفكر والإبداع. ولا شك في أن ما لا ينبغى أن يغيب عن اعتبارنا أن تلك الحرية التي نادى بها طه حسين قد وجدت الشرط التاريخي الذي سمح بوجودها والدفاع عنها في الجامعة وبالجامعة، وفي القضاء وبالقضاء في الوقت نفسه. وإذا كانت جامعة طه حسين لم تعد جامعة طه حسين، بعد أن اخترقتها عوامل الفساد من داخلها وخارجها، وأسقطتها في وهاد التخلف أعاصير التسلط السياسي والدكتاتورية، فإن شعلة الحرية التي أوقدها أمثال طه حسين لم تنطفئ بعد. قد تكون خبت وأصبحت قليلة الضوء. لكن لايزال هناك من يحدبون عليها حتى في ضعفها، ومن يحفظون عهدها، وعهد المدافعين عنها؛ فالحرية ليست منحة ولا هبة من أحد مهما كان وأينما كان، وإنما هي فعل خلاق، يقوم به من يكون على أهبة الاستعداد لدفع الثمن عن طيب خاطر، ولا أجد ما أختم به هذا المثال أكثر إضاءة من كلمات طه حسين نفسه، خصوصا حين يقول: «هذه الحرية التي نطلبها للأدب لن تنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمنى، وما كان الأمل وحده منتجا، وما كان يكفي أن تتمنى لتحقق أمانيك. إنما ننال هذه الحرية يوم نأخذها بأنفسنا لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقا للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلدا متحضرا يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون». رحم الله طه حسين، ولتتوهج شعلة الحرية في كل مكان. ولنقل: أنا أفكر، فأنا حر، وأنا موجود لأفكر.

------------------------------------------

لن ينام الثأر في صدري

وإن طال مداه

لا ولن يهدأ في قلبي

وفي روحي صداه

صوت أمي لم يزل

في مسمع الدنيا صداه

وأبي مازال في قلبي

وفي روحي صداه:

أن تقدم ثابت الخطو

إلى الخير.. تقدم

وتعلم كيف تروي غلة الدمِّ

بنيران ودم

هارون هاشم رشيد