قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

-----------------------------------------

قد يكون الرابط الخفيّ بين القصص التي اخترتها أحلام التغيير ورغبات الحرّيّة والتجديد والاختلاف، حيث الأحلام التي تصطدم مع قيود الواقع، وتؤدّي إلى اغتراب المرء واستلابه في كثير من الأحيان وصراعه مع القوى الداخليّة والخارجيّة التي تتقاطع لإيقافه. ينعكس التغيير في القصص التي تهيّأ له، وذلك ليقيني أنّ أيّ تغيير لا يمهّد له الأدب يظلّ قاصرًا ومرحليًّا. القصص التي اخترتها تحاول استعادة دور الأدب الرياديّ في التهيئة للتغيير، عبر الإشارة إلى مواطن الداء في محاولة للتمرّد عليه والتخلّص منه، وذلك بأساليب لافتة ومضامين عميقة.

 

  • القصة الأولى «ممنوع عليك» لفايز مشعل التمو - سورية

في قصّة «ممنوع عليك»، يحكي فايز مشعل التمّو حكاية شابّ ينشد الحرّيّة ويتطلّع إلى استرجاع الهويّة المُستلبة، يكشف بطله حلمه بالسعي إليها، والصراع الذي يرافق ذلك، حيث يجد نفسه بين واقع كابوسيّ وحلم يتحوّل إلى كابوس. يحكي لأمّه حلمه في التغيير والتمرّد، يبوح لها بهواجسه ووساوسه، وكيف أنّ حلمه قضّ مضجعه. صوت الأمّ خافت، تكتفي بالإصغاء لمكاشفة ابنها وبوحه الصادم. في ظلّ نظام يقمع الأصوات، ويقطع الألسنة الحالمة بالحرّيّة، ويمنع على الناس التكلّم بلغتهم التي وهبهم الله إيّاها، يقايض الفتى الحالم لسانه بسجلّ يدوّن فيه أسماء قومه الممنوعة من التسجيل في الدوائر الرسميّة. يلوذ القاصّ بالحلم عساه يتمكّن من تحقيق غاياته في التحصّل على الهويّة المنشودة. يكبّله الرقيب حتّى في الحلم، يكاد يشكّ بأمّه التي أيقظته من حلمه في اكتساب سجلّه للأسماء. يكون السرد المشحون بالشكّ والقهر مَعبرًا إلى حلم يبلوره التكاتف بين جميع أبناء الوطن في سبيل تحقيق العدالة والمساواة.

  • القصة الثانية «كلب برجوازي» لعادل بن زين - المغرب

أمّا عادل بن زين فيحكي في قصّته «كلب برجوازيّ» ولادة جرو مترف، وتجيير الكثيرين لاستقباله، ثمّ تأمين أنسب الشروط لتربيته ورعايته، وبالتالي تهيئته لتسلّم عرش مزرعته من أبيه الذي يدهمه مرض خبيث. يقسّم قصّته إلى أربعة فصول، يمارس عبرها إسقاطاته وتلميحاته كأنّه يشير إلى الفصول الأربعة المتعاقبة على الطبيعة والكائنات معًا، ولعلّه يروم تأويلًا آخر إلى أطوار الحكم وويلاته. في كلّ فصل يسلّط الضوء على مرحلة وحالة، تتعاقب المراحل والحالات لتصل بالجرو الذي يعاني الكثير من المشكلات الجسدية والنطقية والنفسيّة إلى خلافة والده وتسيير شئون مزرعته. يصوّر غرائب عالم صاخب، بحيث يكون التشوّه المرافق للمسوخيّة ملهاة الواقع ومأساته. ورغم أنّ تاريخ الأدب العربيّ يعجّ بالكتابة عن الحيوانات وعلى ألسنتها واستنطاقها بغية الإسقاط وإضفاء المعاصرة، فإنّ القاصّ لم يوقع نفسه في فخّ التقليد، بل استلهم من سيَر «الحيوان» المعاصرة، حيث الاحتفاء الذي يتقدّم على حساب إهمال الكثير من البشر؛ الذين يوقفون لخدمته ويُرهنون لنزواته.

  •  القصة الثالثة «المتسول» للمى ضرغام - الأردن

تضجّ قصّة «المتسوّل» برغبة التغيير والتمرّد، الطفل الرضيع الذي يجد نفسه بين يدي أمّ تجيّره للتسوّل وتستغلّ طفولته كمادّة لتسوّلها، يسعى إلى تحدّي تلك الصفاقة. يكتشف الحنان في العالم الموازي، حين تهمله أمّه تاركة إيّاه غارقًا في قذارته والأوساخ تغطّي وجهه وجسده، تقترب منه قطّة تلعقه، كأنّها تقوم بتنظيفه في الوقت الذي تمنحه دفء الأمومة المفقود لديه. يثور الطفل على سلوكيّات أمّه وممارساتها، يبحث عنها بين الناس، عساه يستعيد تلك الحالة التي بثّت فيه الحنان والدفء والأمان. يصرخ، يتمرّد، يثور، يعضّ يدها، يدميها، كأنّما تشاركه الطبيعة رغبته في التغيير فيسقط مطر الثورة، يغسل أوساخه، وينظّفه. يواجه أمّه، ينظر في عينيها منبّهًا إيّاها إلى واجب الأمومة المنشودة. تتنوّع أصوات القصّ في «المتسوّل»، بين رضيع يستهلّ السرد، إلى قاصّ عليم، إلى اتّحاد الأصوات وتوحّد الحالة. الأزمة التي يجد نفسه فيها، تربكه، يبحث لها عن حلول، تكون صرخته المدوّية باحثة عن براءة الطفولة ونقاء الأمومة معًا.

  •  القصة الرابعة «لا يسمع» لحاتم الأمين داموس حاج الحسن - السودان

في قصّة «لا يسمع» يلتقط حاتم الأمين مفارقاتٍ مريرة، يصوّر لحظات التغيّر المفجع التي تدهم بطله غير المسمّى. يكون ضمير المتكلّم سبيله للكشف عن تواصل خواطر بطله الذي يجد نفسه مستلَب الحواسّ، يفيق صباحًا وقد هدأت الدنيا من حوله، فيظنّ أنّ هناك تغييرًا عامًّا حصل، وبعد سلسلة من المفاجآت غير السارّة له، يصدَم بأنّه فقد حاسّة السمع لديه، وأنّه قد أصيب بالصمم، وكأنّه بذلك يشير إلى الحالة غير الطبيعيّة التي تسود في أكثر من بقعة حين يعمّ المنع والقمع، ليكون فقدان السمع نتيجة حتميّة لعبثيّة الواقع، ولا جدوى الصوت المقموع. ولا يسعفه تردّده واكتشافه المفجع في إنقاذه نفسه من مصيبته، التي يبدو أنّ هناك الكثير من الأسباب المتقاطعة والمشكلات المتراكمة التي أنتجتها وأفرزتها، وتأتي الحادثة اللاحقة، حيث تصدمه عربة مسرعة لتزيد من أساه وفجيعته، أو ربّما لتريحه، كتكملة لعبثيّة الواقع.

 

----------------------------
ممنوعٌ عليك
فايز مشعل التمو - سورية

كان منظرا مرعبا والظلام يعانق الأرض عناقا يبدو أبديا، حتى أنني لم أكن أرى أبعد من أرنبة أنفي وأنا أمشي وأقلب بين صفحات عقلي عن الحجج والذرائع لأسكت بها قلبي الذي صار يضرب نفسه بضلوعي من شدة الخوف حتى حدث ما كنت أخشاه، نعم يا أمي، ربما كان كابوسا.

- خير إن شاء الله فماذا رأيت يا ولدي؟

- لا تستعجلي يا أمي، هل أنت موظفة في الحكومة؟ لأن الموظفين والحكومة كلها أصبحوا على عجلة من أمرهم في كل شيء، حتى في إصدار القوانين، كما أنهم إذا أخطأوا لا يعتذرون يا أمي، أتعرفين لماذا؟ لأنهم لم يعتادوا الاعتذار لأحد، بل أصبحوا يعتذرون بطريقة أسهل لهم، وذلك بإصدار قوانين أخرى, ربما يظنون بذلك أنهم يصلحون ما أفسده القانون السابق، ولكنهم يلحقون أضرارا أكثر من ذي قبل، لذلك لا أريد منك أن تكوني مستعجلة، حتى أنا كنت مستعجلا في الحلم عندما حكمت على الرجل الذي شاهدته، ولكنه حقًا كان رجلاً غريب الأطوار يا أمي بثوبه الأبيض، ولحيته التي تشبه عش طائر، وعصاه التي يفوق طولها طول صاحبها، حتى إني حسبته قبل أن ينطق بأي كلمة، أحد الملائكة وهو يتقدم نحوي ليفصل روحي عن جسدي، لأنه يظن أنها لاتزال تسكنه، لقد كان شيخًا غبيًا، لو حسب ذلك، أو أنه ليس من سكان الأرض، لأن الروح تغادر الجسد مرة واحدة، ولقد غادرت روحي وروح من مثلي منذ استوطن هؤلاء الحكام بلادنا، ومن لم تغادره روحه مع هذا كله تكون قد غادرته لتستنشق هواء نقيًا، لأنها سئمت استنشاق الكيماويات، آه يا أمي، صدقيني أريد أن أكمل لك الحلم، ولكن هذا الـــشيء الــــذي يـــسكن حلـــقــــي لا يسكت، أحس أنه مكبل بأسناني، وهو أيضا يتطلع إلى الحرية، لشدة تمرده علي صرت أخاف أن أفتح فمي فيتفوه هذا اللسان بما لا يسر غيري، صدقيني أحيانًا كثيرة تمنيت أن أكون أخرس يا أمي، نعم لا تستغربي ذلك، لأنني صرت أخاف أن أحدث نفسي في الليل، فأنا إما أشك في نفسي وإما في لساني لأني أخشى أن يتحرك وأنا نائم، هذا كله لا يفيدك أنتِ، سأكمل لك الحلم، تراكِ متعطشة لسماع ذلك الحلم المزعج، وأنا متعطش كلساني لأشياء كثيرة.

- مثل ماذا يا بني؟

- أهمها الحرية يا أمي، نعم الحرية، لأنه في هذا الزمن أصبح كل شيء مقيدا كلساني، حتى الطيور لم تعد تسعها السماء، أتعرفين لماذا؟ لأن الهواء نفسه هرب من هذا الفضاء الواسع اللانهائي، هرب بحثًا عن الحرية، ونحن مازلنا نحصد ما تزرعه هذه الحكومات الفاشية، لا أريد أن أعكر صفوك بأخبار كهذه لأني إن فتحت فمي بأكثر من ذلك فربما قطع لساني فعلا، لذلك دعيني أكمل حلمي مع ذلك الرجل، تقدم الرجل مني بخطوات ثابتة، خفت كثيرا، فكرت لبضع ثوان أن أضربه إذا لمسني أو اقترب مني أكثر، كان مرعبا يا أمي، تخيلي ذلك الظلام الدامس وبقعة مضيئة تتقدم نحوك، كان ينير كل شيء من حوله، لأنه لم يبق سوى بضع خطوات بيننا، أمسك يدي، شعرت بأن أعضائي شلت، وقال:

- لا تخف يا بني فليس هناك ما يخيف، اسمي الشيخ جابر، لقد فقدت طريقي وأرجو أن تدلني على الطريق.

- أحسست بشيء من الارتياح لأول مرة في حياتي، كأنه كان صادقًا بعض الشيء، ابتسمت وأنا أرتعش وقلت: لا أدري كيف أعرفك على نفسي؟

- ماذا تعني؟

- أقصد، أنا مثل أي قرية أو مدرسة أو مزرعة جميعنا نملك اسمين، أحدهما يستعمل في الدوائر والمكاتب الحكومية، والآخر يستعمل بين الأهل والمعارف فقط.

فقال وهو يضحك:

- لا تخش شيئا أخبرني كل ما تريد فنحن غدونا أصدقاء.

مشينا معاً في ذلك الليل الذي ليس له مثيل، ولأول مرة منذ تعلمت الكلام، ليتني لم أتعلمه، أطلقت العنان للساني مع ذلك الرجل، وبدأ هذا اللسان المكبوت يخرج مخزون عقلي وقلبي معًا، يخرج كبت سنين من القهر، أخبرته كل شيء من اعتقالات وإجراءات ظالمة، وعندما أنهيت كلامي، زال نور الشيخ، ونزع قناع الخير، ذعرت لما رأته عيناي، خفت، ارتعشت، هاج قلبي ولم يعرف للسكون معنى، أحسست بموجة قوية من الغباء تجتاح عقلي، خبأت لساني المسكين في فمي، وفهمت بعد فوات الأوان أنه قناع ملائكة، ذلك الرجل لم يكن رجلاً، كان وحشا، ساحرا، أ.. ….، ضحك، قهقه كثيرا، ثم قال:

- وقعت يا غبي، وقعت دون تعب.

- أرجوك يا سيدي لم أفعل شيئا، إنه لساني..

قاطعني، قائلا: سأقطعه لك.

شعرت بنسمة فرح باردة تجول في عروقي، ربما لأنه سيقطع لساني، سيقطع ما هو ضروري لغيري وعبء علي، سيقطع ما ليس لديه عمل عندي.

ثم عقب: ولكنني سأمنحك طلبًا واحدًا عوضا عنه، لأنك كنت جريئا.

ابتسمت وقلت: لك ما تريد يا سيدي، فأنا عبد لك ولأوامرك، فإنك بذلك ستحقق لي حلما لطالما حلمت به.

وبسرعة عدت إلى مفكرة عقلي أبحث بين صفحاتها عن شيء مفيد أطلبه ثمن جرأة غير مقصودة وثمن لساني، راودتني فكرة أن يكون لي سجل مدني، ولكن ماذا أفعل بالسجل إذا كان أعز صديق لي والناطق باسمي سوف ينفى من عشه؟ فأبعدت على الفور هذه الفكرة، ولكنها لم تكن تفعل حتى أحسست بأن هذه الجمجمة فارغة من كل شيء سوى فكرة السجل، كأنني لم أكن ذلك الكردي الذي لم يجد لحظة فرح في حياته، الذي يعاني مشكلات عديدة، بحثت كثيرًا ولكن دون جدوى، فلم أجد سبيلاً آخر، فقد فرغ مخزون هذا العقل التعيس، ربما لأنه حزين على فراق صديق له، كانا يتحدثان في الليل كثيرا بلغتهما الخاصة، لذلك هو يطلب طلبا تعجيزيا، فوافقت وأنا غير راض عما طلبته، فماذا يعني أن أكون مواطنا من دون لسان؟ المهم حان وقت التبادل، أخرجت لساني ليقطعه وأنا أنزف دموعا، لما كنت ذرفتها لو مت أنت يا أمي، لا قدر الله طبعا، وجميع أعضائي توقفت عن العمل، كأنها تقف دقيقة صمت لفراق صديقها، مددت يدي لأقبض ثمن صديق عمري، الذي بعته بثمن رخيص، وأنا أعرف أن الذين لديهم سجل ولسان لم يفعلوا شيئا، كدت أمسك السجل، جاء صوتك ليوقظني، كأنك أردت بي أن أفقد صديقي من دون مقابل، كنت سأمسكها بيدي وأقرأ الجنسية «….،س» كم كرهتك يا أمي، أخشى أن تكوني معهم، أخشى التحدث إليك، وأنا نادم على ما قلته لك.

 

----------------------------
كلب برجوازي
عادل بن زين - المغرب

 - 1 -

أحست السيدة الكلبة المحترمة بآلام المخاض، وتيقنت أنها على مشارف الوضع. هرعت سيارة الإسعاف بسرعة جنونية إلى مصحة الولادة، فالسيد الكلب المحترم لا يحتمل رؤية كلبته المحترمة تنتفض من شدة الألم، ولا يحتمل أن يتعرض ابنه البكر لمكروه.

توقفت السيارة الأنيقة، المجهزة بأحدث وسائل الإسعاف الأولي، أمام بوابة المصحة الضخمة. وفي لمح البصر، تدفق أطباء التوليد، والتخدير، والترويض، والممرضون والمساعدون. تحلق الجمع الغفير حول الكلبة المصونة. أنزلت برفق تام خوفا من بعض المضاعفات المحتملة، ثم نقلت إلى جناحها الخاص، بعدما تم إفراغه كاملا في طرفة عين.

كان ذلك اليوم مشهودا في تاريخ المصحة، فالهواتف لم تنقطع عن الرنين، والأطباء لم يعرفوا طعم الراحة، والكلبة المحترمة لم تكف عن الصراخ. بدا البطن منفوخا بشكل مريب، حتى إن الطبيب المشرف على الولادة ظن، في البدء، أنها تنتظر توأما.

وقف الكلب المحترم بأوداجه المنتفخة، ووجهه الطافح بالدم، يرقب الوضع وهو مشلول الإرادة. كانت صرخات كلبته تمزق الصمت وشغاف قلبه. كان أنفه يرتجف كلما اشتد الصراخ. ظل رابضا قربها مثل صنم هلامي يمسك بيدها اليسرى، ويمسح العرق المتفصد من جبينها.

 - 2 -

تهللت أسارير الكلبة حين تدفقت نبحة صغيرها وهو يستقبل العالم الجديد. في جوارها، بدا كلبها جاثما وقد اختلطت عليه مشاعر الأبوة. بدت عضلات وجهه تتمدد وتتقلص، وشعره ينتفض ويتلبد. تقدم من الأم على مهل، أخذ الصغير بين يديه، تشممه جيدا، مرر يده بحنان واهن على شعره وجلده اللزج، طبع على وجهه اللدن قبلة، ثم وضعه في حضن أمه كي تكمل طقوس الأمومة.

 بدا الرضيع بصحة جيدة، وظهرت عليه قسمات جمال آسر؛ خضرة عيون موروثة عن الأم، وبنية بدنية عن الأب. وتنبأ له الأطباء والعرافون بمستقبل زاهر.

 في ذلك الصباح الربيعي، اختلطت أنسام الحديقة الممزوجة برذاذ البحر وتغريد الطيور مع زغاريد الكلبة الأم وأخواتها، والممرضات وعاملات النظافة. تقاطرت على جناح الكلبة والرضيع الهدايا، وباقات الورود، وبطاقات التهنئة. وجاء الزوار من مختلف الطبقات والمراتب؛ فقد حل أمناء الأحزاب ورؤساء الجمعيات، واللصوص والخونة، وقطاع الطرق و...

 - 3 -

في البدايات الأولى لاكتساب اللغة الأم، ظهرت على الجرو المدلل أعراض عسر النطق؛ إذ كانت تتداخل الحروف في فمه، ويسعى جاهدا كي يستقيم الأمر له، فيبدو في منظر لا يحسد عليه. أحس الكلبان المصونان بالحيرة، وخافا أن يتفاقم وضع صغيرهما، خصوصا أن نطق "ماما" و"بابا" تأخر كثيرا مقارنة مع أترابه في الحي. عرضا ابنهما على أمهر اختصاصي أمراض الجهاز النطقي.

 أجرى الطبيب المعالج للجرو الصغير مجموعة من الفحوصات المكثفة، تركزت على المراكز الإدراكية، والأعصاب، والبصلة السيسائية. استنفد معها كل طاقاته المعرفية والعلمية المحصل عليها من الجامعات الأمريكية، خصوصا حين علم أن هذا الكائن الممدد أمامه على السرير، ينتمي إلى فصيلة الكلاب البورجوازية، وأنه مقبل على إدارة أملاك العائلة الكلبية المحترمة.

 كانت علامات القلق والحزن تخيم على الوجوه في بيت العائلة. فمنذ أعلمهما الطبيب المعالج أن ابنهما مصاب بالحبسة، أصبح الأب كثير الشرود، أما الأم فلم تعد عيناها تذوقا طعم النوم. أرسلا وحيدهما إلى فرنسا لإجراء عملية جراحية معقدة في الدماغ تكللت بالنجاح، لكنها أورثته صوتا خشنا يرهب كلاب الحي حين يهر.

 تلقى الجرو المنتمي إلى فصيلة الكلاب البورجوازية، منذ نعومة أصابعه، تربية على يد مربية سويسرية في بيت العائلة المحترمة، وشرب معين العلم الحديث من ألسنة أمريكيين، ونهل العلم الأصيل من أيدي علماء البلد، المشهود لهم بالحكمة، والبأس، ودماثة الخلق. وفي ظرف وجيز، حاز الجرو المثخن بالثقوب السوداء في الذاكرة، شواهد في اللغات الحية والفلسفة، والقانون والسياسة، من جامعات وطنية وأجنبية. فصار الكلب الصغير مؤهلا لتحمل أعباء العائلة المترامية الأطراف.

 - 4 -

في شتاء غائم تخللته عواصف رعدية، أحس الكلب الأكبر بتدهور مفاجئ في صحته. جاء الطبيب الشخصي، فحصه جيدا، ثم طلب نقله إلى المستشفى. بدا المريض على السرير الأبيض متآكلا، كهلا قبل الأوان. غزا الشيب رأسه، انزوت عيناه داخل كهف عميق، واصفر وجهه. عندما أخبره الطبيب بالورم الخبيث الذي التهم دماغه، شعر الكلب البورجوازي بالموت يتآكل عظامه. أمر بإحضار ابنه، أجلسه بالقرب منه، ثم قال وغصة من فولاذ تذبحه:

- أي بني الوحيد، أريدك أن تصغي إلي جيدا... أنت من الآن وريثي في أملاك العائلة.

تدخل الابن وعيناه مشدودتان إلى أنفاسه الواهنة قائلا:

- لا تقل هذا الكلام، أطال الله في عمرك، هي وعكة صحية عابرة مثل غيرها.

قاطعه الوالد وهو يجاهد التغلب على وطأة الألم:

- يكفيني يا بني من متاعب الدنيا، آن الأوان كي أخلد إلى الراحة الأبدية، وهذا الداء اللعين يستنزفني يوما بعد يوم. هذا أوانك كي تخلد عائلتك.

وما إن أكمل الكلب الموبوء وصيته حتى فاضت روحه. انشغل الكلب الوريث بمراسيم الدفن واستقبال وفود المعزين. بدا كائنا آخر، فقد ارتدى الملابس التقليدية، وأرخى لحية خفيفة لإبراز مدى حزنه لفقدان والده، كنوع من النفاق الاجتماعي والسياسي.

 في تلك الليلة، تقلب الكلب الجديد في فراشه كثيرا حتى فقد جغرافية السرير. كانت جمجمته الطويلة حقلا لألغام متفجرة، وقاعة لمحاكمات عقلية. رمى عن جسده المثقل بالأرق لبدة النوم، أشعل المصباح الكهربائي فبدا جسد كلبته النائمة بجنبه، المشرب بالبياض لامعا. تحركت قليلا ثم غطت وجهها. قفز من سريره مثل قط بري، وأخذ يذرع الغرفة ذهابا وإيابا وهو يرتشف سيجاره الكوبي.

 

----------------------------
المتسول
لمى ضرغام - الأردن

 

الندى يقطر على الجدران المتشققة، من أعمدة الكهرباء المرتعشة، وروحي. الخرقة التي لففت بها ترطبت، لم تطعمني منذ البارحة ووجهي متسخ، أرغب بالبكاء لأعلن جوعي وبردي، هآاا، لن يؤثر هذا بها وبكل الأحوال مازال الوقت مبكراً، لدي النهار بأكمله لأعمل.

 الشمس ارتفعت ما يكفي لأراها بطرف عيني، رَكَضَتْ بسرعة حين أصبحت الإشارة حمراء وأنا أهتز بين ذراعيها، أُغِلقَت نوافذ السيارات بوجهها طرقتها مرددة عدَّت دعوات، البعض ناولها النقود والآخر صرفها، توقفت سيارة فارهة، اقتربت منها وقرصتني، حان دوري لأعمل، بدأت بالصراخ، أعطاها السائق مبلغاً جيداً بدا ذلك على وجهها، جلسنا بجانب جدار أكلت وأطمعتني.

 الشمس أعلى وتمنيت لو أنها ادفء اختارت إحدى الحاويات وجلست بجانبها ومدت الخرقة التي لفتني بها على الأرض ووضعتني أمي عليها.

 أمي، هل حقاً هي أمي؟، لا تشبه من كنت أتكوّن في أحشائها، كانت أكثر دفئاً وحناناً، كنت شبعان ونظيف، وأنام بهدوء، ولا...، اشتقت لأمي من أنت؟ من أنت؟ صدرت من الرضيع همهمات لم تعرها اهتماماً، كانت تقرب حركة المارة، ما إن ترى أحداً حتى تمد رأسها وذراعيها في الحاوية وتعبث بها، تقلب الرضيع، حاول الزحف قليلاً، لكنها أعادته، اقتربت قطة، مشت حوله، اقتربت منه أكثر، نظرت بعينيه، ثم لعقت أنفه، ضحك، مرة ثانية فضحك من جديد، لعقت وجنيته المتسختين وجبينه، لم يعد يضحك، لعقته حتى نظّف وجهه، اقتربت منه أكثر وجلست، ألصق نفسه بها وحضنها، شعر بالدفء لتسلل من يديه إلى قلبه، سمع نبضها، هدأ وأغمض عينيه، قفزت القطة مرعوبة حين شدتها من ذيلها، كشّرت عن أنيابها وأظافرها، وتلك المرأة تلوح بيديه لإبعادها، حاولت القطة سحب، لكن المرأة رفعتني وركلتها بعيداً، بكيت.

 اختفت الشمس بالغيوم الرمادية، ومازلنا نستجدي، وأنا أرقب الناس، وأنتظر إشارتها لأصرخ، أبحث عن أمي بين المارين، أتراني؟ أستعرفني، أريدها أن تأخذني وتضمني وتحميني، آه أمي أين أنتِ؟ وأهي تلك التي تقف على الرصيف المقابل وتحضن طفلها، أم التي تمسح فم ابنتها هناك، أم من تمسك يدي ابنيها لتقطع الشارع..

 مزق صوت سيارة شرطة خيالاتي، رفعتني بسرعة وركضتْ، قِطَعُ النقد المعدنية تقع على الأرض وترن.. أرى السيارة تقترب، تلفتت ورائها ورأت ما وقع، إنحنت وإلتقطت بعضها، رفعت رأسها ورأتهم يقتربون، ركضتْ وأنا أهتز بين ذراعيها، دخلت بأحد الأزقة، ثم إلى آخر يساراً، توقفنا واتكأت على حائط الأسمنت بخارٌ يخرج من فمها مع لهاثها، أتُراها أمي تبحث عني؟ صرختُ، فإذا بها تغلق فمي بكفيها، حركت رأسي ولم تفلتني، عَضَتُها، أمطرت السماء، سال دمها في فمي، المطر يسقط كالرصاص، تلاقت عينانا للمرة الأولى.

 

----------------------------
لا يسمع

حاتم الأمين داموس حاج الحسن - السودان

 استيقظ من نومه متأخراً ليس كعادته، فالساعة قد تجاوزت التاسعة صباحاً، وأكثر ما أثار دهشته أن المنبه كان بجانبه ولم يسمع صوت رنينه القوي، كما أنه لم يسمع البوق المميز لبائع اللبن، وكذلك لماكينة عربة ترحيل أطفال الروضة التي تأتي عند الساعة السابعة صباحاً لتحمل أولاد الجيران، وقبلها صوت صياح الديك في الصباح الباكر، ولكن... أين هو الديك؟ ولماذا لم يصح؟ ذلك المتآمر (قالها وهو يضغط على أسنانه)، وأسرع الخطى نحو النافذة، وأخذ يتأمل من خلالها الديك وهو يمشي مزهواً بين دجاجاته (محظوظ ذلك الدين الفرحان... يبدو أنه قد قضى جولته الأولى بنجاح.. لقد بدأ عمله في وقت مبكر، كما أنه يعيش اللحظة ولا يدري ما أعد له في غد... أيذبح أم يباع.. أو يطرد من عمله؟).

ومع تواصل خواطره كان قد ارتدى ملابسه بسرعة فهو للمرة الأولى يتأخر عن مواعيد عمله.. خرج إلى الشارع وهو يكمل تدبيس أزرار قيمصه.. أثناء هرولته وعند وصوله منتصف الطريق تذكر أنه يذهب بالطريق الخطأ، وشاهد من بعيد العم حسان أمام دكانه يلوح له بكلتا يديه، إنه يعلم أن العم حسان كعادته يصرخ ويولول كالنساء كلما شاهده.. ألم يسمع الذين قالوا: «يا مطالباً بنقوده أصبر الحول والحولين.. لقد صبر أيوب على الكثير.. وإن الله مع الصابرين».

ثم.. أعوذ بالله! ما أقبح تكشيرته وأسنانه الصفراء التي يقابله بها دوماً. «إذا كنت لا تستطيع الابتسامة فلا تفتح دكاناً»، عظيمين هؤلاء الصينيين حتى في أقوالهم.. أخذ يعدو هارباً ككل مرة ينسى فيها نفسه ويمر بهذا الطيق، ولكن الشيء الذي حيره أكثر أنه لم يسمع صراخ العم حسان ونحيبه الذي يصك الآذان، ولم يجد فيه ذلك الأثر الذي كان يزلزل كيانه سابقاً، ماذا حدث للعم حسان؟ وماذا حدث لصوته؟ بل ماذا حدث له هو نفسه؟ وأخذ يتحسس أذنيه وعيناه تدوران في محجرهما.. ما المشكلة؟ أحقاً أنه ما عاد يسمع؟ أحقاً أنه قد أصيب بالصمم؟ كيف حدث هذا؟ ومتى؟ لقد نام جيداً في الليلة البارحة بعد أن تعشى ولم يكمل مشاهدة الأخبار والاستماع إلى تلك الفظائع التي تعج بها النشرة... أتكون.. وقبل أن يكمل (الحفر) بداوخله فإذا بعربة مسرعة لم يسمعها تطيح به أرضاً، وتلقي به على قارعة الطريق، وقبل أن يفقد وعيه، تراءت له عوالم بعيدة.. بعيدة، ونجوم وشياطين وملائكة.. شعر بعدها بثقل رأسه، وأغمض عينيه على حقيقة أنه الآن لم يعد يسمع فحسب، بل لا يفهم أيضاً.
----------------------------
* ناقد وروائي من سورية.