عام طه حسين: طه حسين وحلم الثقافة الذي أصبح حقيقة

  • طه حسين كان يرغب في أن يدير حوارا مع الشباب موضوعه مستقبل الثقافة في مصر، داعيا إياهم، وجموع القراء إلى الثقة بأنفسهم، وإلى أن يؤمنوا بأنهم ليسوا أقل شأنا من شباب أوربا
  • رأى طه حسين وجوب إشراف الدولة على التعليم في كل مراحله، وتتبع العملية التعليمية من بدايتها الأساسية مطالبا بأن يكون المشرفون عليه من صفوة رجال الأمة

 يبدو أن ما أجمع عليه العلماء من تعريف للثقافة كان في خاطر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين أثناء تفكيره في نشر صفحات «مستقبل الثقافة في مصر»، ذلك التعريف الذي يذهب إلى أن الثقافة هي كل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم، وبأن هذه الثقافة تشتمل على معارف الأمة ومعتقداتها وتقاليدها، كما تشتمل على قدرات أفرادها وإبداعاتهم ومبتكراتهم. وأن للثقافة طرقها وأساليبها ونماذجها العملية والنظرية المادية والروحية.

ذلك أن طه حسين كمفكر أدرك أن الثقافة وتطويرها هي من مسئوليات المثقفين قبل أن تكون من مسئولية الدولة، لأن الدولة ليست صاحبة العطاء الثقافي الذي يُوجد الثقافة ويطورها، وإنما هي وسيلة لدعم أصحاب هذا العطاء الثقافي من المثقفين بالرعاية والعناية.

ولعل طه حسين بهذا التعريف قد يتجاوز حدود البديهيات التي تقول إن الثقافة تميز المجتمع الإنساني عن التجمعات الحيوانية. فعادات الجماعة الإنسانية وأفكارها واتجاهاتها تستمد من تاريخ هذه الجماعة نفسها لتنتقل كتراث اجتماعي إلى الأجيال المتعاقبة، حتى يكون لكل جيل قيمه الثقافية التي استمدها من الماضي، مضيفا إليها ما يتم في الحاضر، ويثريها بما يكتسب في المستقبل من الأفكار النظرية، والتطبيقات العملية، والإبداعات الفنية وغيرها.

 دوافع كتابة صفحات مستقبل الثقافة

ويبدو أن ذلك كله كان في خاطر طه حسين – الذي نحتفل بالعام الأربعين على رحيله – دون أن يسجله صراحة في خطة صفحات «مستقبل الثقافة في مصر» وإن بدا واضحا وجليا في ما وراء السطور، حيث كانت بداية التفكير في تأليف هذا الكتاب، في فترة كانت فيها مصر تبحث عن شخصيتها الثقافية بعد أن حققت شيئا من استقلالها بمعاهدة عام 1936، حين شعر طه حسين كواحد من المثقفين الرواد بأن عليه مسئولية تقتضيه أن يحدد ملامح هذه الشخصية، وموقفها من الثقافات العالمية، وعلاقاتها بأشقائها في الوطن العربي، وما الذي ينبغي أن تصنعه مستقبلا، ولعله أشار إلى شيء من ذلك حيث قال: «شعرت كما شعر غيري من المصريين، بأن مصر تبدأ عهدا جديدا من حياتها، وما كان أشد تأثري بهذه الحركة التي دفعت فريقا من الشباب الجامعيين في العام الماضي إلى أن يسألوا المفكرين عما ينبغي عمله محليًا وقوميا وعالميًا بعد توقيع معاهدة 1936».

كان ذلك هو الدافع الأول إلى تأليف صفحات هذا الكتاب. وأما الدافع الثاني فهو حين سافر في صيف عام 1937 إلى باريس بعد أن ندبته وزارة المعارف العمومية لتمثيلها في «مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري». وندبته الجامعة لتمثيلها في «مؤتمر التعليم العالي» وحضوره مؤتمرات أخرى تدرس الثقافة في بعض جوانبها. وكان عليه– بعد العودة - أن يرفع تقريرين أحدهما إلى وزارة المعارف العمومية، والآخر إلى الجامعة.. كما كان متبعا- وقتئذ – أن تكتب التقارير ولا تقرأ، فليس المهم أن تقرأ أو تبحث هذه التقارير أو تدرس، وإنما المهم أن تحفظ وتخزن في الأدراج ربما إلى آخر الدهر! إلا أنه قبل أن يرسل التقريرين للوزارة والجامعة حدثت ظروف سياسية لا يذكرها طه حسين، وإن ذكرها صهره - الذي كان يعمل تحت رئاسته في مراقبة الثقافة بوزارة المعارف العمومية - الدكتور محمد حسن الزيات في كتابة «ما بعد الأيام»، وخلاصة هذه الظروف أن الملك فاروق بعد أن وصل إلى سن الرشد عين علي ماهر باشا رئيسا للديوان الملكي دون أن يرجع إلى رئيس الوزراء وقتئذ - مصطفى النحاس باشا ثم قرر بعد ذلك إقالة وزارة النحاس باشا وتولية محمد محمود باشا رئاسة الوزراء... وإزاء هذه الأحداث السياسية المتلاحقة عدل طه حسين نهائيا عن تقديم التقريرين، وأسر بينه وبين نفسه أن يؤلف كتابا يذاع بين الناس، ويقرؤه المثقفون، سواء منهم من آل إليه أمر من أمور السلطان في وزارة المعارف العمومية، أو الجامعة أو حتى من ليس له ناقة ولا جمل بهذا السلطان، كما يقرؤه غير الجامعيين والمسئولين، حيث يجد الجميع فيه صورة كاملة لتفكير طه حسين في الثقافة بعد توقيع المعاهدة وتحقيق شيء من الاستقلال، صورة من تفكيره كمواطن مصري يقول عن نفسه: «مهما يقال فيه، ومهما يظن به، فلن يتهمه أحد في حبه لمصر وإخلاصه للشباب المصري» ومن هنا يمكن القول إن الكتّاب كان بمنزلة الإجابة عن تساؤلات الشباب عن واجب مصر الثقافي بعد المعاهدة.

 أفكار صفحات مستقبل الثقافة

هذا عن ظروف تأليف كتاب «مستقبل الثقافي في مصر»، أما عن أفكاره فمن قراءة ومراجعة صفحات مجلدي هذا الكتاب، والمعارك التي دارت حوله نرى أن طه حسين كان يرغب في أن يدير حوارا مع الشباب موضوعه مستقبل الثقافة في مصر، داعيا إياهم، وجموع القراء إلى الثقة بأنفسهم، وإلى أن يؤمنوا بأنهم ليسوا أقل شأنا من شباب أوربا، وأن يعرفوا أنه كان لأجدادهم العرب فضل على بلاد الحضارة الحديثة في أوربا، وأنهم شركاء في حضارة البحر المتوسط التي كان للمصريين والعرب دور عميق الأثر، واسع المدى شمل العلوم كما شمل الصناعات ولم يقتصر على ذلك فحسب، وإنما امتد كذلك إلى الأدب، الشعر منه والقصة والرواية، وإلى الفنون، الموسيقى منها والمعمار.

وتقتضيه طبيعة هذه الأبحاث أن يتعرض لمسألة على جانب كبير من الأهمية والخطورة، ولكن على حد قوله: «لابد من أن نجليها لأنفسنا تجلية تزيل عنها كل شك، وهي: أمصر من الشرق أم من الغرب؟، وينبه من البداية إلى معنى الشرق والغرب قائلا: «أنا لا أريد الشرق والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق والغرب الثقافي»، كما ينبه أيضا إلى أن «هذا الشرق الثقافي هو الشرق الأقصى أو بالتحديد الهند والصين واليابان. ثم يعيد السؤال بصورة تقربه من الأذهان فيقول: «هل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء؟ أو بعبارة موجزة: أيهما أيسر على العقل المصري أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني أو الهندي، أم أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنجليزي أو الإيطالي؟

 نظرية طه حسين الثقافية

معنى هذا – وفق نظرية طه حسين الثقافية– أننا لسنا شرقيين، وغير شركاء في صنع حضارة الشرق، إذا كان هذا الشرق يعني الشرق الأقصى: الهند الصين واليابان، ويشير إلى شيء من ذلك في كتابه حيث يقول: «إن التلاميذ يتعلمون في المدارس أن أمة شرقية بعيدة عن مصر بعض الشيء قد أغارت عليها وأزالت سلطانها في آخر القرن السادس قبل المسيح وهي الأمة الفارسية. فلم تذعن مصر لهذا السلطان الشرقي الأجنبي إلا كارهة وظلت تقاومه أشد المقاومة وأعنفها مستعينة على ذلك بمتطوعة من اليونان حينا، وبمخالفة المدن اليونانية حينا آخر، حتى جاء عصر الإسكندر الأكبر وانتهى هذا العدوان الفارسي.

بعد ذلك يؤكد طه حسين أن العقل المصري لم يتصل قديما بعقل الشرق الأقصى ولم يعش معه عيشة سلم وتعاون خاصة مع العقل الفارسي. بينما اتصل هذا العقل بأقطار الشرق القريب - الأوسط الآن – اتصالا منظما مؤثرا في حياته، ومتأثرا بها في العصور القديمة، وجاء الإسلام – كما يذكر طه حسين – وانتشر في أقطار الأرض، وتلقته مصر لقاء حسنا، وأسرعت إليه إسراعا شديدا فاتخذته لها دينا، واتخذت لغته العربية لها لغة وتأثرت بثقافته، ومع انتشار الثقافة الإسلامية العظيمة بقيت أيضا ثقافة البحر المتوسط من مكونات العقل المصري.

 مكونات العقل المصري

وعلى الإجمال أنه إذا أردنا أن نحلل مكونات العقل المصري فسوف نجدها تنحل إلى هذه الآثار الأدبية والفلسفية المتصلة بحضارة اليونان، وإلى هذه السياسة والقانون المتصلة بالرومان، وإلى هذا الدين الإسلامي الكريم الغني بعلومه وحضارته... واختزلت مكونات العقل المصري لتجمع بين التراث الفني الفرعوني القديم إلى جانب التراث الديني والأدبي الإسلامي الهائل.

وإلى جانب هذا المعنى الثقافي، والجانب التعليمي والعلمي الذي أفاض طه حسين في الحديث عنه، وعن كيفية تكوينه وإصلاحه، وحل مشكلاته في أغلب صفحات مجلدي الكتاب. هناك جانب سياسي لعله يعطي المغزى المهم من تأليف هذا الكتاب, وخلاصته: أننا كمصريين وعرب لا نقل عن هؤلاء الأوربيين، وكيف نقل عنهم وقد كنا شركاء معهم في صنع حضارة العالم القديم.

 تحديد ملامح الثقافة المصرية

إذن فنظرية طه حسين الثقافية، كانت لها دلالتها السياسية والأخرى الاجتماعية بعد عامين من معاهدة 1936، وهل هناك دلالة أكبر من عمل ثقافي يهدف إلى إعادة ثقة المصري بنفسه وإمكاناته وأمجاده وتاريخه وتراثه؟ إننا نلمح من بين خطوطها العريضة جوانب منها: الاهتمام بتاريخ الأمة وتراثها الثقافي، والاهتمام بما يدور حولنا في ثقافات الآخرين وموقفنا منه، والاهتمام الملحوظ بالعملية التعليمية وكيف ينبغي أن تكون؟ والاهتمام بألوان الإنتاج العقلي من فنون وآداب وفلسفات، إلى جانب الاهتمام بعلاقات مصر الثقافية مع شقيقاتها من أقطار الوطن العربي... إلى آخر هذه الاهتمامات التي مع غيرها تتكون ثقافة الأمة. إلا أنه عندما شرع في معالجة هذه الجوانب ضمنها رأيه كعالم ومثقف، وهنا اختلف حولها المثقفون بين مؤيدين ومعارضين، ذلك لأنه لكي يصل بشكل علمي إليها شخصية مصر الثقافية، ولكي يصل إلى أن هذه الملامح في التراث الفني المصري القديم، والتراث العربي الإسلامي، أو ما اكتسبته من خير مما أثمرت الحياة الأوربية الحديثة، هذه الملامح المختلفة المتناقضة في ما بينها أشد الاختلاف والتناقض تلتقي في بوتقة اسمها مصر فيصفي بعضها بعضا، وينقي بعضها بعضا ليتكون منها ذلك المزاج الرائق الذي يورثه الآباء للأبناء، وينقله المعلمون إلى المتعلمين.. حتى يصل طه حسين إلى أن في مصر ثقافة مصرية أصيلة فيها شخصية مصر القديمة، والأخرى الإسلامية، وهي في الوقت نفسه إنسانية قادرة على أن تغزو قلوب الناس وعقولهم، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، وقادرة أيضا على أن تتيح من اللذة والمتاع مما يجدونه أو لا يجدونه في ثقافتهم الخاصة.

 التعليم ومستقبل الثقافة

ولكي يصل طه حسين إلى كل ذلك كان عليه أن يبحث في التفصيلات والجزئيات التي على أساسها تكون الثقافة أو لا تكون.. فيبحث عن كيفية الاستقلال والحرية كوسيلتين إلى كمال الشخصية الثقافية وسبب من أسباب رقيها، وأن مستقبل الثقافة في مصر مرتبط بماضيها، وأنه لا ضرر ولا ضرار على الشخصية الثقافية من الاستفادة بخير الحضارة الأوربية، مستندا في ذلك إلى أن الإسلام في أزهى عصوره، كان من قوام سياسته الاستفادة بما حقق غير المسلمين من تقدم وتطور.. كان عليه أيضا أن يتناول قضية التعليم حيث يراه الوسيلة إلى التقدم، بمعنى إذا أردنا الاستقلال فلنلجأ إلى التعليم، وإذا أردنا الحرية فلنلجأ إلى التعليم، وإذا أردنا الرخاء الاقتصادي فلنستعن بالتعليم، وإذا أردنا الثقافة المميزة لشخصية الأمة المصرية فلا بد لنا من التعليم.., ولذلك رأى طه حسين وجوب إشراف الدولة على التعليم في كل مراحله، وتتبع العملية التعليمية من بدايتها الأساسية إلى نهايتها العالية في الجامعة، منبها إلى مهمة التعليم الأساسي، مطالبا بأن يكون المشرفون عليه من صفوة رجال الأمة، مشيرا إلى مكانة التعليم الابتدائي بين التعليمين الأساسي والثانوي. مشيرا أيضا إلى مرحلة التعليم الثانوي ومتى تنتهي، وإلى مرحلة التعليم الجامعي وحقه في الاستقلال المالي والإداري والعلمي... حتى يتمكن من حل مشكلاته.

 الاهتمام بالتعليم الأزهري

وحتى يحيط بأساس الثقافة المصرية من جميع أقطارها قرر طه حسين الوقوف عند التعليم الأزهري، حيث يسجل بأننا مؤمنون بأن مهمة الأزهر في تكوين الثقافة أعظم خطرا، وأبعد أثرا في حياة مصر والعالمين العربي والإسلامي، لأسباب كثيرة منها، أن الأزهر كمعهد ديني شديد الاتصال بطبقات الشعب على اختلافها، ومنها أنه مظهر من مظاهر المجد المصري القديم، فقد حمل لواء المعرفة فيها قرونا متصلة، ومنها أنه كان مصدر الحياة الروحية للمسلمين عامة.. ومن هنا يرى طه حسين أنه إذا تم التقريب بين التعليم العام المدني، والتعليم الديني الأزهري، لأصبحت أمور التعليم العالي في الأزهر هينة يسيرة كأمور التعليم العالي بالجامعة. ولعل هذه الصيحة المبكرة لطه حسين في شأن التقريب بين التعليم المدني والتعليم الأزهري، في الأزهر تحققت بعد ذلك في بداية ستينيات القرن العشرين، أي بعد أكثر من عقدين من كتابه حينما أنشئت جامعة الأزهر متضمنة إلى جانب العلوم التقليدية للأزهر كليات مدنية مثل الهندسة والطب والعلوم والإعلام وغيرها.

 مشاركة المثقفين في تنمية الثقافة

وكان على الدكتور طه حسين أن يبحث عن مصادر للثقافة في غير مراحل التعليم. فيرى أن الثقافة ليست محصورة سواء في داخل المدارس والمعاهد والجامعات أو الأزهر.. حتى تتم مسئولية الدولة . بل هناك مسئولية أخرى للدولة ليست أقل شأنا من مسئوليتها عن التعليم. فلا بد أن تتعاون الدولة مع الشعب في أمور منها تمكين المثقفين من الإنتاج الفكرى والأدبي والفني فيضيفون إلى الثقافة إضافات جديدة يشاركون بها في تنمية الثقافة، ومنها نشر أعظم حظ ممكن من الثقافة في طبقات الشعب، ومنها تجاوز الثقافة الوطنية حدود الوطن، ومنها تحقيق الصلة المنظمة الخصبة المنتجة بين مصر، والثقافات العالمية على اختلاف لغاتها ومناهجها.

 حلم الثقافة الذي يتحقق

بقيت صفحات مستقبل الثقافة في مصر دليلا يسترشد به الباحثون عن الثقافة، بل ويحقق الكثير من الحلم الذي راود طه حسين بعد أن حققت مصر شيئا من استقلالها بمعاهدة 1936.

وما كان طه حسين ليدري حين كان يمُلي صفحات مستقبل الثقافة في مصر أن القدر يمكر به ذلك المكر الجميل، حين دفعه إلى رسم منهاج جريء متطور للثقافة ليطالبه بعد بضع سنوات من نشره صفحات مستقبل الثقافة بمصر أن ينفذ ما أملته عليه نفسه التي هامت بحب مصر يوم اختاره وزير المعارف العمومية محمود فهمي النقراشي باشا مراقبا للثقافة في وزارة علي ماهر باشا. حيث رأى في هذا العمل فرصة لتحقيق حلمه في التعليم والثقافة سجله في صفحات مستقبل الثقافة في مصر بعد توليه مسئولية إدارة مراقبة الثقافة في وزارة المعارف العمومية.

 مراقبة كأنها وزارة

وهكذا تتحول هذه المراقبة العامة للثقافة التي كان طه حسين يديرها في بداية الأربعينيات إلى خلية عمل، فهذه إدارة الترجمة والنشر يعرض مديرها محمد بدران قائمة بالكتب الأجنبية التي اختارتها إدارته ويوافق طه حسين. وهذا مدير مصلحة الآثار المصرية المسيو آتيبن دربوتون يعرض ما لديه على طه حسين الذي يقول له: «أحب أن تدرس المصلحة إنشاء قسمين جديدين، الأول للنشر والاتصال، والثاني يختص بالحفائر، وينبه إلى أن هناك من المصريين من سيحل محله بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا مدير إدارة مصلحة الآثار الإسلامية المسيو جاستون فييت يعرض على العميد ما لديه من تقارير فيستمع إليه ثم يقول له: «أحب أن تدرس أن الناس يا مسيو فييت تظن أن دار الآثار الوحيدة الموجودة بمصر هي الأنتكخانة الموجودة في القاهرة، مع أن الواقع يوجد لدينا في القاهرة أكبر دار للآثار الإسلامية في العالم» ثم يسأله: «أحب أن أعرف رأيك في شأن إعداد مصريين لإدارة الآثار الإسلامية مستقبلا».

 أكاديمية مصرية بالخارج

ويستدعي د. محمد حسن الزيات الذي كان يعمل معه سواء في الجامعة أو في المراقبة الثقافية ويقول له: كنت تحدثت مع النقراشي باشا وزير المعارف عن إنشاء أكاديمية مصرية بالخارج تعنى بالعلوم والفنون والآداب المصرية في روما أو غيرها... عليك أولا أن تجمع البيانات والمعلومات لكل الجمعيات العلمية والأدبية والفنية التي تعينها الوزارة ونشاطها في السنوات الثلاث الأخيرة، وعليك ثانيا أن تعد بحثا عن الأكاديميات الأجنبية، وعندما تتجمع لديك هذه المعلومات فعليك ثالثا أن تبحث في إمكان إنشاء أكاديمية مصرية، وتوضح تصورك حسبما تحدثنا عنه في ما مضى، إن في التاريخ الإسلامي مؤسسات ثقافية مماثلة سبق العرب بها العالم الحديث، «بيت الحكمة» مثلا في عصر الخليفة العباسي المأمون.

 الثورة تحقق حلم طه حسين

وفي السنوات الأولى بعد قيام الثورة كان الاهتمام بالثقافة شاحبا، فأكثر ما يكون هو اعتبار مراقبة الثقافة واحدة من المراقبات الثانوية بعد أن شهدت أعمالا تنويرية أثناء إدارة طه حسين كانت هى البداية لما يعرف الآن في مصر والعالم العربي بوزارة الثقافة، وتحقق حلم طه حسين في إنشاء وزارة للثقافة. إلى أن صدر قانون بإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عام 1956 نتيجة لطلب طه حسين ونفر من الرواد، ليكون في شكل هيئة مستقلة تابعة لرئاسة مجلس الوزراء، ليظهر أول اهتمام حقيقي من الثورة بالثقافة، وبقيت المراقبة العامة للثقافة التي تحولت إلى إدارة عامة للثقافة تابعة لوزارة التربية والتعليم، ولم تقدم أي عمل ثقافي يذكر سوى مشروع الألف كتاب فقط.

وفي فبراير عام 1958 ظهر اهتمام جديد من حكومة الثورة بالثقافة حين أضافتها إلى وزارة الإرشاد القومي نتيجة لنداء طه حسين وطلبه بعد أن أولته الثورة رئاسة تحرير صحيفة الجمهورية. فنشأت وزارة الثقافة والإرشاد القومي التي تولاها الأستاذ فتحي رضوان - الذي اهتم كمثقف في المقام الأول بالثقافة - رغم اضطلاعه بالمهمة الإعلامية الكبرى – التي تتطلبها الثورة- فاهتم بالشئون الثقافية قدر المستطاع فأنشأ مصلحة للفنون التي أشرف عليها المثقف الكبير يحيى حقي لتضم المسرح والسينما ومركز الفنون الشعبية وإدارة للثقافة والنشر، كما أنشأ محطة إذاعية للمثقفين هي محطة «البرنامج الثاني» الذي أشرف عليه وأداره المفكر الكبير الدكتور حسين فوزي. ولكن فتحي رضوان ترك الوزارة بعد ثمانية أشهر من إنشائها. ليتضح الاهتمام الحقيقي من الثورة بالثقافة. حين اختارت لها واحدا من رجال الصف الأول للثورة هو الدكتور ثروت عكاشة ليهتم بالثقافة وحدها كعمل تجنى ثمراته الأجيال, أما مسئولية الإرشاد القومي فقد أعفى نفسه منها ليتفرغ للثقافة وحدها مستقلة متحملة عبء الإنشاء والإنتاج.. وهكذا تحقق حلم طه حسين كاملا.
---------------------------
* كاتب من مصر.