حطام العالم.. والمسرح السياسي العربي

الجميع: هذه حكاية.
ممثل 5: ونحن ممثلون.
ممثل 3: مثلنا لكم كي نتعلم معكم عبرتها.
ممثل 7: هل عرفتم الآن لماذا توجد الفيلة؟
ممثلة 3: هل عرفتم الآن لماذا تتكاثر الفيلة؟
ممثل 5: لكن حكايتنا ليست إلا البداية.
ممثل 4: عندما تتكاثر الفيلة تبدأ حكاية أخرى.
الجميع: حكاية دموية عنيفة.
وفي سهرة أخرى سنمثل جميعًا تلك الحكاية.

هكذا تكلّم الممثلون، متوجهين إلى الجمهور، في اللحظات الأخيرة من مسرحية «الفيل، يا ملك الزمان» (1969) للمسرحي السوري العظيم سعد الله ونّوس.

في هذه القصة الرمزية، تأتي خطوات فيل الملك الأليف، والتي تطرد الحياة من أجساد أطفال القرية، كرمز للقمع السياسي العنيف. الآن، وبعد مرور ما يزيد على الأربعة عقود، «القصة الجديدة» التي تخيّلها ونّوس، الحكاية التي فيها نحن جميعًا ممثلون، قد حلّت.

الساعات، التي مَثُلَتْ ومازالت كما التوابيت، استعادت رمقها وبدأت بالتكتكة من جديد، لتحرر الأحياء وتثأر للمظلومين. صور الطغاة التي لم تكن القيامة بحدّ ذاتها لتقوى على انتزاعها عن المباني الرسمية وردهات الفنادق وأقواس المسارح وأكشاك السجائر، خُلعت عن الجدران ومُزقت وتم دوسها بالأقدام. الحوض الذي طفا داخله العالم العربي كقزمٍ من القرن التاسع عشر سقط على أرض التاريخ وتحطم. بابٌ فُتح، شيءٌ جديد ومختلف تمامًا دخل إلى الخشبة، سموه: «الربيع العربي». أتى الربيع لأن جيل الشباب فاق المسنين عددًا وتأثيرًا، لأن هذا الجيل لم يعد يخاف الموت، ولأن السياط والرصاص وكراسي التعذيب لم تعد تقوى على قمع الشعور بالإهانة والجوع والغضب.

العالم كما عرفه ونّوس – مع أنه سبق وشهد ثورات – إلا أنه تغيّر وتبدّل تمامًا الآن.

حين غادر ونوس هذا العالم في العام 1997، كنت أعمل في أوربا، أصارع الإرث الحيّ لبيتر بروك وروبرت ويلسون وفرانك كاستورف، كان يحيّرني روميو كاستلوتشي و«فورسد إنترتاينمنت» وتادوتز كانتور وليف دودن، ولا تحرّكني الواقعية الجديدة في بريطانيا. أردت أن أشاكس التقليد المسرحي الأوربي العظيم. في العام 1997 لم يكن هناك ما يدفعني للاهتمام بالتحدّيات التي تواجه المسرحيين العرب؟ كنت مسرحيًا مقيمًا في لندن، منخرطًا في مرحلة «ما بعد الحداثة الأوربية»، أتنعم في غربتي باللامبالاة.

 

غربة ما بعد سبتمبر

لم أشهد على تلك الغربة إلا حين حلّت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فقد رسمت تداعيات الهجمات الإرهابية على مانهاتن الخطوط ما بين المدن والإثنيات على امتداد العالم الغربي. بين ليلة وضحاها، أضحت هيئتي ولغتي واسمي، مدعاةٍ للارتياب والاستجواب. كان علي أن أتوازن ما بين ثقافتين، بحسٍّ من الهوية يعرّف به اللااستيعاب واللاانتماء، تمامًا كأيّ سردية غير متفق عليها في القبيلة، الثقافة، اللغة، أو التاريخ. شرعت بصياغة محاولات لوصف العالم العربي، باللغة الإنجليزية، عارضًا هذا العمل في الكويت، وتونس، ولندن: أُعيد جري إلى المنطقة.

ما إن قدّمت عرضي الأول، وهو النسخة المُتخيلة بالكامل من «مؤتمر هاملت»، في مهرجان إدينبرغ في صيف العام 2002، كنت قد عدت للإقامة في الكويت، حيث تصطف مواكب الدبابات الأمريكية تجهيزًا لعملية التحرير الوشيك للعراق.

عدت للالتحاق بالعالم العربي، ووجدت نفسي في مكانٍ، يتخفّى منطق الزمن فيه – ويبقى متخفيًا!

على الرغم من دخوله الألفية الجديدة، كان الوقت في العالم العربي يخوض في حلقات مفرغة تزداد سوادًا. ولأكثر من عقد من الزمن، بدا وكأن الوقت العربي يتحرّك، ليس باتجاه الأمام، وإنما إلى الوراء. أعدنا الدخول في زمن الحروب الصليبية: وجدنا أنفسنا في عصر المحاربين الجهاديين، والخطاب الخلاصي، وإحراق الكتب، واصطياد الساحرات، والغوغائية المتعطشة للدماء.

التدمير المشهدي المذهل للبرجين، ولّد أفعى برأسين. السموم الإيديولوجية في فكر المحافظين الجدد، والجهادية، تنصهر في وحشٍ عملاق ورهيب. الوحش التهم الكلمات، والأجساد، والأوطان، مؤججًا التوترات الطائفية، حارقًا الأرض التي كان من الممكن أن تأوي حوارًا بين الجيران، والجماعات، والحضارات. في الفراغ الذي خلّفه انهيار البرجين، تم امتصاص العالم العربي– الإسلامي في الحلبة العالمية.

 

أهل الكهف

من تداعيات الحادي عشر من سبتمبر، أتى الحطام العالمي: الحرب على الإرهاب، احتلال أفغانستان والعراق، جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، القاعدة في بلاد ما بين النهرين، واقعة الرسوم الهزلية الدنماركية، والمزيد. أحداثٌ يمكن تحليلها بامتياز ضمن سياقاتها المحلية والإقليمية، تم تضخيمها ونشرها حول العالم، بواسطة شبكات الأخبار العالمية، التي جعلت لها تداعيات لا يمكن شرحها ولا السيطرة عليها. أكثر من أي وقت مضى، التجربة مثلما تُعاش والتجربة مثلما تُنقل، تداخلتا. تقاطع الافتراضي مع الحقيقي: كانت العولمة تضحي جزءًا من جيناتنا، قدرنا، تسلسلنا.

مع ذلك، كحال أهل الكهف، استمرت الحكومات والحكّام في العالم العربي، بلا أي ارتباك، في غفوتهم الدنيوية. عقود من المحسوبية، والسلطوية، والانتهازية الغربية، والفساد الإداري، بدت وكأنها قادت إلى هجرة أدمغة نهائية، وإلى تمزّق لا عودة عنه في نسيج التسامح ضمن المجتمعات العربية.

 

أوقات سيئة للعيش: فضلات الأغنياء للمسرح

من هذا الحطام العالمي، سعيتُ لأصنع مسرحًا. تقع الأعمال التي كتبتها وأخرجتها وأنتجتها ذاتيًا ضمن تصنيفات متنوعة، وقد قادتني هذه الأعمال إلى إجراء حوارات مع كتّاب مختلفين. عملت مع هاينر مولر والمسرحي البريطاني توربن بتس لأجد رد فعل على احتلال/تحرير العراق. كما اشتغلت على نص «تارتوف» لموليير، في سياق السخرية من النفاق الديني في المجتمعات الخليجية والعربية. وعملت على شخصيات أيقونية من التاريخ الإسلامي، مثل ابن المقفع، لأجد سبلًا لمسرحة الدافع الذي يقود المجتمعات نحو حمامات الدم الطائفية. أكثر تلك المشاريع طموحًا وتلاحقًا كانت دورة الأعمال الشكسبيرية.

تلك الأعمال، التي بدأت كمشاريع فردية، يستخدم كلّ منها نصًّا لشكسبير كنقطة للانطلاق، ومع الوقت - بشكل لا واع في البدء، يتبعه تزايد في الوعي الذاتي– بات للعمل جسم واضح مترابطٌ وموحّد. «مؤتمر هاملت»، «ريتشارد الثالث: مأساة معربة»، و«ودار الفلك»، والتي تأطرت جماعيًا كثلاثية شكسبير العربية، حاولت هذه الأعمال تقديم مقاربة لأحداث عقدٍ مفصلي من الزمن هو المرحلة الممتدة من العام 2001 إلى العام 2011.

جاءت الثلاثية الشكسبيرية من سلالة الحقبة المعولمة، وعوضًا عن السماح لذلك النسب بإلغاء الحوار وإبادة المعنى، جاهدتُ، برفقة فريق عمل من المحترفين والموهوبين، من أجل تحويل حالة العولمة إلى صرحٍ تحرري، يمكن ضمنه تحقيق الشكل الجديد للمسرح السياسي العربي. من خلال مزيج من الاضطرار والحظ والتصميم الفني، تم تطوير أعمال هذه الثلاثية من خلال التعاون والشراكة الدوليين، والتي أدخلت هذه الأعمال في اقتصاد وسياسة الثقافة المعولمة.

وبصفتي غريبًا عن تعقيدات الإنتاج المسرحي في العالم العربي، لبّيت دعوة مؤسسة فنية يابانية لإعادة إنتاج «مؤتمر آل هاملت». كان ممثلٌ عن «مهرجان طوكيو الفني العالمي» قد شاهد العمل في نسخته الإنجليزية ضمن «مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» في العام 2002. بعد مرور سنتين، وبينما كان الجيش الياباني يدخل مدينة السماوة جنوب العراق، في انتشار عسكري ياباني أثار جدلًا حادًا كونه الأول للقوات العسكرية خارج الأراضي اليابانية منذ الحرب العالمية الثانية، قدّمنا العرض الافتتاحي في طوكيو، ضمن فعاليات مهرجان شعاره: «التنشيط الاجتماعي للمسرح»، «مصالحة العولمة الثقافية والتعدّد الثقافي»، و«فهم الثقافة الإسلامية».

 

بعيداً عن العشوائية

عند نقطة التقاطع ما بين السياسات العالمية والسياسة الثقافية، حيث أُتيحت لي معظم فرص تقديم أعمالي دوليًا، يندر أن يكون هناك ما هو عشوائي. لكن، في ذاك الوقت، شعرت -كما أوديب- بأني بطلٌ بلا تعمّد، عند نقطة اتصال دروب متقاربة. تلك الدروب منحتني فرصة تشكيل فرقة من الممثلين، والفنانين، والتقنيين، من جنسيات متنوعة، عربية وغير عربية، والتغلّب، بالتالي، على العقبة الأولى التي تقف في طريق الممارسة المسرحية العربية المعاصرة.

صنّاع السياسة الثقافية في العالم العربي يرتابون بعمق من أي شيء يتيح للفنانين أن ينتجوا أعمالًا خارج قيود الدولة. يتم احتواء الفنان جيدًا ضمن أرصدة ومشانق تمويل الدولة ورقابة الدولة. أي ممارسة ترخي رباط الدولة عن عنق الفنان تُقاوم بشراسة من قبل آلية الدولة للإنتاج الفني. التعاون الفني العربي المشترك – وما أدراك بشياطينها!- العابر للأوطان، وغير الحكومي، يعتبر، تعريفًا، مشتبهًا به، وغير مرغوب فيه. الذروة العبثية للقيد الفني في الدولة، هو نوع من مهرجان رسمي على المستوى العربي، تستجيب له وزارات الثقافة (أو الإعلام!) في مختلف أنحاء العالم العربي، فتوافق على دعوات النظراء لإرسال مبعوثين يمثلون الفن المسرحي، ويتنافسون في مهرجانات تُوزع فيها غرف الفنادق، بطاقات الوجبات، والجوائز، على أساس الهوية الوطنية – الدولة. الفرق التي تقدم عروضها في «أيام قرطاج المسرحية»، ومهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ومهرجانات دمشق، وعمّان، والكويت، والشارقة، تُدعى بصفتها ممثلة عن بلدها، وليس لكفاءاتها الفنية. قيد الدولة كلّي الحضور.

على حدة، وعلى مستوى فني بحت، وبهدف العثور على فنانين بنطاق وقدرة تعبيرية وخبرة كافية لتقديم العمل الذي تصوّرته، اضطررت إلى البحث خارج حدود الدولة الواحدة. المسرحيات الثلاث التي تشكل الثلاثية تستكشف، كلٌّ بأسلوبها الخاص، مجموعة من القضايا المترابطة محوريًا: السلطة، الفساد، الإيديولوجيات الراديكالية، والقوى التي تدفع المجتمعات نحو التمزّق، الذوبان، أو التغيرات الكبرى، كما هي الحال في «ودار الفلك».

تعالج المسرحيات قضايا منتظمة في أكثر من مجتمع عربي واحد. في النتيجة، هي تسعى بشكل واعٍ إلى موضعة نفسها خارج طوارئ السياسات الوطنية المركزية، وضمن إطار عمل للهموم الإقليمية الأكثر عالمية. نظرًا لهذا المضمون، يصعب تخيّل أي دولة عربية عازمة على إنتاج هذا العمل ونشره. في الواقع، بينما كانت الثلاثية تتطور وتعرض عالميًا، وبينما المنتجون المتشاركون يسعون لتمويل إنتاج أعمال جديدة في الدورة، اتضح أنه من المستحيل الحصول على دعم أي آلية تمويل رسمية عربية. الواجهة العالمية الدولية للإنتاج المسرحي كانت، تاليًا، أداة في التفلّت من الرباط وتحرير أعمالي من الممارسة الفنية الضيقة الأفق والمتمركزة ضمن نطاق الدولة. غير أن الإطار الدولي للإنتاج يجلب معه حدوده الخاصة، لعنته الخاصة.

الأجندة التي يشجّعها الإنتاج الدولي المشترك تقضي بخلق عمل موجه لجمهور عالمي، عمل درامي صالح لـ «التصدير»، يناسب الاستهلاك العالمي، في أي زمان، في أي مكان، في حين أن هدف ثلاثية شكسبير العربية كان دائمًا تحفيز آلية تغيير داخل العالم العربي. الهدفان، حسبما يبدو، متباينان.

 

بعيداً عن شَرَك الاستشراق

وبحسّ نقدي أشدّ، يحضر دائمًا، عند تقديم عملنا على المسرح العالمي، خطر الوقوع في شرك الاستشراق. ضمن مشهد الإعلام المعولم، الذي يصوّر العالم العربي وشعوبه بأشكال التنميط السلبي كشعوب سابقة للحداثة، وشهوانية، متعطشة للدماء، أو بصفتها «الآخر غير العاقل». تحضر دائمًا المجازفة بأن مضمون المادة التي أقدّمها – المهووسة كالعادة بالعنف، والموت، والفساد، واللاعقلانية – قد يُخطف أو يُساء فهمه، وأن يتم استخدامه لتعزيز الأحكام المسبقة والتجهيل وتعزيز الكراهية. استغرقني وقتٌ كي أخرج بأكثر الاستراتيجيات فاعلية في معالجة تلك القضايا، وعلى امتداد السنوات العشر، تم اعتماد حلول مختلفة لكل مشروع. ما تشاركته تلك الاستراتيجيات والأدوات المتنوعة، كانت النيّة في تأسيس نقد فكري ذي حدّين، ضمن آليات المسرحيات نفسها.

مثلما توضح الخطوط العريضة التي سلف ذكرها أعلاه، فإن الأعمال شديدة النقدية للممارسات السياسية المسيطرة داخل العالم العربي. لكنها، بموازاة ذلك، تبني خطابًا سياسيًا ثانيًا موجّهًا إلى الجمهور الموجود خارج العالم العربي، والناظر إلى الداخل. نتيجة تلك الضربة النقدية المزدوجة، لا الجمهور العربي ولا نظيره الغربي يقويان على مشاهدة تلك الأعمال من دون الإحساس بأن حوارًا سياسيًا دراميًا يستنبط الالتزام، يتم توجيهه إليه.

 

جمهور المسرح.. هناك

توقعات الجمهور وإدراكه يلعبان دورًا مهمًا في ذلك. وكنت كتبت في مقامٍ آخر عن جدوى شكسبير كطُعم للذهاب إلى أبعد من البنى المحلية للتابو والرقابة. لطالما اعتمد المسرحيون العاملون تحت وطأة الرقابة، قناع الكلاسيكيات العالمية لتوجيه نقد حاد لمجتمعاتهم، من دون أن يعرّضوا أنفسهم بشكل مباشر للرقابة والعقاب. جانبٌ حاسمٌ ثانٍ للعمل على النصوص الشكسبيرية وبها، يكمن في فهم «الحمولة» أو «الشحنة» التي تأتي بها تلك النصوص. وأقصد من «الحمولة» ما تمثّله النصوص الشكسبيرية على المستوى الأيقوني والثقافي والمسرحي، كنتيجة للعروض المتراكمة والتاريخ المسرحي. «هاملت»، مثلًا، باتت اختزالًا للأزمة الوجودية. «ريتشارد الثالث»، اختزالٌ للشرّ. تلك المعاني المساعدة – «الحمولة» – تحضر بقوة في أذهان المتفرجين الآتين لمشاهدة تلك الأعمال، وتشكّل جزءًا من الوعي الترابطي الذي يأتي به المتفرجون إلى العرض. فتكون تلك المعاني أشبه بإغواء للمتفرجين في العمل، في استباق لتجربة المتعة التي يؤمنها الإدراك. من هنا، فإن الحمولة الشكسبيرية تشكل جزءًا كبيرًا من العرض، يمارس فعله قبل أن يبدأ العرض حتى، ويؤثر في كيفية اقتيادي إلى تبني العمل، وبنائه، وتقديمه.

يتوقع الجمهور العربي الآتي لمشاهدة شكسبير بالعربية، أن يتفرج على قصة رومانسية تتموضع في قصورٍ بعيدة جدًا، تم استيرادها له عبر حجاب الرمز، في المقام الأول. أسماء الشخصيات الشكسبيرية التي أبقت عليها النصوص، تغذّي ترقّب الجمهور هذا، وتعززه، لكي تدمّره على نحو أفضل، من خلال حسّ المعاصرة الملحّ، الذي تصنعه اللغة، والأزياء، والأسلوب، ومضمون العمل. يلاحظ أفراد الجمهور حجاب الرمز الذي توقعوه، ولكن، عندما يتم تخريب هذا الحجاب، يضحى الجمهور العربي هو المُخاطب في تلك الدراما السياسية المعاصرة، شديدة الواقعية.

الجمهور الغربي، أو غير العربي، يقصد المسرح متوقعًا العكس: أن يرى قصة مألوفة أُبعدت وجُدّدت عبر إعادة تلوين إثنية إلى العربية. تحضر استشراقية متأصلة في توقعات الجمهور الغربي من تلك الأعمال. في استراتيجية شبيهة بتلك التي اعتمدت مع الجمهور العربي، جعلت الأعمال الجماهير الغربية هي المُتوجه إليها بخطاب سياسي درامي، من خلال إدراك توقعات أفراد الجمهور وتعزيزها على مستوى، بينما يتم تحدّيها وتخريبها على مستوى آخر. تعتمد المسرحيات المجاز المألوف في الحكاية الشكسبيرية – أسماء الشخصيات، أحداث القصة – لا لسرد القصة الشكسبيرية، وإنما لتحدّي الأفكار المسبقة التي يحملها أفراد الجمهور عن «العالم العربي»، وأيضًا مشاكله، وقضاياه، وخطاب ما بعد الاستعمار الذي يخبر عن العلاقة ما بين الغرب والعالم العربي. مثالٌ عن ذلك يكمن في مونولوج مارغريت الافتتاحي في «ريتشارد الثالث: مأساة معربة»:

مارغريت: أنا مارغريت، لا داعي للانتباه إلي..

نحن المهزومون، من حقكم أن تتجاهلوني.

كنت أتمنى أن أتجاهل نفسي، إلا أن تاريخي لا يسمح لي.

نحن مهزومون.

لا أريد قروضكم – عطاياكم – مساعداتكم... ولا حتى شفقتكم.

كل ما أرجوه ألا تطلبوا مني أن أفسر لكم عطشي للانتقام

ليس لأنني عربية، لا ... أنا أقرأ التاريخ وأرى.

وبكل الأحوال اسمي ليس مارغريت.

لكن تاريخنا مبهم إلى درجة أنه حتى المنتصرين غيروا أسماءهم.

تستخدم مارغريت اسمها الشكسبيري، إلا أنها سريعًا ما توصّفه من خلال تعريف نفسها كمهمّشة، مهزومة، الآخر المُعامل بازدراء. تؤسس منطقًا للغزو تكون فيه هي، مارغريت المهزومة، ويدفع بالجمهور المطمئن إلى أداء دور المنتصر. بعدها، في انقلاب ضمن علم نفس الضحية، تقوم بمهاجمة الافتراضات المتعالية في نظرة المنتصر، وتعرّف بمعالمها. تخلط ما بين أصوات مارغريت الشكسبيرية (المهزومة، المعاقَبة، المنبوذة كملكة لانكسترية سابقة)، مع الموقف السردي الكامن للمؤدية العربية التي تتوجه إلى جمهور (غربي) مهيمن. كما أنها تحضّر المتفرجين للعبة التالية للمعاني الدفينة، التي سوف تُؤدى تحت لافتة البطاقة التعريفية الشكسبيرية، والتحفة الإثنوغرافية التي يشكّلها شكسبير بالعربية. بذلك، ومن خلال الوعي الذاتي الحاد والصريح في الرهانات الملازمة لتقديم مسرح سياسي بين الثقافات، تسعى الأعمال إلى الخوض في التوقعات والأحكام المسبقة للمتفرجين غير العرب، بهدف إيقاعهم في شرك التخريب المنهجي لأحكامهم هم المسبقة.

 

إدراك العرض بين الترجمة والخشبة

وبينما كانت الأعمال تجول عالميًا وتُعرض في الغالب أمام متفرجين من ثقافة غير عربية، بدا واضحًا أكثر فأكثر أن الجماهير تدرك العرض عبر شاشات الترجمة المعلّقة فوق الخشبة، بقدر ما تدركه عبر حركة الخشبة وصورها. تلك الملاحظة، التي تعتبر نوعًا ما بدائية، قادتني إلى أن أبدأ بدمج شاشات الترجمة في دائرة الأدوات الفنية المتوافرة للأداء. القاعدة العامة في شاشات الترجمة تفيد بأنها يجب أن تكون منفعية قدر الإمكان، كما يفترض بها ضرورةً ألا تتعمد إرباك الجمهور، أو تحوير انتباهه عن الحدث الرئيسي.

خلال جولة «ريتشارد الثالث: مأساة مُعربة»، التي شملت ترجمة النص إلى العديد من اللغات، بدأت ألعب بتلك القواعد، ومن عرضٍ إلى آخر، رحتُ أحرّر شرائح الشاشات وأجمّلها، لا لتوضيح المعنى، وإنما، أحيانًا، لإضافة الغموض إليه. وكانت المرحلة التالية من آلية العمل على تلك الشرائح لتكون في تحويل الأحرف ومشهد الشاشة، إلى الخشبة، الديكور، إطار مقدّمة الخشبة، أجساد الممثلين، وهكذا. تناقشنا حول ذلك كثيرًا مع فريق التصميم الهندسي، ولكننا لم نمتلك الوقت ولا الوسائل لاستكشافه كما ينبغي.

في آلية ملاعبة قواعد الشاشات الحيّة هذه، أضحى دور الشخصيات الناطقة بالإنجليزية في المسرحيات مهمًا جدًا. ضمن كل من تلك الأعمال الناطقة بالعربية، كُتبت أدوارٌ، صغيرة لكن يبنى عليها، ناطقة بالإنجليزية. عندما تم تفعيل هذه الأدوار، وانتقلت لغة الأداء إلى الإنجليزية، ظهر التزام فوري وملموس من قبل الجمهور غير الناطق بالعربية، تجاه الحركة الحيّة على الخشبة. فتحررت اللغة فجأة من غربتها، وخاضت في فورية لا وساطة فيها. هو الموازي المسرحي للـ «زوم» السينمائي، لينخرط الجمهور غير العربي مع الممثل الناطق بالإنجليزية ويتماهى معه، جسمانيًا، وبشكل لاإراديّ تقريبًا.

ولكن، لا مفر من وجود حدود لنجاح تلك الاستراتيجيات. هناك حدود لما يمكن أن ينجزه عملٌ قائمٌ على النص، يعرض أولًا لجماهير المسرح الذين لا يتشاركون لغة العرض وإشاراته الثقافية. «مؤتمر آل هاملت»، مثلًا، كانت مسرحية عن منطقة. العمل، الذي يعتبر تجريبيًا على مستوى الشكل وأنماط التمثيل وإعادة الاستيلاء على النص الشكسبيري، دار حول مخاوف منطقة واسعة ومتنوعة. رغم زرعها بتفاصيل الزمان والمكان («دبابة ميركافا على الحدود... ثوار شيعة في الجنوب»)، لم تحدد المسرحية إطارها أبدًا. في مسرحتها، وأزيائها، ولغتها، وصورها، تعمّدت المسرحية أن تتفادى تعريف دلالاتها الاستعارية، لكي تحافظ على انفتاح تفسيري، يتيح للجمهور ملء الفراغات. هذا الانفتاح التفسيري بدا أحيانًا مرهقًا وأدّى إلى نتائج عكسية، إذ غالبًا ما افتقدت الجماهير – كما النقّاد – الدرجة المطلوبة من المعرفة عن المنطقة العربية، التي تتيح لأفراده أن يملأوا الفراغ. كنتيجة لذلك، قُدّمت عروض بدا في نهايتها وكأن العمل أدى إلى إعادة تأكيد الانطباعات العامة عن منطقة مبالغٌ في تنميطها، من دون تمكين الجمهور من الذهاب إلى أبعد من جهلهم. نتعلّم بينما نتقدّم.

نحت إدراك الجمهور والنقد للمسرح السياسي العالمي، هو- إلى حد بعيد- مهمة مشتركة. فهي مسئولية مشتركة بين صنّاع العمل، من جهة، والشركاء الدوليين في العرض، من الجهة الأخرى، كونهم يتلقون العمل، يروّجون له، ويبيعونه. تحدّني مساحات الكتابة هنا عن الخوض في تفاصيل ذلك، ولكن، يبقى من الكافي القول إننا، خلال جولاتنا، عرفنا المباركة والتحدّي، على هذا المستوى.

عرضنا في الشرق الأدنى، وعرضنا في أقصى الغرب، تعاملنا مع توقعاتهم، وتحدّيناهم. عرضنا أمام الأميرات والرؤساء، فاجأنا الآخرين وأنفسنا. النظراء الغربيون، كما اتضح، يبحثون أيضًا عن شيء ما داخل المسرح العربي المعاصر، أبعد من الموضوع البحت. الغرب يدخل في مرحلة ما بعد التفوق، والهبوط الاقتصادي، يستشعر خلالها نهاية أسس هيمنته. ضمن أعمال المسرحيين العرب، ربما، يمكنهم أن يجدوا مرآة لأنفسهم، أبعد من الآخر الإثنوغرافي.

 

ودار الفلك

عندما انتقلت لإنجاز «ودار الفلك»، بدا منطقيًا أن يأتي إنتاج العمل الأخير في الثلاثية مشتركًا مع جهة عربية، وأن تفتتح المسرحية عروضها، أولًا وقبل كل شيء، في العالم العربي. قلت لنفسي إن هذا العمل سيكون مختلفًا، هذه المرة، سيكون مصدر إلهام، ليس من كيفية تصوير شكسبير للمذبحة، ولا من مهرجان الدماء، وإنما من كوميديا «الليلة الثانية عشرة». ولكن، عندما فشلت المفاوضات مع الممولين الخليجيين، ولم تهتم صناديق دعم عربية أخرى بتمويل العمل، وجدت نفسي أتساءل: لمن كل هذا؟ أين هو جمهور هذا العمل؟ أي تغيير يمكن لهذا المشروع المسرحي أن يصنعه في العالم العربي، عندما يكون بالكاد مسموحًا تقديم عروض داخل العالم العربي؟ ما هي جدوى المسرح عندما لا يمكن إيصاله إلى الجمهور المراد؟

روحية انقشاع الأوهام، والمرارة هذه، شكّلت وقود تطوير العمل الختامي في الثلاثية. يجب أن أوضح هنا أني لم أعرف أن آلية العمل هذه ستقود إلى ثلاثية، ولكني كنت قد بلغت درجة اكتفاء من شكسبير، وعرفتُ حاجةً منهجية وفنية لختم تلك التجربة، ما جعل من فكرة الثلاثية حتمية ومحقّة، في آن. وهكذا، في «ودار الفلك»، يجرّب مخرج مسرحي متقاعد حظّه، مفترضًا أن الادعاء المميت للنظام اعتذاريّ، فيرمي النرد مرة أخيرة. هي صورة عن مخرج مسرحي (أنا) يلهث باحثًا عن الهواء داخل نظام نجح، بواسطة الأسلوب المنهجي واللامبالاة، في طرد الأكسجين بالقوة من الفرد ومن الخيالات الشعبية. ثم، في مواجهة التغيير المفاجئ في سياق التاريخ، وبينما كنا نتمرّن على أداء هذا العمل في دمشق، فُتح بابٌ، ودخل الخشبة شيءٌ جديدٌ ومختلفٌ تمامًا: الربيع العربي.

في يناير 2011، أحرق بائع الفاكهة التونسي محمد بوعزيزي نفسه، صور فعله، وجسمه، وجنازته، قنّاصو السلطة، تضخّم الحشود، صعود مدّ الهتاف – كلها سرت كالنار في الهشيم من هاتف إلى آخر، من شاشة إلى أخرى، من تغريدةٍ لأخرى، من محطة إلى أخرى، من مدينة إلى أخرى، مصر، ثم اليمن، المغرب، الجزائر، ليبيا، سورية، العراق: هنا كانت نهاية الزمن المخفي، عودة الزمن للظهور، الزمن مجددًا. الملايين خرجوا إلى الشوارع يطالبون باستعادة كرامتهم. طغاة فرّوا من قصورهم، تنحوا، أُودعوا المستشفيات، أو باتوا تحت الحصار. عاد التاريخ العربي للالتحاق بالحياة. حطامُ أنظمة قديمة تتفتت، وأنظمة جديدة تولد.

 

مجال للنشوة

الآن إذًا، بعد كل هذه السنوات من المقاومة عبر إنتاج مسرح يروي عن النهايات السيئة، حضرت الحاجة لإفساح مجال للنشوة. نشعر بحاجة ماسّة إلى تغيير النهاية، حتى ونحن نعترف بأن النشوة يجب أن تُعاش أولًا، قبل أن تتم مسرحتها. خلال العروض التمهيدية لـ «ودار الفلك» في الكويت في أواخر فبراير 2011، كان هناك ما يتسبب بتحرّرٍ هائل، في الانزلاق إلى النشوة التي استهلكت العالم العربي. ولكن، يتطلب المعنى واللغة الدرامية في هذا الجيشان، المزيد من التفكير. ما كان يجري منذ يناير 2011 فتح الطريق أمام بدائل عدّة للأفكار التقليدية عن السلطة، والشعب، وحتى العلاقة ما بين الكتابة والواقع. لم يعد ينبغي بالنهايات أن تكون نهايات: هي بدايات. فجأة، وُجد الكثير من الحياة لكي يعاش، كثيرٌ لدرجة تتطلب التخيّل وإعادة التخيّل. وهي إعادة التخيّل هذه التي توجب على المسرح احتضان جمالياتها ومسئولياتها المدنية، للمساعدة في تشكيل جماليات خيال ما بعد الثورات.

ختمت «ودار الفلك» باقتراح أؤمن به بشدّة: الضوء الذي ألقي على أحداث الثورات العربية يتطلب نصوصًا جديدة، أساليب جديدة في التخيّل. النقد المنبعث من خلف الأقنعة الشكسبيرية، أقنعة الآخرين، لم يعد صالحًا لنقد تلك المرحلة من الدراما العربية، تلك اللحظة من التاريخ العربي. النهضات حطّمت المرايا والأقنعة.

 

طقوس التحولات والإشارات

لذلك، وبفضل منعطف قدري، وجدت نفسي– في وقت الكتابة – مدعوًا لإخراج مسرحية سعد الله ونّوس «طقوس التحوّلات والإشارات» (1994)، في المسرح الوطني الفرنسي «ذا كوميديه فرانسيه» في مرسيليا وباريس حاليًا- وهو في الحقيقة سبب تعذر حضوري فعاليات الندوة بشكل شخصي، حيث إننا نقوم حاليًا ببروفات العمل، والذي سيكون النص العربي الأول الذي يرد في دليل تلك المؤسسة المهيبة على امتداد تاريخها الطويل والجليل. إنها بداية رحلة جديدة بالنسبة إليّ، افتتحت بإدخال بذور نص عربي إلى صلب التقليد الأوربي المسرحي. يحضر في ذلك عامل من عوامل البحث عن بدايات جديدة كليًا تتناسب وما يجري في عالمنا العربي الآن، فلطالما كان النص الشكسبيري والعدسة الشكسبيرية هي الأداة التقليدية لاستقراء الواقع وتحليله ونقده والتنبؤ بالمستقبل بعيدًا عن مقص الرقيب الرسمي، كان ذلك صالحًا حين كانت الوقائع والمجريات تقع وفقًا لما هو منتظر ومتوقع استقراء وتحليلًا، أما اليوم وبعدما خرج مسار التاريخ في العالم العربي عما هو متوقع ومتنبأ به، فإن النصوص الشكسبيرية وسواها من الأدوات التي استخدمت لمئات السنين لم تعد صالحة لتحليل ما يجري وقراءة القادم، وبالتالي فإن علينا نحن المسرحيين والمثقفين أن نفسخ القناع الذي كاد يصبح هو وجهنا البديل، وأن نبحث عن آليات وأدوات ووسائل جديدة نتعاطى بها واقع ما بعد سقوط عيون الرقيب وإسقاط أنظمة الرقابة، فحين تسقط أنظمة القمع تتلاشى معها أقنعة السلطة –والمعارضة- والنصوص، تلك التي كانت ندًا و«قفًا» لها في آن معًا كما يرى سعدالله ونوس، عندها يصبح ما يُنطق هو إرهاصات الأحرف الأولى لنص جديد لم يُكتب بعد، نص توازي ضخامته غموضه.. هو نص «الحرية».

وإيمانًا مني بذلك فقد طلقت النص الشكسبيري وأبنته في «ودار الفلك» الجزء المتمم للثلاثية الشكسبيرية، وبدأت البحث عن أدوات وآليات جديدة، وجدت خيوط بدايتها في تجربة خضتها في باريس عبر عمل «في مقام الغليان: أصوات من ربيع مختطف»، والذي يضم ستة مونولوجات تقدم مقاربة جديدة لما يجري في العالم العربي في زمن الربيع، وقد قدمت هذا العمل في باريس في يونيو 2012 وفي سيدني في يناير 2013، وآمل أن أكون وأنا على رأس مشروعي المشترك مع المسرح الوطني الفرنسي لتقديم «طقوس التحولات والإشارات»، آمل أن يكلل بحثي عن ابتداع واختراع أدوات وآليات ووسائل جديدة، فالسؤال الذي يواجهنا كمسرحيين خليجيين وعرب اليوم هو: كيف يتفاعل المسرح مع الربيع العربي وما بعده؟ وأي مستقبلٍ ممكنٍ للمسرح في هذا المنعطف التاريخي الكبير.

واسمحوا لي هنا أن أكون متفائلًا وأن أختم هنا بالعبارة التي ختم بها الراحل ونوس رسالة يوم المسرح العالمي لعام 1996، والتي كلفه المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو بكتابتها، وهو بالمناسبة أول عربي يحظى بشرف كتابة رسالة ستتلى على كل خشبات مسارح العالم في اليوم ذاته (27 مارس)، تلك العبارة التي تحولت بعده إلى حكمة حين قال: «إننا محكومون بالأمل.. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ».
------------------
* مخرج وكاتب مسرحي من الكويت.

 

 

 

الكاتب المسرحي سعدالله ونوس

 

ويليام شكسبير

 

البسام يتوسط فريق العمل في مسرحية ودار الفلك

 

سليمان البسام

 

مشهد من «ودار الفلك» في العرض الأول الذي ساهم البسام في بطولته ولاحقاً أدى دوره الفنان روجيه عساف

 

نشعر بحاجة ماسة إلى تغيير النهاية