العرب والأتراك.. مقاربة تاريخية

دأب الكتّاب والسياسيون والمؤرخون العرب، على وجه العموم وإلى وقت قريب، على النظر إلى فترة الحكم العثماني التي امتدت لأربعة قرون لـ«الوطن العربي»، 1516-1918، على أنها «عصر الانحطاط». ولم يشعر هؤلاء، في غالب الأحيان، وهم يصمون أربعة قرون «بحلوها ومرّها» بالحاجة إلى تقديم الأدلة والبراهين على هذا القول، الذي نادرًا ما خلا منه نص تاريخي.

كما أن هذا الوصف يتعامل مع الحكم العثماني في مختلف الأرجاء العربية في مختلف مراحلها بصورة نمطية واحدة بما ينطوي عليه هذا التعميم من أخطاء منهجية فادحة. والسبب في ذلك أن الحركة القومية العربية أو ما تفرّع عنها ونشأ على ضفافها دأبت على تصوير الحكم العثماني على أنه استعمار تركي، وقد شاعت تعابير من قبيل «النير التركي» أو «النير العثماني» وذلك لتصوير أي حركة للتمرد أو العصيان، مهما كانت دوافعها، على أنها نضال تحرري في سبيل «الاستقلال العربي» أو «الاستقلال اللبناني»..إلخ. وربما كان ذلك مفهومًا في إطار ما سُمي بالثورة العربية الكبرى ومشاريع بناء الدولة العربية القومية أو الدولة الوطنية. فهذا أمر درجت عليه الحركات القومية الساعية لبناء دولة/أمة أو دولة وطنية من حيث النظر إلى الفترة التاريخية السابقة. على أن النظرة العربية السلبية لم تقتصر على تقييم الفترة العثمانية سياسيًا بغض النظر عن صواب أو خطأ هذا التقييم، بل تعدّت ذلك إلى إدانة تلك الفترة علميًا، وأدبيًا، وحضاريًا، واجتماعيًا..إلخ، حتى كاد العثمانيون أو الأتراك أن يكونوا مسئولين عن كل ما هو سيئ في المجتمعات العربية. فهم مَن تسبّبوا بتخلف العرب في كل الميادين، وهم المسئولون عن إشاعة الممارسات السلبية في المجتمعات العربية.

هنالك إلى جانب ما سلف، مدرسة في التاريخ العربي، كانت في فترة ازدهار المشاريع القومية، تمثل أقلية. وهي المدرسة التي رأت في الدولة العثمانية دولة إسلامية عملت على نشر راية الإسلام وحافظت على الشريعة وعلى دولة الخلافة، لذا فقد تكالبت عليها القوى الغربية و«الشرقية» الأوربية وتآمرت عليها بسبب دفاعها عن الإسلام والمسلمين. وطبقًا لهذه الرؤية، فإن التاريخ العثماني وخاصة في الفترة المتأخرة (القرن التاسع عشر وأوائل العشرين) يُقرأ على أنه سلسلة من المؤامرات التي حيكت لإضعاف الإسلام والمسلمين، وتصبح «الثورة العربية الكبرى» وما شابهها من حركات، مؤامرات حاكتها الدول الأوربية، ومن نسج على منوالها. أما في العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، فقد نشأت دراسات تركز على تفحّص واقع الدولة العثمانية وعلاقتها مع شعوب المنطقة العربية في إطارها الزمني.

وقد نتج عن ذلك الاتجاه دراسات تهتم بأحوال الولايات والسناجق والنواحي اتخذت طابقًا مونوغرافيًا تفصيليًا. وقد ساهم الباحثون الأوربيون والأمريكيون، ومَن تتلمذ على أياديهم من العرب والترك في فتح طريق هذه الدراسات، التي استفادت من مدارس التاريخ الحديث، وفتحت آفاقًا منهجية جديدة، واستعملت مصادر لم يسبق أن استعملت في كتابة التاريخ العربي.

ومن أهم هذه المصادر، نشير إلى وجه الخصوص إلى الأرشيف العثماني، وهو الأرشيف الذي يذخر بمئات ملايين الوثائق والذي لا غنى لأي باحث في تاريخ شعوب وبلدان الدول التي كانت يومًا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، عن اللجوء إليه وذلك نظرًا لطبيعة الوثائق التي يحتوي عليها هذا الأرشيف ومصداقيتها، فهي أعدت وحفظت لأهداف إدارية لا تأريخية، وتغطيتها لكل أرجاء الإمبراطورية العثمانية على مدى القرون واشتمالها على معلومات في الاقتصاد والسياسة والإدارة والدين والثقافة وإلى غير ذلك من شئون الدولة والرعية. وقد أنتج ذلك معرفة أكثر مصداقية وقربًا من واقع الحال في ما يتعلق بحقيقة علاقة الدولة العثمانية مع رعاياها العرب، وبالتالي علاقة العثمانيين و(الأتراك) مع العرب. وقد نشأت في حنايا هذه المدرسة، وخاصة في العقدين الأخيرين، نظرة فيها الكثير من الرومنطيقية التاريخية رأت في الدولة العثمانية نوعًا من الكومنويلث، ودولة متعددة الأعراق والأديان واللغات في إطار من العيش المشترك المتسامح، وهي نظرة تلقي صدى عميقًا لدى عدد متزايد من عامة العرب وخاصتهم نظرًا إلى النزعة الأصولية الصاعدة حديثًا والصراعات العديدة على أنواعها في المنطقة العربية.

أما الاثنتا عشرة سنة الأخيرة على وجه التحديد، وربما بشكل أساسي بسبب التغيير الكثير الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية، في ما يتعلق بخطابها على الأقل واقتراب هذا الخطاب من الموقف العربي التقليدي «الخطابي» أيضًا، فقد شهدت محاولات كتابة التاريخ أو إعادة كتابته من منطلق الأخوة العربية التركية، وانعكس ذلك في كثير من المجالات خارج إطار التاريخ، وربما كان المثال الأوضح على ذلك، ما عُرض ويعرض من مسلسلات تركية وعربية وأفلام. وآخر تجليات هذه القراءة السياسية السطحية للتطورات التركية المعاصرة، هو ذهاب بعض العرب الآن، ممن لا تروق لهم بعض مواقف تركيا مما يدور حاليًا في إطار الربيع العربي إلى اتهام الحزب التركي الحاكم حاليًا بمحاولة إعادة السلطنة والخلافة العثمانية.

سأحاول في ما يلي من عجالة، أن أقدّم صورة عن نظرة العرب إلى الدولة العثمانية، وبشكل خاص كيف رأى مؤرخان عربيان عاشا في ظل الدولة العثمانية في فترتين يفصل بينهما قرن ونصف القرن، وكتبا عن أحداث عاصراها أو علما بها بسبب موقع كل منهما الخاص في مجتمعه محاولاً الإجابة عن السؤالين التاليين: هل كان ما حدث سنة 1516 (من هزيمة المماليك وانتصار العثمانيين) فتحًا أم احتلالاً، تحريرًا أم استعمارًا؟ وكيف نظرت قطاعات من أهالي بلاد الشام وكيف كانت مشاعرهم لدى رؤيتهم للجيش العثماني بين ظهرانيهم؟ هل كانت هذه المشاعر تتفق، والتوصيف اللاحق لما حدث بأنه احتلال واستعمار ونير تركي - عثماني؟ الهدف من هذا هو الإيضاح بالمثال، بأننا إذا أردنا أن نفهم ماضي العرب العثماني، فإن علينا أن ندرس هذه العلاقة في إطارها الزماني والمكاني دون تعميم، وألا نسقط عليها مفاهيمنا ومواقفنا السياسية الحاضرة، سلبية كانت أم إيجابية. كذلك يجب علينا دراسة المصادر المعاصرة حيثما توافرت هذه المصادر ومقارنتها لتبيان الحقيقة في كل ما يروى من أحداث أو تفسير لها.

في البداية لابد من التعريف بالمؤرخ الأول الذي سأتناول بعض جوانب نظرته للدولة العثمانية وطبيعة علاقاتها مع رعاياها العرب (هنا بلاد الشام).

مؤرخنا الأول هو شمس الدين محمد بن طولون وهو دمشقي المولد والمنشأ والوفاة، وُلد في دمشق المملوكية سنة 880هـ (1476م) وتوفي في دمشق العثمانية سنة 943 هـ(1546م). كان من أغزر علماء عصره إنتاجًا، إذ وضع ما يزيد على 750 من المؤلفات المختلفة المواضيع. وقد تمحورت مواضيع العديد من كتبه ورسائله على مواضيع تتعلق بمدينته دمشق من حيث تاريخها وقضاتها وبعض أحيائها، وقد نُشر له في الفترة الحديثة العديد من كتبه وخاصة ما يتعلق منها بتاريخ دمشق في العصرين: المملوكي والعثماني.

تكمن أهمية ابن طولون كمؤرخ في أنه يكتب عما عاصر من أحداث وينقلها لنا كما شاهدها أو كما وصلت الأخبار بها إلى دمشق على شكل تدوين يومي (يوميات). كان ابن طولون يعيش في دمشق سنة 1516، وقد نقل إلينا مشاهداته من مخيم العسكر العثماني، الأهم من ذلك، أن ابن طولون نجح في أن يوصل إلينا شعوره كدمشقي تجاه الجيش العثماني «الفاتح» أو «المحتل» بطريقة غير مباشرة ودون أن يتخذ موقفًا صريحًا تأييدًا أو اعتراضًا، وذلك عبر مشاهداته المباشرة. وهو بذلك كان أقرب إلى نقل مواقف ومشاعر أهالي دمشق، وربما عموم أهالي بلاد الشام مما كان يدور حينذاك. إذن فنحن أمام شهادة عالم من أهم علماء عصره، والعلماء حينذاك كانوا هم واسطة العقد بين السلطة السياسية والشعب. يقول ابن طولون في كتابه «مفاكهة الخلان في حوادث الزمان»:

«وفي بكرة يوم السبت مستهل رمضان منها (سنة 922هـ)، وصل ملك الروم سليم خان بن بايزيد خان.. بن عثمان في عساكر عظيمة لم نر مثلها، ويقال إن عدتها مائة ألف وثلاثين ألفًا، ما بين أروام وأرمن وتتر وسواريه (Suvari السواري وهي بالتركية تعني الخيالة) وافرنج (ربما عني بالإفرنج عساكر الانكشارية وهم حينذاك كما هو معروف من أولاد مسيحيي البلقان) وغير ذلك.

وقدّامه ثلاثون عربة، وعشرون قلعة على عجل، يسحب كلا منها بغلان، ولما أطلقوا البارود في المصطبة، ظنت أهل دمشق أن السماء انطبقت على الأرض، وخلفهم النايات والطبول النقّارة، وخلفهم المشاة رماة البندق، وخلفهم الخنكار الملك المذكور، وخلفه السناجق (العلم) والطوخان (جمع للكلمة التركية طوغ: ذيل الحصان وهو ما كان يوضع على الخوذة أو يرفع على سارية دلالة على رتبة صاحبها) والعساكر على حسب طبقاتهم. وفي (يوم الأحد 2 رمضان 922) ذهبت إلى وطاق (المخيم السلطاني) الخنكار (السلطان)، قاصدًا الاجتماع بالمدرسين الذين معه، ويقال إن عدتهم ستة وثلاثون مدرسًا خفيًا، فلم يتيسّر ذلك لعدم المعرفة بلسانهم، فدرت فيه فذهلت من كثرته، وتعجبت من الأسواق التي فيه، وقلّما تروم شيئًا ألا تجده فيها، وهي سائرة معه من بلاده، فمن صنف اللحامين خمسة عشر قاليًا للحم، ومثلها من الطبّاخين لألوان عدة، ومثلها حكماء، ومثلها جراحية، ومثلها بياطرة، ومثلها أساكفة، ومثلها حدّادون، ومثلها علاّفون، وهذه الأعداد تقريبًا وغالب ظني أنها أكثر من ذلك (من المعروف تاريخيًا أن دوائر القصر السلطاني سواء المتعلقة بالخدمات أو بالإدارة والحكم كانت ترافق السلطان إلى ميدان القتال عند قيادته شخصيًا لجيشه)، إلى غير ذلك من السوقة.

ثم ذهبت إلى العربات والقلاع، فتفرجت فيها، ولم أرها قبل ذلك. فإذا هي أمر عجيب تدل على تمكّنه، والعربات مجنزرة، بعضها في بعض، بحيث إذا صفت تكون كالسور، وكل عربة ترمي بندقة ملء كف الرجل من رصاص، ولهذا البندق صندوق تحتها، وهي مركبة عليه في طول الشخص. ثم ذهبت إلى مخيم الخنكار فلم أمكن من القرب به، وتفرجت على طبوله، فإذا كل طبل قدر حمولة رجلين، يحمل كل اثنين منهما على جمل، ومخيمه المصطبة نفسها، والعسكر بالبعد منه قدر رمية حجر من كل جانب، وهم محتاطون به كالسور على البلد.

وفي يوم الخميس سادسه (رمضان) دخل الخنكار من المصطبة إلى حمام الحموي (ومن الجدير بالذكر أن هذا الحمام أصبح يعرف منذ ذلك بالحمام السلطاني)، الكائن بعمارة السلطان قايتباي، بمجلة مسجد القصب، ودخله وأعطى لمن حلق له خمسمائة درهم، ولمعلم الحمّام مثلها، ونودي له بمعلم الحمّامين، وكان قدامه من الخاصكية جانب كثير، وخلفهم رماة البندق، وخلفهم الشاووشية، ثم هو، وخلفه أمردان بشعور لابسين على رأسيهما كوفيتين من ذهب، وخلفهما جمع من عسكره، وكان قبل دخوله بلحية لطيفة، فلمّا خرج من الحمّام رأيناه قد حلقها كغالب عسكره، ثم ركب ورجع إلى المصطبة».

هذه الرواية تنبئنا بالكثير حول شعور سكان دمشق تجاه سلطانهم ودولتهم الجديدة. يتضح من رواية ابن طولون، أن وصول السلطان سليم بجيشه إلى دمشق قد تم دونما قتال في المدينة أو بالقرب منها.

انبهار بالجيش العثماني

كذلك من الواضح أن ابن طولون شديد الانبهار بالجيش العثماني عدة وعديدًا. كذلك فهو شديد الانبهار بالوطاق السلطاني (مخيم السلطان) ومن المعروف في التاريخ العثماني أن دوائر القصر السلطاني، كانت ترتحل مع السلطان حين قيادته للجيش، ولذا فإن ابن طولون يعدد هنا كل أنواع الاختصاصات التي اصطحبها السلطان وهي عينها الموجودة في القصر السلطاني.

 ويعرب ابن طولون عن شديد انبهاره بما رأى بالقول: «فذهلت من كثرته، وتعجبت من الأسواق التي فيه، وقلما تروم شيئًا ألا تجده فيها، وهي سائرة معه من بلاده. وكان قصد ابن طولون من زيارة الوطاق السلطاني الاجتماع بالمدرسين الذين معه، ويقال إن عدتهم ستة وثلاثون مدرسًا حنفيًا، فلم يتيسر ذلك لعدم المعرفة بلسانهم».

لقد حال عدم معرفة ابن طولون باللغة التركية من التواصل مع الحرّاس للوصول إلى العلماء في وطاق السلطان، وربما لو قيض له أن يجتمع بهم لكان قد وصل إلينا حوار مهم بين علماء الجيش الفاتح وعالم من المدينة التي دخلها هذا الجيش، إلى جانب ذاك، لابد من الإشارة إلى أن جرأة ابن طولون في التوجه إلى المخيم السلطاني، ودخوله وعدم اعتراضه من قبل القائمين عليه، وصولاً إلى خيمة السلطان شخصيًا سلوك لا يدل على شعور بالهزيمة أو بالخوف أو التوجس من الجيش الفاتح. لقد دفعه إلى ذلك حب الاستطلاع والتعرف إلى العلماء المصاحبين للسلطان وثقته بأن هذا الجيش ليس جيشًا لعدو، بل إنه أقرب ما يكون في ضوء هذا السلوك جيشًا صديقًا.

إن سلوك السلطان سليم، في ذهابه في سادس أيام وصوله إلى دمشق إلى الحمام والاستمتاع بحمّام تركي في دمشق، إضافة إلى حلاقة لحيته إنما يدل على الشعور بأنه لا يقيم في أرض معادية، بل هي أقرب ما تكون إلى عاصمة سلطنته.

ربما كان من غير الجائز اتخاذ رواية مؤرخ واحد دليلاً على أي أمر، إلا أننا هنا لسنا بصدد الحكم على انطباعات أو آراءٍ لابن طولون بل على تصرفاته في الأيام الأولى للحكم العثماني. وكذلك تصرفات السلطان العثماني. هنالك الكثير مما يمكن إضافته إلى الوقائع التي وردت أعلاه، مثل زيارات السلطان سليم إلى الجامع الأموي، وقبر ابن عربي (وإقامته لعمارة عليه). والتي تدل على الاهتمام العثماني بدمشق، بما ينفي عنها صفة المحتلّة والمستعمرة، وهذا الاهتمام لم يقتصر على أوائل القرن السادس عشر بل استمر إلى نهاية الحقبة العثمانية.

تأريخ الدويهي

مؤرخنا الثاني هو أسطفان الدويهيّ، وهو يختلف في وجوه كثيرة عن محمد بن طولون. فبينما كان ابن طولون مسلمًا سنيًا حنفيًا من مدينة دمشق، نشأ وعاش فيها وتابع تحصيله «العلمي التقليدي» على أيدي علماء مسلمين من مشاهير زمانهم، ولد الدويهي حوالي عام 1630 لعشيرة الدويهي المرموقة في منطقة جبّة بشري في أقاصي جبل لبنان الشّمالي، وأرسل إلى روما عام 1641 لمتابعة دروسه في الكلية المارونية التي كان البابا جريجوري الثالث عشر قد أنشأها لتخريج رجال دين للكنيسة المارونية.

وقد أمضى الدويهي أربعة عشر عامًا في روما في متابعة دروسه وحصل في نهايتها (العام 1655) على درجة الدكتوراه. وقد كتب الدويهي في العديد من المواضيع اللاهوتية، إلا أنه ترك لنا أيضًا آثارًا تاريخية مهمة، وربما كان أهمها على الإطلاق «تأريخ الأزمنة» (أسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، حققه فردينان توتل، بيروت، 1951)، الذي كتبه على طريقة المؤرخين المسلمين والعرب التقليديين من حيث ترتيبه الزمني وابتدأه بهجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. يختلف «تاريخ الأزمنة» عن «مفاكهة الخلان». فبينما نلاحظ أن «مفاكهة الخلان» يقتصر على تدوين مشاهدات ابن طولون أو مسموعاته المباشرة، فإن الدويهي يغطّي فترة زمنية طويلة يستعين في التأريخ لها بمصادر إسلامية و(لبنانية) معروفة. كذلك فقد استعمل وثائق الكنيسة ومراسلاتها مع الفاتيكان والجهات الأخرى كالسلطنة العثمانية. هذا مع العلم أن الكنيسة المارونية لم يكن لها وجود مستقل في نظام الملة العثماني، كذلك الذي أسبغ على الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الأرمنية.

كذلك فإن الدويهي قد كتب «تاريخ الأزمنة» وغيره مما كتب في وادي قنوبين المعزول عن مجريات الأحداث والتحولات المهمة، إلا أنه من الواضح، وخاصة في تغطية تاريخ الأزمنة للفترة ما بعد 1668 (وهذا التاريخ كان بداية تأليف الكتاب) أن الدويهي كان على علم بتطورات الأوضاع في طرابلس والشوف واستانبول.

بالرغم من اختلاف المنشأ والمولد والثقافة، فإن الدويهي يشبه ابن طولون في أنه ينتمي بطريقة ما إلى طبقة العلماء، وإن كان خارج المؤسسة العلمية العثمانية والإسلامية.

لنَر كيف استعاد الدويهي الفتح العثماني لبلاد الشام:

«وأقام (السلطان سليم) بحلب أيامًا كثيرة حتى مهّد الملك وأجرى أحكامًا عادلة على الرعايا..

وسار بجيشه إلى دمشق فخرج أهلها للقائه وطلبوا منه الأمان فأجابهم إلى ذلك.. وأمر بعمارة الإكسير الأكبر»، والسلطان سليم لكثرة حلمه أمر في عمار البلدان.. إلا أنه يقول أيضًا:

«وفي هذه الحروب صار ظلم عظيم على الخلق، أوجيبوا فيها الخراج مرتين». وربما كانت الإشارة هنا إلى أن الناس دفعوا الضرائب مرتين في سنة واحدة: مرة للمماليك والثانية للعثمانيين.

ألا إن الأهم من شهادة الدويهي في الطابع العام للحكم العثماني، هو شهادته من موقعه العارف بعلاقة هذا الحكم مع رعاياه غير المسلمين، والحديث هنا عن الموارنة بشكل خاص. ففيما يتعلق بالعلاقة بين الكنيسة المارونية والدولة العثمانية، وبالرغم من أن الموارنة، كما تمّت إليه الإشارة لم يشكّلوا ملّة معترفًا بها، فقد أشار الدويهي صراحة إلى بعض الأحداث التي يظهر فيها العثمانيون كسلطة غير منحازة لم تضطهد، بل حمت طائفته من الافتئات عليها.

فهو يورد - مثلا - تحت عام 1550 أن المطران أنطون الحصروني ذهب إلى حلب للشكاية لدى السلطان سليمان (الذي كان في المدينة) من ممارسات يقوم بها بعض الموظفين المحليين في ولاية طرابلس الشام ضد النصارى. وقد عاد المطران الحصروني بأوامر شريفة (أي سلطانية) تمنع على أي كان التدخل في ممارساتهم الدينية أو زواجهم وبالسماح لهم بتعمير كنائسهم، كما أن الفرمان الموجّه إلى قاضي طرابلس والمؤرخ في الأول من ربيع الأول 956هـ (13 مارس 1549) قضى بألا يتعرض أحد لبطريرك الموارنة المقيم في وادي قنوبين لدى قيامه بواجباته البطريركية وألا يسمح «للهراطقة» بالوجود في منطقتهم. كذلك يورد الدويهي، أن البطريرك الماروني أرسل في سنة 1552 عرضحال إلى السلطان سليمان مجددًا من يشكو فيها أن الصوباشي في سنجق حلب قد بالغ في تقدير الضريبة المفروضة على أملاك دير قنوبين.

وقد استجاب السلطان وأمر قاضي طرابلس بأن يتحرّى حقيقة الأمر وأن يعيد المال المغصوب إلى أصحابه. كما يورد الدويهي أمثلة على تدخل السلطات العثمانية في النزاعات التي تقوم بين الطوائف المسيحية. فهو يورد في العام 1564 مثلاَ بأن البطريرك الماروني حصل على أمر من والي دمشق يأمر فيه قاضي القدس بإخراج الأقباط من الكنيسة المارونية بعد أن سيطروا عليها بطرق ملتوية. كما يتحدث الدويهي عن نزاع جرى بين الكنيسة المارونية والكنيسة الملكية في دمشق وكان ذلك بسبب اعتماد الموارنة لتقويم الغريغوري سنة 1614، ولذا فقد كان الفرق في بدء الصوم بين الموارنة وغيرهم وخصوصًا الملكيين خمسة أسابيع. وقد اشتكى بطريرك الملكيين لوالي دمشق الذي ألقى القبض على قسّين مارونيين وثلاثة من المواطنين الموارنة. ولدى تشكّي القسّ يوسف بن حبيب للوالي وشرح الأمر له بأن اعتمادهم للتقويم الغريغوري لم يكن أمرًا منوطًا بهم محليًا. وعندما تمنّع بطريرك الملكيين عن الحضور إلى مجلس الوالي قُبض عليه وحبس وسمح للموارنة أن يحتفلوا بعيد الفصح بموجب تعليمات بطريركهم.

هذا المثال الأخير يشير إلى أن الموارنة وبالرغم من أنهم ووجهوا بالكنيسة ذات الصلات القوية مع الدولة، نالوا حقهم كاملاً.

هذه الأمثلة، والكثير غيرها، يوردها الدويهي دون أي تعليق، وهو نادرًا ما يتدخل في روايته للأحداث بل يقدمها بلغة محايدة ودونما أحكام.

قدمنا في ما سبق شهادتين معاصرتين لفترتين متباعدتين ولمنطقتين من بلاد الشام. وربما أمكننا اعتبار شهادة ابن طولون ممثلة للرأي العام المسلم أو بعضه، بينما تمثل شهادة الدويهي الرأي العام المسيحي (والماروني خصوصًا) أو بعضًا منه.

--------------------
* أكاديمي من لبنان.

--------------------------

سنرجعُ يومًا إلى حيِّنا

 

ونغرق في دافئات المنى

سنرجع مهما يمرُّ الزمان

 

وتنأى المسافاتُ ما بيننا

فيا قلبُ مهلًا ولا ترتمي

 

على درب عودتنا موهنا

يعز علينا غدًا أن تعود

 

رفوفُ الطيور ونحن هنا

هارون هاشم رشيد