من المكتبة الأجنبية: التائهون

عرض: رلى راشد*

 

تتحدث الكاتبة الأمريكية غرايس بيلي المسماة «تشيخوف نيويورك» عن الجذور الثقافية بنبرة العارفين. تقول إنه ليس عليكَ أن تحب تلك الجذور وإنما أن تعترف بها بأسلوب معين، معللة دعوتها بأنها الأصوات التي تملأ أُذنيك باستمرار. في وسعنا، لأكثر من سبب التقرب من نص أمين معلوف «التائهون» ونحن نتأمل كلام بيلي. نمطّ الإشارة الى الصلة بالجذور الثقافية لتشمل إشكالية الانتماء الى المسقط لاسيما عندما يُستدعى استحقاق النأي الجسماني عنه.


تتبدى رواية الكاتب اللبناني-الفرنسي أمين معلوف «التائهون» الصادرة بالفرنسية لدى دار «غراسيه» مأخوذة تاليًا الى هذه الأبعاد بلا ريب، ذلك ان الكاتب ومنذ غادر لبنان الى فرنسا في مطلع الحرب الأهلية في 1976، لم يُدِر لبلاد المنشأ ظهره وإن قدر له الابتعاد منها.

يحتمل أن نستبقي لرواية أمين معلوف Les Desorientes عنوان «التائهون» وفق الترجمة المعتمدة لدى «دار الفارابي» التي تولت تعريب النص الصادر في 2012. غير ان مرمى الكاتب اللبناني-الفرنسي لم يكن وصف مسار التيه بمعناه الأوحد الأفقي وإنما استدعاء حالاً من الضياع ترتبط بفقد البوصلة صوب الشرق تحديدًا، وتعني الأبناء الوافدين من هذه البقعة الجغرافية على نحو دقيق. يكتنف نعت Desorientes إذن معنيين في معنى وربما أكثر، ليجعل العنوان العربي لا يرتقي الى مرمى العنوان الفرنسي وإن دنا منه.

تتبدى الرواية الحديثة الأكثر التصاقا بسيرة أمين معلوف، في حين يظهر نصه الأثير الفائز بجائزة «غونكور» الفرنسية الرفيعة قبل أعوام «صخرة طانيوس» الأكثر ارتباطا بالسيرة اللبنانية. في رواية «صخرة طانيوس» التي تحركت في حدود تيمات القدر والشرف والتراجيديا، كان ثمة عودة الى لبنان الأسطورة ولبنان الإقطاعي المرصود لأحقاد دفينة وعمليات انتقامية متأصّلة. وإذا جعل ذاك التوزّع «صخرة طانيوس» رواية المنفى تصير «التائهون» عندئذ رواية البحث عن شجرة النسب.

البحث عن الفردوس المفقود

منذ مطلع الرواية ثمة استحضار لمرحلة الشباب وتقرّب من فكرة محورية لا تنفك تخيّم على الشخصيات الفتيّة وترتبط بالتنقيب عن أفضل أنماط العالم، عن نسخته المثالية. يشكّل هذا التوق منبتًا لنص روائي يأتي بصوتين أضيف إليهما إيقاع تبادل الرسائل، وهذا كله طمعًا بسرد العودة المادية والباطنية في آن، لإنسان الى وطنه الأول، الى الفردوس المفقود.

تتكور الحكاية على آدم الشخصية الرئيسية والمؤرخ الباريسي الذي غادر مسقطه قبل خمسة وعشرين عاما فارّا من مطرح انخرط للتو في عجلة الصراع الأهلي الدموي. والحال ان السلم لم يشجّعه للمفارقة على سلوك طريق العودة، في حين يحثّه اتصال هاتفي واحد على ذلك. في الطرف الثاني من السماعة صوت زوجة أحد أصدقاء الشباب باسم مراد. يقف مراد على شفا الموت فتسأل الزوجة آدم المجيء. سيلبّي النداء بيد أنه يصل متأخرا للقاء الصديق وإنما في الوقت المناسب ليعيد التآلف مع فكرة المكان. يمكث خمسة عشر يوما في مسقطه يسترجع خلالها ربع قرن انقضى، ولا تلبث أن تعيد حلقة الأصدقاء الجامعيين وهؤلاء بلال ورمزي ورامز وسميراميس تشكيل نفسها، وتلك عصبة عرفت بهوية «البيزنطيون» يدخلنا استرجاعها شيئا من مناخ «حكاية الثلاثة عشر» للكاتب الفرنسي الجميل اونوري دو بالزاك. كان بعض أفراد المجموعة منضويًا تحت راية فكر ألبير كامو والبعض الآخر مدينًا لأفكار جان بول سارتر أو مقاربة نيتشه الفلسفية أو منظور السورياليين، بيد أن الأهم في وسط ذلك كله كان حلول النقاش مكان الاندفاع الأعمى صوب اقتراف الجرائم وعطش الدم.

يلبس أمين معلوف أفضل «حلّة» تليق به وهي تلك التي تمزج بين دور الكاتب ودور المؤرخ، كرمى استفهام الذاكرة والوثائق الشخصية التي نجت من الماضي. تبعثر أصدقاء الأمس القريبون جغرافيًا في اصقاع العالم بل ونفسانيًا وطائفيًا. لم يكن انتماء كل واحد منهم في الماضي الى بوتقته الطائفية سببا للفرقة، غير أن الحرب تكفّلت بإيجاد الذرائع، وأمعنت في جعل الانتماءات تضيق أكثر. ألقى النزف الداخلي أوزاره على كل شخص على حدة فبدله ودفع به صوب الحوافي.

التزامات الوطن!

في قراءة للنص الأصلي بالفرنسية نعثر على صوت معلوف الروائي المألوف يشخّص في أكثر الأنماط صدقا علاقة المرء بوطنه. ها إنه يمنّطق الصلة فلا ينجرف الى الحشد الشعاراتي الذي يأتي على المفاهيم فتبهت وتفقد قيمتها، وإنما يركز على ثنائية المواطن- الوطن. يكتب (التعريب شخصّي) «ينبغي لبلادك أن تفي إزاءك بمجموعة من الالتزامات. يجب أن يتم عدّك مواطنا مائة في المائة، ألا تتعرض للقمع أو التمييز أو انواع الحرمان البالغة. ينبغي لبلادك ومسئوليها أن يؤمّنوا لك ذلك، وإلا صرت لا تدين لهم بشيء، ولا حتى التعلق بالأرض أو تحيّة العلم. تدين بكل شيء للبلاد حيث تقيم ورأسك مرفوع، وتضحي إزاءها بكل الممكن وبحياتك الشخصية حتى. أما المكان حيث انبغى لك العيش ورأسك خفيض، أتعلق الأمر ببلاد الاستقبال أو ببلادك الأصلية، فلا تمنحه شيئا. يستدعي السخاء سخاء متبادلاً، أما اللامبالاة فتستدعي اللامبالاة، بينما يأتي الازدراء بالازدراء. إنها شرعة الناس الأحرار، وفي ما يخصني لا أعترف بسواها».

لا يكلّ آدم يحاول الذهاب الى أكثر الأفكار والأفعال صوابية، ليتراءى في معنى ما قريبا من مبتكره أمين معلوف المهموم بالدقة التاريخية. يجعل الكاتب شخصيته المحورية يتأمل الخيارات التي أدارت دفة حياته المتأرجحة بين الهنا والهناك، بين الآن والأمس على نسقه تقريبا. ذلك آنه وفي حين يقر معلوف بأن «آدم هو صنوه الى حدّ معين»، يردف أن «قصته وقصة عائلته لا تخصّانه البتة».

«التائهون» لحظة العودة الى الرواية بالنسبة الى معلوف، بعد اثني عشر عاما على اصداره تجربته الروائية الثامنة «رحلة بالداسار». ها إن جزيرة ديو (غرب فرنسا) الساحرة حيث يقيم جزءا من العام، تعمل محفّزة لإلهامه مجددا، فتجرّه الى تلك اللعبة النصية الرقيقة التي تبدأ عند عتبة العنوان. يمكن أن ننزع الى اعتبار «التائهون» النص المؤثر والحميم سيرة ذاتية، غير أن تدخّل معلوف العلني في أكثر من حوار صحفي كفيل بأن يعدّل رؤيتنا بعض الشيء. يشدد على انه عمد الى استباق المناخ الواقعي فحسب، أي مناخ المراهقة اللبنانية في تشعباتها كافة، أما الباقي كل الباقي، فمجرد خيال.

ثمة كلاسيكية في السرد بيد أن ذلك لا يعيق أن يتبدّى الإيقاع لاهثًا ومصقولاً، في حين لا يسع القارئ سوى أن يتورط في اللحاق بكل مصير من مصائر الأصدقاء. يدخل دائرة كل منها تدريجيًا ونكاد نقول عفويًا، لأن النص يصرّ على الإتيان ببعد نفساني متقدم. لا ينفك آدم من جهة وأمين معلوف من جهة ثانية يحللان بصوتين عالمًا ماضيًا وآخر سيأتي. يعملان على تفكيك شيفرة المنفى ونقيضه أي القدر البائس الذي يعنيه عدم مغادرة المكان عينه. يحاول معلوف تحديد أسباب الصراع الأهلي فيمرّ بالتطرف ونهم النجاح وشهوة المال ونقصه وفورته وصولاً الى الجرائم، يسعى أيضا الى تحديد المسئوليات بتأنٍ. يجري إدخال هذه الموضوعات ذات البعد الوجودي في نبرة لا تحيّد المشاعر في حين تشي بتعلق الراوي الخفِر بماضيه الذي انطفأ الى غير رجعة.

حق الرحيل

«الرحيل». دفعت تلك الفكرة بالروائي المغربي - الفرنسي الطاهر بن جلون الى كتابة «الرحيل» رواية الأقدار المتقاطعة التي انطلقت من استنتاج بسيط يقول إن المغاربة الشباب يرغبون في العمل وتأسيس حياتهم بعيدا من مسقطهم، في أوربا خصوصا وفي أمريكا الشمالية أحيانًا. يعاين الكاتب في الرواية الصادرة بالفرنسية قبل أعوام نزعة عنيفة تتسم بالهوس والقلق والعصاب النفساني حتى. الرحيل بأي ثمن وإن كان المجازفة بالحياة. شخّص بن جلون حركة ازدهرت في التسعينيات من القرن المنصرم، في حين غاب هذا التصميم على النأي بالنفس عن مكان الولادة في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم للمفارقة. آنذاك غادر بعض المغاربة من أجل قيادة النضال للحريات بدءا من الخارج، في حين تمسكت الأكثرية بحلم العودة.

يرصد معلوف هو الآخر الرحيل في «التائهون» قائلا انه يحق لكل امرئ الرحيل في حين ينبغي لبلاده أن تقنعه بالبقاء، يزيد «لا تسأل ما يمكن بلادك أن تقدمه لك بل اسأل ما يمكنك أن تقدمه لها. يسهل قول ذلك عندما يملك المتحدث المليارات ويكون انتخب في الثالثة والأربعين رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية! عندما تعجز في وطنك عن إيجاد العمل وتأمين الطبابة ومكان للسكن وتمنع عن التعبير الحر والتجول في الشوارع على سجيتك، فما قيمة شعار جون أف كينيدي؟ ليس الكثير».

يمكن ادعاء أن «التائهون» ألبوم صور مزنّرة بالحنين. من طريق حكاية رفاق الطفولة الذين شتتتهم الحرب، يوفّق الكاتب في الهزء من التروما أحيانًا، من عبء اسمه الحرب الأهلية، فيميل الى اقحام شيء من الفكاهة الخاصة ترتبط بشخوصه، كمثل أن يقرر أحد أفراد حلقة «البيزنطيون» أخذ حياته بيده ليجري اختطافه في اليوم عينه، قبل المضي بمخططه.

بين شريحة واسعة من الكتاب اللبنانيين والنص الناطق بالفرنسية، حكاية انبهار تلامس أحياناً الفتنة المطلقة. ذلك ان اللغة التي نحن في صددها حمّالة وجوه ليس أقلها شأناً الثقافي والتنويري. الفرنسية كلام الفلسفة والأدب في بعديهما الأكثر تشعبًا وإثراء. جاء معلوف كما ثلة من اللبنانيين الى أرض روسو ومونتسكيو وهوغو واستراح في رحاب الفرنسية، من باب التماثل والشغف والانتقاء أحيانا، أسس في وسط آخرين لفرنكوفونية أدبية قائمة في ذاتها، أرسوا ما يشبه الأدب الأقلوي في لغة أكثروية. والحال ان دخول الكاتب في 2011 «الأكاديمية الفرنسية»، ليس أمرًا عابرًا. صار معلوف أول لبناني ينتمي الى المؤسسة الفرنسية العريقة، أتى إليها بحساسية الشرقي وعقلانية الأوربي.

في روايته «التائهون» ليس ثمة حديث عن لبنان وإنما عن الشرق ولا تجري تسمية الحرب باسمها وانما تعاين «الحوادث» وفي وسط كل تلك المعاني المزدوجة على ما يبدو محاولة للتستر على حقائق معروفة وتمرين على حماية النفس من شُرر الواقع الحارقة. ذلك أن الحديث عن الموضوعات الشخصية مؤلم بلا شك. يقول معلوف في هذا الشأن: «كان ليصعب علي جدا أن أتحدث بضمير المتكلم في سيرة ذاتية. لا يروقني أن أتحدث عن نفسي. أميل الى أن أكون متحفظا الى حدّ السريّة أحيانا حتى».

لا يتنكّر الكاتب المحبّ للفرنسية لأصوله غير ان كلمة «جذور» لا تروقه. ذلك أن الناس على حدّ قوله وعلى نقيض الشجر التي تتعفن في مكانها، في وسعهم أن يمشوا. في «التائهون» صدى لهذه الفكرة الجميلة عندما يكتب «الولادة هي المجيء الى العالم، وليس الى هذه البلاد أو سواها».

--------------------

* كاتبة وناقدة من لبنان.

-----------------------

أجلْ إنّي من القدسِ

 

وفيها قد نما غرسي

جذوري في عروق الصخر

 

في الصّلد، وفي الملس

ومن كنعان بي نبضٌ

 

ومن عدنانَ، من قيس

من الماضي، من الحاضر

 

من يومي، ومن أمسي

عريق المجدِ والأنسابِ

 

مشدودٌ إلى الشمس

بها أختالُ في الدنيا

 

وأمشي رافعَ الرأس

هارون هاشم رشيد

 

 

 

أمين معلوف