جمال العربية: في الذكرى الثانية والسبعين لرحيل شاعر فلسطين: إبراهيم طوقان

في الثاني من مايو عام 1941 رحل الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، الشقيق الأكبر لشاعرة فلسطين فدوى طوقان، والأستاذ الذي أخذ بيديها إلى آفاق العلم والمعرفة، حين كانت المدرسة محرمة على بنات الأُسر المحافظة، المتمسكة بالتقاليد العاتية، في نابلس، واتكأت هي عليه في مشوارها الحياتي والشعري الذي كتبت عنه في كتابها البديع: «رحلة جبلية، رحلة صعبة». كان إبراهيم أستاذها في الحياة والشعر، ودليلها الإنساني والثقافي إلى كلِّ ما حُرمته، وتاقت إليه. ورأت فدوى في شعره: الغنائي الذاتي والوطني النضالي والقوميّ العروبي، نموذجها الأول، ومدرستها الشعرية الأولى.

هل يمكن لأحد أن يتحدث إذن عن إبراهيم طوقان بمثل ما تحدثت فدوى شقيقته الصغرى وتلميذته، عندما تقول: «لا أحب إليّ من ساعة آخذ فيها مجلسي من أمي، فتحدثني عن طفولة شقيقي إبراهيم - رحمه الله -، ويا له شعورًا حزينًا، يتسرَّب في شعاب قلبي، حين تفتتح حديثها عن إبراهيم بهذه الديباجة التي تفعم نفسي بالرحمة لها، والحسرة عليه: «لقد بلوت في إبراهيم الحلو والمر، ولقيت فيه من الحزن وطارقات الهموم، أضعاف ما لقيت من السعادة والهناء». وتترقرق في عيني كلٍّ منا دمعة، وتعتلج في صدر كل منا لوعة، ثم تشرع هي، في حديثها عن طفولة إبراهيم، وقد أقبلتُ عليها بحواسي وقلبي وروحي جميعا».

وتنتقل فدوى إلى حياة إبراهيم وهو طالب بالجامعة الأمريكية في بيروت فتقول: «لقد احتضنت إبراهيم في الجامعة وخارجها بيئة شعرية أدبية، لم تكن لتحتضنه لو لم يكن في بيروت. أما في الجامعة فقد كان هناك رعيل من أقرانه الطلاب، امتاز بصبغته الشعرية، وتعاطيه لقول الشعر الجزل. من ذلك الرعيل كان عمر فروخ «صريع الغواني» وحافظ جميل «أبو نواس» ووجيه بارودي «ديك الجن» وإبراهيم طوقان «العباس بن الأحنف».

وكان تجاوب الذوق والمشرب قد وصل بين هؤلاء بأسباب المحبة والأخوة. وكانت تجري بين حافظ ووجيه وإبراهيم مساجلات شعرية عديدة، تناقلها الطلاب وأحبوها، غير أن هذه المساجلات لم تكن لتخرج عما توحي به طبيعة الشباب الملتهب، المندفع وراء الحياة.

هذا في الجامعة، وأما في خارجها، فقد كانت هنالك مجالس الأدب العالي والشعر الرفيع، وكلها تفتح لإبراهيم صدرها، وتوليه من عنايتها واهتمامها، وتعقد بينه وبين أصحابها صلة الود. وحسبي أن أذكر من أصحاب تلك المجالس الأدبية الرفيعة، المرحوم الشيخ أمين تقي الدين، والمرحوم الأستاذ جبر ضومط، والشاعر بشارة الخوري «الأخطل الصغير». وأصبح إبراهيم شاعر الجامعة كما لقَّبته صحف بيروت».

ثم تقول فدوى: من عجب أن يظل قلب إبراهيم خاليًا من المرأة حتى ذلك الحين، ولقد كان أصدقاؤه في الجامعة يعجبون لذلك ويقولون له على سبيل المزاح: «أنت شاعر ولكن بلا شعور، أين وحي المرأة في شعرك؟».

في سنة 1926، وإبراهيم في الثانية والعشرين، طلعت في الجامعة في بيروت، فتنة تمثلت في صورة فتاة فلسطينية طالبة هناك، فأحيت قلوبًا وسحقت قلوبًا. وتورط إبراهيم ودخل المعركة، وابتلي حسنات وسيئات، وكان الطريق الأدبي الجديد الذي نهجه، والاستعداد الكبير للسير في هذا الطريق. صار قوي الملاحظة، حاضر العاطفة، متوفز الأعصاب. صار كثير المطالعة، صيادًا للمعاني، بسيط العبارات، سهل الفهم، مصيبًا. ونظم في فتاته قصيدته المدوية «في المكتبة» التي يقول فيها:

وغريرةٍ في المكتبة

 

بجمالها مُتنقِّبة

أبصرتها عند الصباح

 

الغضّ تشبه كوكبة

جلست لتقرأ أو لـ

 

ـتكتب ما المعُلّم رتّبه

فدنوتُ أسترقُ الخطى

 

حتى جلستُ بمقربة

وحبسْتُ، حتى لا أرى

 

أنفاسيَ المُتلهّبة

ونهيْتُ قلبى عن

 

خفوقٍ فاضحٍ فتجنبه

راقبتهُا فشهدتُ أنّ

 

الله أجزل في الهبة

حمل الثرى منها

 

على نور اليدين وقلَّبه

وسقاه في الفردوس

 

مختوم الرحيق وركَّبه

فإذا بها مَلَكٌ

 

تنزَّلَ للقلوب المتُعبة

يا ليت حظ كتابها

 

لضلوعيَ المتُعذّبة

حضنتهُ تقرأ ما حوى

 

وحَنتْ عليه وما انتبهْ

فإذا انتهى وجهٌ

 

ونال ذكاؤها ما استوعبه

سمحت لأنملها الجميلِ

 

بريقها كيْ تَقْلبِه

وسمعتُ وهي تُغمغمُ

 

الكلماتِ نجوى مُطربة

ورأيتُ في الفم بدعةً

 

خلابةً مستعذبة

إحدى الثنايا النيّراتِ

 

بدتْ وليس لها شبه

مثلومةً من طرْفها

 

لتحسَبْنها مَثْلبة

هي، لو علمتَ من

 

المحاسن عند أرفع مرتبة

هي مصدر السِّيناتِ

 

تُكسبُها صدًى، ما أعذبه

وأما وقلبٍ قد رأت

 

في الساجدين تقلَّبه

صلّى لجبار الجمالِ

 

ولايزال مُعذِّبه

خفقانُه متواصلٌ

 

والليل ينشرُ غَيْهَبه

متعذبٌ بنهاره

 

حتى يزور المكتبة

وأمَا وعيْنِك والقوى

 

السحرية المُتحجِّبة

ما رمتُ أكثر من حديث

 

طيبُ ثغرِكِ طَيَّبه

وأرومُ سنَّكِ ضاحكًا

 

حتى يلوح وأرقُبه!

 

وتكشف فدوى طوقان - في حديثها الوداعي عن شقيقها وأستاذها إبراهيم طوقان - عن صفحة غير معروفة عنه، وهو يتأهّب للتخرج من الجامعة، ويفكر في مستقبله بعيدًا عن مهنة التعليم وأن يكون معلمًا، فقد كان طموحه في ذلك الوقت يدفعه للتطلع إلى آفاق أرحب. تقول فدوى:

«إن المفاوضات كانت جارية بينه وبين إحدى دور الصحافة في مصر، وتوشك أن تنتهي على أحسن ما يتمناه، فهذه مهنة تلائم ذوقه على الأقل، وتسير مع اختصاصه، سيكون محررًا في مجلة كبرى في القاهرة، وناهيك بالقاهرة من مدينة فن وأدب وجمال. وأي شيء تصبو إليه نفس الأديب الناشئ الطموح ولا يجده في القاهرة؟ المكتبة الكبرى (تقصد دار الكتب )، الأزهر، الصحف، الشعراء، الكتّاب.. «يا مصر، لله مصر» صحافي، صحافي!

هذا ما كان إبراهيم يحدث به نفسه في أيامه الأخيرة في الجامعة، وهو لا يدري أنه سيجيء إلى مصر يصحبه والده - ليستشير الأطباء فيما يشكوه من ألم في معدته منذ كان تلميذًا في مدرسة المطران في القدس». مصر التي يحييها بقصيدة ألقاها في حفل بيروتي ترحيبًا بقدوم فرقة الجامعة المصرية الرياضية عام 1931:

 

تحية لك يا مصر الفراعينِ

 

ذوي المآثر من حيٍّ ومدفونِ

ولم تزل دوحةُ الآدابِ وارفةً

 

على جواركِ خضراءَ الأفانين

إليك يا مصر إيمائي ومُلْتفتي

 

ونور نهضتك الغراءِ يهديني

ولي أواصرُ قُربى فيكِ ما برحت

 

لما مضى، ذات توثيق وتَمكين

شقّوا «القناة» عساها عنكِ تُبعدني

 

أَنَّى، ومن لغتي جسرٌ سيدنيني

أحبُّ مصر، ولكنْ مصرُ راغبةٌ

 

عني، فتعرضُ من حينٍ إلى حينِ

وإن بكتْ لا بكتْ هما، فقد علمت

 

وأيقنتْ أنَّ ذاك الهمَّ يُبكيني

وما عتبتُ على هجرٍ تُدلُّ به

 

إنَ الدلال يُمنّيني ويُغريني

لكن جزعت على وُدٍّ أخاف إذا

 

فقدْتُه لم أجد خِلاًّ يُواسيني

في أصدقائي أُعزّى إن همو هلكوا

 

وفي الصداقات ما لي من يُعزيني

قالوا شفاؤُكَ في مصرٍ وقد يئسوا

 

مني، وأعيا سقامي من يُداويني

خلّفتُها بلدةً (1) «يعقوب» خَلَّفها

 

شوقًا ليوسف قبلي فهو يحكيني

تُقلّني من بنات النار (2) زافرةٌ

 

وجذوة الشوق تُزجيها وتُزجنيى

حتى سمت ليَ جنّاتُ النخيل على

 

ضفافِ مطّردِ النعماءِ ميمونِ

هبطتُ مصر، وظني أنها رقدت

 

في ظلِّ أجنحةٍ من ليلها جُونِ

كأنها وكأنَّ الليل منصدعًا

 

بنورها سرُّ صدرٍ غيرُ مكنونِ

و«الأزبكية» في الأمساء راقصةٌ

 

لها غلائلُ من شتى الرياحينِ

والنور ذو لحظاتٍ في خمائلها

 

كأنها لحظاتُ النُّهّدِ العينِ

ما لي وللسُّقْمِ أخشاهُ وأسأل عن

 

طبيبه، «وعمادُ الدين» (3) يشفيني

لو أنشب الموت بي أظفاره لكفى

 

بأم كلثوم أن تشدو فُتحييني

هذا ومصر بساتين مُنمَّقَةٌ

 

شبابها بعضُ أزهار البساتينِ

خاضوا ميادين من جِدٍّ ومن لعبٍ

 

فأحرزوا السَّبْقَ في كلِّ الميادينِ

 

والمتأمل في شعر إبراهيم طوقان الوطني والقومي، يرى ما تراه فدوى. فهو شعر يحمل طابعًا فلسطينيًّا خاصًّا، كان حتمًا أن تطبعه به أحوال البلاد المضطربة في ذلك العهد المظلم من عهود فلسطين. ولم يكن إبراهيم - كما يرى دارسوه ومحبو شعره - ليفوز بلقب شاعر الوطن وشاعر فلسطين لو لم يسجل قضية بلاده في شعره المتوهج بالقوة والوطنية الذي يمتاز بذلك الطابع الفلسطيني الخاص، ولو لم تنعكس في ذلك الشعر أصدق صورة لهذا الوطن في ذلك العهد. وهي الحالة الشعرية والوطنية التي لازمته طالبًا ومعلمًا وإذاعيًّا في إذاعة القدس، لم يسلم خلالها من شغب الأطراف اليهودية ووقوفها له بالمرصاد، وبخاصة عندما قامت الحرب العالمية الثانية وقامت الرقابة على الصحف والنشر والإذاعة، وانتهى الأمر بإقالته من عمله الإذاعي في عام 1940، ليبدأ بعدها رحلة العمل معلمًا في مدارس العراق. ولم يكد يمضي شهران على إقامته في العراق حتى سقط فريسة العلة والسقم، فعاد إلى بلدته نابلس، لينقل إلى المستشفى الفرنسي في القدس، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة في مساء الجمعة الثاني من شهر مايو سنة 1941 مسندًا رأسه إلى صدر أمه، وقد نزف دمه وخارت قواه.

ويبقى من بعده شعره، في أعماله الشعرية الكاملة التي أعدّها ورتَّبها الأستاذ ماجد الحكواتي وأصدرتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في مناسبة انعقاد دورتها الثامنة في البحرين عام 2002، فأتيح لشعر إبراهيم طوقان المتناثر في مصادر شتى، من صحف ومجلات ودوريات، وفي عواصم عربية عدّة: القاهرة ودمشق وبيروت وعُمان، أن يُجمع ويُحفظ. وقد رحل إبراهيم قبل أن يجمع ديوانه وينشر لأول مرة بفضل جهد شقيقه أحمد طوقان، وصدور طبعته الأولى عن دار الشرق الجديد في بيروت عام 1955. وهو شعر يكشف عن التواصل الحميم بين الشاعر وشعراء الاتجاه الرومانسي في الشعر العربي، الذي مثّلته جماعة أبولو في مصر وأعلامها علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل والهمشري وغيرهم، وفي تونس أبوالقاسم الشابي، وفي لبنان الأخطل الصغير بشارة الخوري وأمين نخلة وفي سورية عمر أبوريشة وبدوي الجبل، وفي العراق الجواهري والزهاوي والرصافي، الذين جمعوا بين رصانة النهج العمودي ومغامرات النموذج الرومانسي، واحتفلت قصائدهم بالصور الشعرية والخيال المجنح والمعجم الشعري المتخير وبالبوح الذاتي والتأمل الوجودي في الطبيعة والكون. بالإضافة إلى انغماس الجميع في أتون الحركة العربية الكبرى التي اشتعلت في النصف الأول من القرن العشرين، مُبشرة بالحرية والتحرر وطرد الاستعمار والسعي نحو التوحد والتكامل.

في قصيدة عنوانها «الفدائي» تمثل طلقة شعرية من طلقات الشاعر المدوية والمصيبة للهدف يقول إبراهيم طوقان:

 

لا تسل عن سلامته

 

روحه فوق راحته

بدّلته همومه

 

كفنًا من وسادته

يرقب الساعة التي

 

بعدها هولُ ساعته

شاغلٌ فكر من يراهُ

 

بإطراقِ هامته

بين جنبيْه خافق

 

يتلظى بغايته

من رأى فحمة الدجى

 

أُضرمت من شرارته

حمّلته جهنم

 

طرفًا من رسالته

هو بالباب واقف

 

والردى منه خائفُ

فاهدئي يا عواصفُ

 

خجلا من جراءته

صامتٌ لو تكلما

 

لفظ النار والدما

قل لمن عاب صمته

 

خُلق الحزمُ أبكما

وأخو الحزم لم تزل

 

يدهُ تسبقُ الفما

لا تلوموه قد رأى

 

منهج الحق مُظلما

وبلادًا أحبَّها

 

ركنها قد تهدَّما

وخصومًا ببغْيهم

 

ضجت الأرضُ والسَّما

مرَّ حينٌ، فكاد يقتله اليأسُ،
إنما هو بالباب واقف
والرّدى منه خائفُ
فاهدئي يا عواصفُ
خجلاً من جراءته

 

وفي طلقة شعرية ثانية عنوانها «الشهيد» يقول شاعر فلسطين إبراهيم طوقان:

 

عبس الخطبُ فابتسمْ

 

وطغى الهول فاقتحمْ

رابط الجأش والنهى

 

ثابت القلب والقدم

لم يُبالِ الأذى، ولم

 

يثْنهِ طارئُ الألم

نفسهُ طوْعُ همةٍ

 

وجِمت دونها الهممْ

نلتقي في مزاجها

 

بالأعاصير والحُممْ

تجمع الهائج الخضمَّ

 

إلى الراسخ الأشمّ

وهي من عنصر الفداءِ

 

ومن جوهر الكرم

ومن الحق جذوة

 

لفْحُها حرَّر الأمُمْ

سار في منهج العلا
يطرقُ الخلْد منزلا
لا يُبالي، مكبَّلا
ناله أم مُجدّلا
فهو رهن بما عزَمْ

 

ربما غاله الرَّدى

 

وهو بالسجن مُرتهنْ

لم يُشيّعْ بدمعةٍ

 

من حبيبٍ ولا سكنْ

ربما أُدرجَ الترابَ

 

سليباً من الكفنْ

لسْتَ تدري بطاحها

 

غيَّبتْهُ أم القُنن

لا تقل أين جسمُه

 

واسمهُ في فم الزمن

إنه كوكبُ الهدى لاح

 

في غيهب المحن

أرسل النور في العيونِ

 

فما تعرفُ الوسنْ

ورمى النار في القلوب

 

فما تعرف الضَّغنْ

أيّ وجهٍ تهلّلا
يردُ الموتَ مُقبلا
صعد الروح مُرسلا
لحْنَهُ يُنشد الملا
أنا لله والوطن

 

ويبقى شعر إبراهيم طوقان شاهدًا على عظمة شعب، وعظمة شاعر مُجدِّد، سبق عصره وزمانه، فكان الرائي والشاعر المستقبلي.
---------------------------
(1) المقصود بلدته نابلس في فلسطين.
(2) بنات النار: القطار.
(3) «عماد الدين» هو شارع الفن في القاهرة عندما زارها الشاعر.