الـسـيـرة الـذاتـيـة .. خـيـط رفـيـع بـين الـحـقـيـقـة والـفـضيحـة

سوف تبقى السيرة الذاتية العربية مقيدة ما دام مناخ الحرية العربي مقيداً, وما دامت كل الوثائق التي تخص تاريخه مقيدة وخارجة عن السياق أيضاً. لكن حتى أولئك الذي يحاولون أن يتصدّروا قيادة كتابة السير الذاتية عليهم أن يضعوا أمام أعينهم تأثير ما يقدمون للجمهور وحجم الخطورة التي تمثلها تلك الشهادات سواء في شكلها السياسي الاجتماعي المباشر أو الأدبي. وأن يضعوا مجتمعهم العربي بكل تاريخه الثقافي أمام أعينهم, ويرفقوا قليلاً بقارئهم الذي لايزال خاضعاً لأفكاره الدينية وأخلاقه الاجتماعية التي ورثها جيلاً بعد جيل, وألا يحاولوا هدم تلك الثقافة الغائرة في وجدانه بضربة واحدة, فلربما تتحوّل إلى ضربة قاضية تهدم بدل أن تبني.

السيرة الذاتية فيها جزء من سحرالتجربة البشرية والرغبة في معرفة الإنسان

لا نعرف عن الحوادث الكبرى إلا أنصاف الحقائق لأن كل الوثائق غائبة

السطور التالية ليست مقطعا من رواية جريئة يحاول فيها المؤلف أن يحطّم سطوة الأب والمكانة التي يحتلها في منظومة القيم داخل الأسرة العربية, ولكنها اعترافات حقيقية وشهادة يدلي بها ابن عن أبيه في الصفحات الأولى من السيرة الذاتية التي نشر الأديب سهيل إدريس جزأها الأول تحت عنوان (ذكريات الأدب والحب).

 (والحقيقة أنني لم أكن أحب أبي, إذ كنت أشعر أنه يعيش جوّاً من النفاق, وجاء وقت بدأت أحسّ أن أبي يحيا حياتين: حياة مع زوجته وعائلته, وحياة ثانية مع آخرين. واكتشفت ذات يوم اصطحابه لشاب جميل الطلعة, أشقر الشعر, كنت أراه أحياناً في المتجر الملاصق لمتجره على المرفأ. وقد دخل مع هذا الشاب إلى غرفة الاستقبال, وسمعت بعد قليل صوت انغلاق الباب الداخلي لهذه الغرفة وصوت المفتاح يدور في قفل الباب. فناديت أخي الأكبر وحكيت له, فهزّ رأسه كأنه فهم ما أقصد إليه, وتمتم بعبارة فيها لهجة استنكار, وتكررت هذه الحادثة, وازددت كرهاً لهذه الازدواجية عند أبي(.

إنّ كتابة السير الذاتية لم تعد أمراً نادراً في أدبنا العربي. فقد شهدت الساحة العربية فيضاً كبيرا من هذه السير والمذكرات, والمذكرات المضادة. ولكن هذه السطور نادرة في جرأتها وتجاوزها حدود الأعراف الاجتماعية, خاصة أن هدفها هو رأس العائلة واتهامه بالشذوذ الجنسي.

وهذه السطور تعد تجاوزاً جريئاً على مرحلة كانت السيرة الذاتية تقدم كاتبها في صورة مثالية, بينما تلصق كل النقائص والعيوب بالآخرين.

هذه السير الأحادية الجانب. لا تظهر إلا نصف الحقيقة - هذا إن كان هدفها أصلا هو الحقيقة وليس تصفية الحسابات - فلم تحاول السيرة الذاتية العربية أن تقترب من المصارحة والصدق بدرجة عالية في كشف الذات إلا فيما ندر. وربما كان هذا هو هدف سهيل إدريس وهو يسعى لكتابة سيرته أن يقدم شيئاً مختلفاً وقريباً من نمط السيرة كما تكتب في الغرب ويكون هدف كاتبها تعرية ذاته وليس مواجهتها فقط.

ولكن المشكلة أن السير الذاتية في الغرب تأتي في سياق حضاري وثقافي مختلف عن الواقع العربي. فكثير من دارسيها يعتبرونها امتداداً لعملية الاعتراف التي يقوم بها الفرد داخل الكنيسة كل فترة من الزمن. في هذا الاعتراف يتخفف الفرد من إحساسه بالذنوب والخطايا التي يرتكبها, وعليه أن يسردها بأمانة وصدق حتى يظفر بالغفران الذي يطمح إليه. وقد أضاف مناخ الحرية الفكرية واحترام خصوصية الآخرين والتربية الديمقراطية على عملية الاعتراف أبعادا أخرى ساعدت كتّاب السيرة الذاتية على البوح بكل مزاياهم ونقائصهم بدرجة عالية من الصراحة. وساهم تقبل المجتمع الغربي لقيام العلاقة المثلية والتي تجمع بين الجنسين وموافقته عليها في جعل الكثيرين يعترفون بهذا الأمر.

نمط حضاري مغاير

هذا السياق الحضاري مغاير لنا تماماً, فحتى الآن مازالت مؤسسة الأسرة هي الركيزة الأولى في مجتمعنا, ومازال الأب يحتل قمتها الهرمية بقدر ما يمثله من مكانة اجتماعية وسلطة عائلية, كما أن الاعتراف بمثل هذا النوع من العلاقات المثلية يمثل صدمة - لا مبرر لها أحياناً - في نمط العلاقات السائدة في مجتمعنا الذي يستهجن هذا الأمر ويعده ضد الدين والعرف. وعلينا أن ندرك أن مفهوم الحرية الفردية لم يتطور إلى الدرجة التي تجعلنا مؤهلين لكشف هذا النوع من العورات وتحطيم مثل هذه القيم الراسخة. إنني لا أدعو هنا إلى التمسك بالأخلاق الجامدة أو إخفاء العيوب والمثالب, ولكن أودّ أن يكون هذا النوع من المكاشفة مفيداً في تقريبنا إلى جوهر الحقيقة وليس الانشغال بأمور الشذوذ وإبرازها على أنها هي الحقيقة الوحيدة الجديرة بالمكاشفة. ونركب موجة التقليد فيما نكتب بهدف الإثارة فقط.

ويقودنا هذا إلى تلك السيرة الذاتية التي كتبها القاص المغربي محمد شكري تحت عنوان (الخبز الحافي), وقد كشف الكاتب فيها عن ألوان كثيرة من هذا الشذوذ, الأمر الذي دعا الغربيين إلى ترجمتها والاحتفاء بها بوصفها صورة صادقة للمجتمع المغربي الغارق في شهواته. وهي صورة زائفة قدمت للغرب بالطريقة التي يريدها والصورة التي يتخيلها عنا. وإذا كانت مذكرات سهيل إدريس تتمتع بنوع من الأسلوب الأدبي المتميز, فإننا نفتقد هذا الشيء تماما في سيرة محمد شكري. فالصورة التي يقدمها لمدينة طنجة تجعلها أشبه بماخور كبير لا يوجد فيه إلا الجنس والشذوذ والعنف والمخدرات, وهي صورة تظلم ذلك الواقع العربي الحافل بالبسطاء من الناس والكادحين من أجل لقمة عيشهم.

إن محاولة عرض الحقيقة العارية تعود بشكل جزئي إلى واحدة من أقدم السير الذاتية التي عرضها الأدب الغربي, وأعني بها اعترافات جان جاك روسو الذي كان فيلسوفاً وكاتباً فرنسياً في القرن الثامن عشر, ومثلت آراؤه في التربية والاحتفاء بالحرية طفرة جديدة في فكر النهضة الأوربية. وأذكر أنني عندما قرأت هذه المذكرات في مرحلة مبكرة من عمري صدمت بما فيها من جرأة وصراحة في استعراض روسو لحياته الجنسية, وقد رأى الكاتب الفرنسي أندريه موروا في كتابه عن (فن التراجم والسير الذاتية) أن هناك نوعاً من الاستعراض جعل روسو يبالغ في ذكرياته حول هذا الموضوع. فلا يمكن أن نتقبل فكرة وجود إنسان عار طوال الوقت. والإنسان سواء أردنا ذلك أم لا هو كائن تكسوه الثياب. وحتى أيام العصر الحجري عندما كانت الثياب متعذّرة كان يكسو نفسه بجلد الحيوانات. لذا فإن فكرة الإنسان المتحضّر هي صورة أقرب إلى الحقيقة بالنسبة لنا من الإنسان العاري. إن اللجوء إلى الإيحاء أفضل كثيراً من الوصف السافر, فالذي ينتمي إلى خصائص الشخصية الإنسانية هو المشاعر والمواقف. أما السلوك المادي والفيزيائي - كما يؤكد أندريه موروا - فهو عادي ومبتذل.

سحر السيرة الذاتية

ولكن ترى ما هو السحر الكامن في السيرة الذاتية. ولماذا تحقق كتبها أعلى المبيعات رغم أن كتابها أحياناً ما يكونون أبعد الناس عن مهنة الكتابة? فأشهر هذه الكتب كتبها سياسيون سابقون وفنانون خبت عنهم الأضواء, وقادة خاضوا معارك يزعمون أنهم انتصروا فيها, وملوك أرغموا على ترك عروشهم, وعشيقات غدر بهن من قبل رجال مهمين, وأرباب بعض الصناعات الذين يرون في قصص نجاحهم عبرة وقدوة للآخرين.

إننا نقبل على هذه الكتب مدفوعين بسحر التجربة البشرية والرغبة في معرفة الإنسان الذي تتحدث عنه السيرة في صورة أقرب ما تكون إلى الحقيقة. فهناك أكثر من وسيلة للاقتراب من ذلك الكائن المجهول المسمى الإنسان. هناك وسيلة الإبداع الأدبي التي يحاول من خلالها الكتّاب اكتناه جوهر الروح البشرية وإعادة صياغة تجربتها بحيث تصبح قاسماً مشتركاً أعظم بين العديد من البشر. وهناك وسيلة العلم التي تخضع كل ما يخص الإنسان - كمادة حية - للبحث العلمي. وكلها تحاول الإجابة عن ذلك السؤال المحوري لتفسير السلوك البشري في زمن ما, وتحت ظل ظرف ما. ولكن الاقتراب الأكبر هو عندما يحاول الإنسان بنفسه أن يقدم هذه الإجابة. فمن المؤكد أن كل إنسان هو البطل المطلق لسيرته الذاتية. وإذا كان صادقاً وموضوعياً بدرجة كبيرة, فإن باستطاعته أن يقدم من الداخل صورة نادرة لكل نوازعه وأهوائه وكل المبررات والدوافع النفسية التي جعلته يقوم بكل ما قام به من تصرّفات.

وعلى طول التاريخ البشري, لم يكف الإنسان عن كتابة سيرته الذاتية, فعل ذلك الإنسان البدائي على جدران الكهوف التي كان يسكنها حين سجل عن طريق الرسم كل مخاوفه من الوحوش التي كانت تطارده أثناء الصيد نهاراً, وفي أحلامه ليلاً لعله بهذا الرسم يستأنس هذه الحيوانات ويجمّدها في مكانها وينزع من داخله الخوف منها. ثم عرف الانسان النقش على الجدران في حضارات مصر القديمة وبابل وآشور حين سجلوا أخبار ملوكهم وقادتهم. وقد حفظ الحجر الصلد حتى يومنا هذا الكثير من الأكاذيب والقليل من الحقائق. وكذلك حملت ألواح الطين الرخو الكثير من الكتابات والتراجم, وحتى جذوع الخشب النبيلة وخيوط السجاد الرقيقة كلها ساهمت في إضفاء لمسة من الخلود على ظل الإنسان الفاني فوق هذه الأرض.

وأدرك الأقدمون من خلال كتب السير والتراجم التي كتبوها لأشخاص آخرين أن هذه السطور الباقيات هي التي تعطي المعنى لوجود هؤلاء الأشخاص وهي التي تسمح باستخلاص العبرة والعظة في تلك الفترة القصيرة الممتدة من لحظة الميلاد حتى لحظة الموت. وكان الدين هو باعثهم الأول على الاهتمام بحياة الأشخاص, فالقيم الدينية تكون أكثر قابلية للفهم والتطبيق عندما تعرض من خلال حياة الرسل وأولياء الله الصالحين, إن حياتهم هي العبرة والتجسيد لكل التعاليم الدينية وكيفية اتباعها. وتمثل اهتمام كثير من المؤلفين الذين شغلوا بالتأليف في مرحلة ما بعد نزول الرسالات السماوية على الأنبياء والرسل في كتب سجلت سير وتراجم أولئك الرسل والأنبياء وصحابتهم والأقوام الذين آمنوا بهم والذين كفروا وأشركوا برسالاتهم وسجلوا أنواع العقوبات التي حلت بهم.

الجرح والتعديل

وعرف التاريخ الإسلامي واحدة من أشد التجارب تدقيقا وتمحيصا في مجال التراجم للشخصيات. وتم ذلك حين بدأ علماء السنة في جمع الأحاديث النبوية.

لقد اتبعوا في سبيل ذلك مبدأ (الجرح والتعديل) وهو منهج دقيق يضع في دائرة الشك كل من ينقل الأحاديث النبوية ويتم التحقق من سيرته الذاتية أولاً قبل أن يتم قبول أي حديث منه, وبلغ الأمر بهم أنهم إذا تبينوا أن هذا الشخص قد كذب أو سار عاري الرأس لمرة واحدة لا يقبل منه أي حديث. ويقول الدكتور أحمد درويش أستاذ الأدب العربي معلقا على ذلك: (لو أن صرامة الجرح والتعديل طبقت بموضوعية في مجال التراجم السياسية والفكرية عندنا, لتغير كثير من صفحات تاريخنا وتراثنا).

وشهد التراث العربي مرحلة انتقال الترجمة عن الغير إلى الترجمة عن الذات. عندما نضجت هذه الذات العربية واستطاعت أن تجد الشجاعة لوضع صورتها على المحك. ولعل أهم هذه التراجم الذاتية هو سيرة أسامة بن منقذ الذي كان قائدا ومجاهدا ضد الصليبيين عام 1188م. وعاش تجربة أسر الأعداء وتخاذل الأصدقاء والفرج بعد الشدة, وقد وجد أسامة أن هذه الحياة الحافلة جديرة بالتسجيل والاقتداء. وكذلك فعل ابن خلدون في سيرته الذاتية تحت عنوان (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا), وقد وصف فيها رحلته الممتدة خلال الأقطار العربية التي كانت تعيش أيضاً فترة حرجة من حياتها وتتعرض لخطر التتار الداهم, بل شاهد بنفسه سقوط دمشق في أيديهم وعاين ألسنة اللهب التي نشبت في أبنيتها. لقد مزج ابن خلدون سيرته الذاتية بمحطات رحلته, وأكد من خلالها نظريته في التطور الاجتماعي وذلك الصراع الذي لا يهدأ بين البداوة والعمران. ولعل أكثر السير الذاتية إثارة للأسى مذكرات أبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة قبل أن يسلمها لملوك الفرنجة. لقد رسم صورة مفزعة لكل ما أحاط به من دسائس وفتن جعلت عرشه واهياً ودولته غاربة وبكى في النهاية كالأطفال على ملك لم يصنه كالرجال.

وقد مر الأدب العربي الحديث بالأطوار نفسها تقريباً, الترجمة للغير, ثم تحول الأمر على استحياء إلى الترجمة عن النفس. وقد أطلقت كتب عباس محمود العقاد الشرارة الأولى لهذه التراجم عندما أصدر سلسلة العبقريات مستعرضا فيها أهم شخصيات التاريخ العربي والإسلامي. وكذلك فعل طه حسين في (الفتنة الكبرى). ويعتبر النقاد العرب أن أكمل كتب الترجمة عن الغير هو ما قدمه ميخائيل نعيمة في كتابه عن جبران, ولكن كتب السيرة أخذت المنحى الذاتي مع كتاب أحمد فارس الشدياق الذي أطلق عليه (الساق على الساق فيما هو الفارياق), وهو ملاحظات ساخرة لرحالة لبناني في مدينة جديدة لعلها القاهرة. ثم تدفقت السير الذاتية بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فلم يشأ طه حسين, مثلا, أن يختار شكل الاعتراف المباشر ولكنه صاغ تجربته في شكل روائي, ليقدم لنا رائعته (الأيام) التي يعتبرها بعض النقاد أكمل سيرة ذاتية في أدبنا المعاصر. وكذلك سجل توفيق الحكيم تجربة عمله في النيابة في كتاب (يوميات نائب في الأرياف), وقد وصف سارتر هذا العمل بأنه واحد من أفضل التجارب الإنسانية في أعماق الريف.

ومازال نجيب محفوظ رغم هذا العمر المديد والكم الغزير من الإنتاج متردداً في كتابه سيرته الذاتية بصورة مباشرة. فقد فضل أن يحوم حولها في أكثر من عمل أدبي كان آخرها هو (أصداء السيرة الذاتية), وفضل أن يدلي بأحاديث مطولة عن حياته لأكثر من واحد من أهمهم كان الناقد رجاء النقاش الذي أصدر هذه الأحاديث في كتاب مهم, وكذلك فعل القاص المعروف جمال الغيطاني ورغم ذلك يبقى نجيب محفوظ لم يقل كلمته الأخيرة بعد.

أنصاف الحقائق

ولكن.. هل تقول السيرة الذاتية العربية الحقيقة فعلا?
لم يحدث هذا في أغلب الأحيان. ويبدو أن عوامل الكذب في مجتمعنا العربي أشد سطوة من العوامل التي تشـــجع على قول الحقيـــقة. ويكفي أننا حـــتى الآن لا نعرف الحقـــيقة حـــول كثـــير من الحـــوادث العــظام التــي مر بها وطننا العربي رغم انهمار سيل من المذكرات والاعترافات حول كل حادثة منها.

فحتى الآن ورغم مرور أكثر من ستين عاماً لم نعرف الحقائق كما حدثت حول أنظمة الحكم العسكرية والملكية التي تقلبت على مقاليد الحكم في العالم العربي. وكذلك الأمربالنسبة لهزيمة 67 الكبرى, التي تنصل الجميع من مسئوليتها وألقى عبئها على الآخرين, أضف إلى ذلك الحرب اللبنانية المدمّرة التي استمرت قرابة خمسة عشر عاماً, وحرب أكتوبر 73, وحروب الخليج, وحرب تحرير الكويت, وصعود الدكتاتوريات وحروب الانفصال وخلافات الحدود وغيرها. كل ماكتب عن كل هذه القضايا كان أنصاف حقائق ومجرد آراء شخصية غير مؤكدة وغير موثقة زمنياً أو توثيقياً. ولعل السبب في ذلك هو تغييب النصف الآخر من الحقيقة وأعني به غياب الصدق.

ففي العديد من دول العالم توجد فترة زمنية معينة يسمح بعدها للحكومات بأن تكشف كل ما لديها من وثائق. وهو أمر مهم لكل دارسي التاريخ والباحثين والذين يريدون التحقق من صدق الوقائع. وفي ضوء هذه الوثائق يمكن إعادة النظر في كل الرؤى الشخصية والمذكرات والاجتهادات والأهواء أيضاً.

ولكن, هذا الأمر غير معترف به في معظم دولنا العربية حتى الآن. ومازالت الوثائق ترقد في أضابير الدولة مغلفة بمزيد من السرية وتفضل السلطات أن تأكلها الفئران قبل أن يتم الكشف عنها - هذا إذا تفاءلنا واقتنعنا بأن هناك فعلاً وثائق محفوظة - حتى أن كاتباً مثل محمد حسنين هيكل وهو أحد عشاق الوثائق في الكتابة السياسية لم يتسنّ له الحصول إلا على بعض الوثائق التي أخذها بشكل شخصي عندما كان قريباً من قمة السلطة في مصر, أما بعد ذلك فكل ما حصل عليه كان من مصادر أجنبية.

إن غياب الوثيقة يترك المجال لأهواء كل كتّاب المذكرات والسير الذاتية ولكنه يجعل من تاريخنا السياسي والاجتماعي نهباً للأكاذيب والوقائع المزيفة - وهذا ما يطبع جلّ تاريخنا القديم والوسيط والحديث - لدرجة أن المرء يسيطر عليه - أحياناً - اقتناع يقول بأن ثقافتنا العربية الإسلامية لا تؤمن بالتاريخ الذي يصنعه البشر!

ولكن الأهواء الشخصية ليست هي فقط التي تؤثر في مصداقية السيرة الذاتية, فهناك عوامل خاصة ترتبط بالطبيعة البشرية. ولعل ضعف الذاكرة هو أكثر عائق يقف أمام من يحاول أن يروي سيرته الذاتية بأمانة. فذكريات الطفولة تتناثر سريعاً من الذاكرة ولا يبقى منها إلا التماعات متفرقة ومشاعر غامضة. وآلية النسيان تعمل وتؤدي وظيفتها على مدى الحياة.

ويمثل التحريف سبباً آخر في عدم مصداقية السيرة الذاتية. فكل كاتب سيرة يميل إلى انتقاء الحوادث التي تؤثر في المتلقي كما أنه يحاول أن يحول السيرة من مجرد سرد للأحداث إلى عمل إبداعي. لذا, فإن هذا يتطلب محو الكثير من الأحداث الجانبية وتعديلها أحيانا أخرى. كما أن هناك رقابة تمارسها الروح على كل الأشياء التي لا ترتاح إليها. ويرى أندريه موروا أن من المستحيل أن نروي المواقف المخزية بصراحة تامة فنحن إما أن نلقي بها للنسيان أو نجري عليها بعض التحويرات لتصبح أقل خزياً وأكثر جمالاً. ويمثل الحياء من ذكر التجارب الجنسية عاملاً مهماً, ويمثل الخوف من تأثير رواية هذه السيرة على الآخرين عاملاً أكبر وأكثر أهمية.

علينا أن ندرك أن السيرة الذاتية هي شهادة الشخصية التي يرويها على العصر الذي يعيشه. من أجل ذلك, فإن عليه أن يكون شاهد عدل يقدم للأجيال تجربة تقترب من الحقيقة, وتبتعد عن إثارة الخصومة وتصفية الحسابات.