أسطورة الشعب المختار

أسطورة الشعب المختار

السيد رئيس التحرير، أسرة تحرير «العربي».. تحية طيبة.. أما بعد:

في العدد 635 - أكتوبر 2011 عرض الكاتب الكويتي طارق خالد الحجي كتاب المفكر الهنغاري اليهودي آرثر كوستلر «إمبراطورية الخزر وميراثها»، الذي تمحور حول فكرة أن غالبية اليهود الحاليين ليسوا من نسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإنما هم «من أصل أوربي شرقي ومن ثم من أصل خزري».

لقد استوقفني هذا العرض الممتع لهذا الكتاب الطريف الذي فنّد فيه صاحبه - دون قصد - ادّعاءات اليهود والصهاينة ونسف أسس نظريتهم السياسية والقومية العنصرية القائمة على مبدأ «شعب الله المختار»، مثلما سفّه زعمهم بأحقيتهم بأرض فلسطين التي وهبهم إياها إلههم. فقد أثبت أن اليهودية انتشرت في العالم - كغيرها من الأديان - باعتناق الشعوب الأخرى لها، لا بهجرة بني إسرائيل ونسلهم وتشتتهم في شتى أصقاع العالم كما يزعمون والغرب الاستعماري ومؤرخوه.

إن هذه الاستنتاجات والخلاصات التي انتهى إليها صاحب الكتاب لها ما يرفدها في تاريخ اليهود الذين عاشوا في الجزيرة العربية، مثلما تدعمها بنية المجتمع الصهيوني المعاصر. إن اليهود الذين عاشوا في بلاد العرب وحفلت بذكر أخبارهم كتب التاريخ ونعموا بالأمن والأمان فيها - قبل أن تجبرهم التفجيرات الإرهابية الصهيونية على الهجرة من البلدان العربية إلى فلسطين المحتلة منتصف القرن العشرين - لم يكونوا جميعًا من نسل إبراهيم وإسحاق، بل هم في غالبيتهم العظمى عرب تهوّدوا بمجاورتهم يهودًا هاجروا إلى بلادهم، أو بفعل العلاقات التجارية التي كانت قائمة بين بلاد العرب وبين فلسطين وبلاد الشام. وقد أثبت المفسرون والمؤرخون العرب الأوائل الذين استندوا في الكثير من أخبارهم إلى أمثال ابن اسحاق وكعب الأحبار باعتبارهما من أهل الكتاب وصاحبي علم ومعرفة، هذا الأمر وأكّدوه. فقد أورد اليعقوبي - مثلًا - في تاريخه أن من تهوّد من العرب اليمن كله وكثير من بطون القبائل العربية، حيث يقول: «كان أبو كرب تبّع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن فأبطل الأوثان، وتهوّد من باليمن وتهّود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة وبني النضير، وتهوّد قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام». وتفشّت اليهودية في الجزيرة العربية وانتشرت وكثر أتباعها ومعتنقوها. حتى أصبحت قبائل كاملة تدين باليهودية على غرار: بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص. وغير خاف أن هذه الأسماء عربية خالصة لا أثر للملامح العبرية فيها. وهو ما يقدم برهانا إضافيًا على أنها قبائل عربية متهوّدة لا عبرانيّة مهاجرة. كما أن هؤلاء اليهود لم يكونوا مختلفين عن باقي العرب في شيء، إلا ما تفرضه عليهم عقيدتهم الوافدة من طقوس وعبادات وشعائر. كانوا عربا في لغتهم وأشعارهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم.

إن هذه الحقيقة التاريخية التي ذكرها المؤرخون العرب القدامى البعيدون كل البعد عن التماحك الأيديولوجي والصراع السياسي والعسكري، تؤكد صواب ما ذهب إليه المفكر المجري، مثلما تؤكد أن النقاء العرقي لليهود لا وجود له إلا في كتب التاريخ وأوهام روّاد الحركة الصهيونية وأتباعها، الذين اخترعوا أكذوبة أن اليهود الحاليين هم نسل الأسباط الأوائل، وأنهم الأحق بأرض فلسطين التي ادّعوا أنها «ميراث» أبيهم إبراهيم. وهو ادّعاء نشأ على غرار الحركة الصهيونية في أحضان الأوساط الاستعمارية الأوربية التي كانت مشغولة منذ بداية القرن التاسع عشر بهاجسين اثنين: هاجس السيطرة على المنطقة العربية واستغلال خيراتها، وهاجس إبقائها مفتتة بعيدة عن كل عمل توحيدي من شأنه تهديد الغرب ومصالحه. وقد تفتّقت عبقرية العقلية الأوربية الاستعمارية على فكرة إحياء أسطورة ما سمّي بـ«أرض الميعاد» وتجميع اليهود في فلسطين لتكون دولتهم شوكة في خاصرة الأمة العربية وحاجزًا بين عرب البر الإفريقي وعرب آسيا. وتذكر كتب التاريخ أن نابليون بونابرت كان أول من بشّر بهذه الفكرة، فقد دعا اليهود أثناء حصاره لمدينة عكا في أبريل 1799 إلى مؤازرته و«إعادة احتلال وطنهم»، ثم عمل الإنجليز - بعده - على تطبيق هذه الفكرة منذ 1840 عندما دعا بالمر ستون رئيس الوزراء البريطاني آنذاك إلى توطين اليهود في فلسطين، لأن «بعث الأمة اليهودية سيعطي القوة للسياسة البريطانية»، حسب رأيه.

وقد نجح هذا السعي الأوربي إلى إحياء أسطورة «الشعب المختار» وإنشاء هذه الدولة الحاجز، فنشأ كيان هجين غير متجانس عرقيا وثقافيا واجتماعيا، كيان جمّع فيه خليط من الأعراق والأجناس والعادات والثقافات، جمّع فيه الأبيض والأسود والأسمر، اليهودي المعترف بيهوديته واليهودي المطعون فيها والذي أخضع لطقوس التهويد من جديد. ولعلّ الصراع المعلن حينا والمكبوت آخر بين اليهود الشرقيين (السفارديم) المنحدرين من البلدان العربية، وبين اليهود الغربيين (الأشكنازيم) المنحدرين من البلدان الأوربية ومن أمريكا وكندا، خير معبّر عن انعدام الهوية الحضارية الواحدة والموروث الثقافي الجامع قيميًا وأخلاقيًا, كما أن احتفاظ اليهود الغربيين بجنسياتهم الأصلية وتوريثها لأبنائهم، ومسارعتهم للفرار من فلسطين إلى البلدان التي قدموا منها كلّما أحسّوا بالخطر خير دليل على انعدام أي رابط حضاري وروحي ووجداني ببعضهم، وبفلسطين.

إن هذا التنافر العرقي والحضاري بين اليهود الذين عملت الحركة الصهيونية على تجميعهم في فلسطين كان ماثلًا أمام أعين عقلاء اليهود وحكمائهم، وهو ما دفعهم إلى التنبيه إليه وإلى خطورته. فاليهودي «يوسف ريناخ» - مثلا - نقد أسطورة النقاء العرقي اليهودي منذ فترة مبكّرة جدًا بقوله: «من المعلوم أن الأغلبية الساحقة من اليهود الروس والبولونيين والغاليين هم من أحفاد الخزر، وهم قبائل من أصل تتري كانوا يسكنون أواسط روسيا واعتنقوا الديانة اليهودية في عهد شارلمان، لذلك فإن الحديث عن عنصر يهودي يعتبر من قبيل الجهل أو سوء النيّة». (أورده الكاتب والدبلوماسي التونسي حسين التريكي في كتابه «هذه فلسطين» ص264). لكن الصهاينة عملوا جاهدين على طمس هذه الحقائق التاريخية والعلمية، موظفين في ذلك آلتهم الدعائية الضخمة التي تلاعبت بالعقول، وصنعت أساطير وأوهاما جعلتها حقائق ثابتة لا يتجرأ أي كان على مناقشتها أو التشكيك فيها.

سامي الحاجي
القيروان - تونس