مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة
        

أحلام شجرة التوت

اللغة

         - لن تخرج إلى اللعب مع رفاقك، قبل أن تحفظ قصيدة : "لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي" للمتنبي، عن ظهر قلب .. يأتَيني صوت الوالد الشيخ أحمد من أقصى البيت (العلية). رفاقي الصغار يملأون ساحة القرية، وهم يصيحون ويتواثبون في ضوء القمر. ما أروع أن يلعب الأولاد على بيدر القرية. بي رغبة جامحة لأن أكون معهم الآن.

         أنا صبي مثلهم في التاسعة أو العاشرة. ما لي ولقصيدة : لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي.. للمتنبي؟ ليذهب هو وقصائَده إلى الجحيم. أريد أن ألعب، أن أصرخ، أن أركض، أن أسبقهم جميعاً .. محمد وعلي وحسين وصلاح، أبناء عمي .. أنا أسرعهم جميعاً في الجري، وأخفهم في الوثب.

         ولكن أبي الشيخ أحمد النافذ الكلمة، لا يطيب له أن ينام قبل أن يسمع من صغيره قصيدة محفوظة عن ظهر قلب .. مرة للمتنبي، وأخرى لشوقي (أمير الشعراء) - كان يتعمد أن يلفظ اللقب بشيء من التوقير والفخامة - وثالثة لابن الفارض - الوالد يحب أشعار المتصوفة.

         وهكذا يصر على أن يقيدني إلى جانبه في البيت. وأن يأمرني بإبقاء ديوان المتنبي مفتوحا على ركبتي، ثم يعيد إلي أمره الصارم الذي لم يكن يخلو من نبرة حب : لن تخرج إلى اللعب مع هؤلاء "العفاريت" قبل أن تفرغ من حفظ القصيدة جيداً، ثم تغنيها لي غدا حين يجتمع الجيران والأقارب في بيتنا.

وأعيد أبيات القصيدة الصعبة الجميلة المرهقة. أعترف أنها كانت جميلة .. هذه الأبيات المترعة أناقة وقوة، وبيانا عربيا كانت أحسه يتغلغل في أعماقي.

لعينيك ما يلقى الفؤادُ وما لقي

وللحبَ ما قد ذاب مني وما بقي

وما أنا ممن يدخل العشقُ قلبه

ولكن من يُبصر جفونك يعشق

وغضبى من الإدلال، سكَرى مَن الصبا

شفعت إليها من شَبابي بريق

         وأفرغ من حفظها، وأحسن أنه لاَ يزال لدي بعض الوقت للانعتاق من سجني، ويأذن لي الوالد، .. أخلو إلى نفسي تحت شجرة التوت، صديقتي الأولى .. لشد ما أحببتها، كانت تظلل باحة دارنا في القربة، وأمسك بيدي ورقة وقلماً، ثم أحاول أن أقلد المتنبي، وأن أقول شعراً مثله. ولم لا؟ أن تكون شارعاً، يعني أن تكون عاليا متميزاً، للشيخ أحمد نفسه شاعر، ولهذا كانت له مكانة لا تدانيها مكانة في طول الريف وعرضه.

         وفي أقل من ساعة، ونصف الساعة، تكون بين يدي قصيدة من بضعة عشر بيتاً، ما أزال أذكر مطلعها:

ألا يا أزاهير الحديقة أشرقي

لأنهل شيئا من شذاك وأستقي

          كانت أزاهير الحديقة الصغيرة "الحاكورة" التي تحيط بالبيت أقرب شيء إلى خيال الشاعر الصغير، فلا عجب أن يختارها موضوعا لتجربته الأولى، ويستلهمها باكورة شعره. وكان أول من قرأتها عليه رفيقة طفولتي الصغيرة سلمى، التي ما إن سمعتها حتى أسرعت إلى الوالد تخبره، وهي تكاد تطير من الفرح، أن سليمان قد كتب شعراً مثله، وأنه يريد أن يسمعك ما كتب.

         وأسمع الوالد ما كتبت، ويهز رأسه، ثم يصمت قليلا ويقول : أنت منذ الآن شاعر مثلي يا بني، وربما كنت أحسن مني. احفظ كل ما تكتبه في دفتر، ولا تضع منه شيئا. ألم أقل لك إن حفظك لقصائد الشعراء العظام سيعود عليك بنفع عظيم؟

         الوالد الجليل! ترتيلي للقرآن على يديك وأنا في السابعة، وحفظي للمعلقات (جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي التي رافقت طفولتي، مازالت تحتل صدر مكتبتي) ومئات القصائد لشعرائنا الكبار، كل هذا كان حجر الأساس الذي بُني عليه مستقبلي. وما أظنني أضفت إلى هذا الأساس بعد ذلك إلا ما وسعه وأغناه فقط.

         أيها الشيخ الجليل - سقى الله مثواك، ونضر ذكراك - لقد كنت أستاذي الأول، أنت و "كتابك" الرابع، في حارة بساتين العاصي، في شمالي سوريا.

         شكراً لك، وشكراً لصديق طفولتي الأوفى : ديوان المتنبي.

الأرض

أطلق صهليك، هذا الرمل والطلل

هذي جذورك في عينيك تشتعلُ

يا دار عبلة .. إني دمعة طفرت

ورحت في شهقة الصحراء أرتحلُ

         الحافلة الضخمة الأنيقة تنسابُ بنَا عبر طريق رملي ممهد، في بادية نجد، تطوي بنا الرحلة إلى دار عبلة، ومية، ونعم، وأم أوفى. الرحلة في مطلع الربيع، ونحن القافلة الكبيرة من كتاب العرب وشعرائهم، نتجه إلى خيام تنتظرنا في قلب البادية لنحل ضيوفاً عليها.

         العشب الأخضر يفرش الطريق من كلا جانبيه. الآن فقط عرفتُ كيف كانت الإبل ترعى في هذه المراتع الفسيحة، وتتغذى، وتسمن. الرمال من حولي ليست مقفرة ولا جرداء، كما يصورها بعض شعرنا القديم. حولي من النبات الأخضر الكثيف ما يكفي لإطعام مواشي بلدان عدة.

         الحافلة تنسابُ غير مستعجلة، وأنا شارد في الأفق، أعود في لمح البصر إلى قريتي الصغيرة، إلى ضفة العاصي، حيث كنت أحمل معي المعلقات، وأغني أبياتاً ومقاطع من الشعر تتحدث عن هذه الأماكن المحفورة في ذاكرة الطفولة.

         ما أجمل أن ألتقي طرفة، النابغة، زهير، وكل الجميلات اللواتي فجرن قصائد الحب والبطولة في صدورهم، ورقرقتها على شفاههم كلهم يعيشون معي الآن، لا بد أن يكونوا جميعاً قد مروا هنا، وتحركوا هنا، وغنوا أجمل أشعارهم هنا.

         أيها الطفل القديم! هذه هي الأرض، أرضك التي تربط أعوامك السبعين بطفولتك. وأنت في العاشرة. عندما كنت ذات يوم في "جزيرة السندباد"، على شط العرب، في البصرة، وأملت عليك ديواناً كاملاً سميته "أغنية في جزيرة السندباد"؟

         أيها الطفل القديم .. الذي تجدك لحظة! هذه هي الأرض، نسيج واحد من الذكريات، والشعر ، والحب، والتاريخ، نسيج واحد يترقرق إحساساً ناعماً يملأ جوارحك، ويعيدكَ إلى شجرة التوت، والتين، إلى بستان "الذرة" البيضاء التي كنت تختبئ بين سوقها المرتفعة.

         لا بد أن أعود إلى قريتي القديمة الآن، لا بد أن أحشد كل ما أستطيع حشده من ذكريات، وأذرو براءتها على هذا الطريق، وأنا أشعر بأن عمري يورق فعلاً ويخضل.

         لا بد أن توقظ "الخيمة الزرقاء" الأغنية التي وقفت عليها العمر، الأغنية الحلم، وأن يتصل اللحنُ بيني وبين التاريخ.

         وأدخل الخيمة الزرقاء، لألقي بنفسي على أول كرسي أصادفه. وتثب إلى الذاكرة صورة شاعرنا الأعشى، هذا المتشرد القديم، وهو يودع هريرة في مطلع قصيدته المشهورة التي عدها بعضهم من المعلقات. وأواصل أنا أبياتي، وصورة "هريرة" تلح علي:

"ودع هريرة" .. لا، لا، لن أودعها

ضج العناقُ صباح الأمس والقبل

تهدمت جدر الماضي بغمغمة

على الشفاه، وجن المبسم الثملُ

دعني على شرفات الرملِ، إن دمي

- أعني بقايا دمي - بالرمل تغتسل

         منازل كثيرة، ويقع كثيرة، طوفت بها، وزرتها على هذه الأرض، ولكنها جميعاً كنت ترتبط أبداً بالنسيج الأول، بالأرض التي درجت عليها، وزرعت فيها أعوامي الأولى، وأحلامي الأولى.

         إلى جانب أشجار التين والتوت، كان للأسرة عشرون من أشجار الزيتون، أستطيع أن أعدها، وأرسمها في ذاكرتي شجرة شجرة حتى الساعة. أما "التينة" التي كانت تخصني بأولى ثمارها الناضجة فقد كانت لها مكانة خاصة في قلب الشاعرة الصغير تكاد تزاحم "التوتة" شاعرتي المفضلة.

         بعد غربة ست وعشرين سنة التي تتكئ على زند العاصي، وتعرفت أول ما تعرفت، بعد الأعوام الطوال، أخي وأختي، وشجرة التين التي كنت ألعب تحتها، واقطف أولى ثمراتها:

غريبين سلمنا، ولمت جناحها

ووشوش غصن جاره يسأل الغصنا

غريبين .. نهر من سنين يشدنا

إلى الصمت، حتى ينكر الوتر اللحنا

هنا خط طفل الأمس أول دفتر

وسبح في خدي رفيقته الحسنا

هنا كنت ألقي للغيوم قصيدتي

لعاصفة في الغيب ترهقني سجنا

هنا .. وتهاوت نسمة من ذؤابة

تعانقني سراً .. تقول : تعارفنا

         أيتها الأرض، التي نحبها، ونقاتل من أجلها، ونحملها في جوانحنا أنى كنا، وحيث رحلنا! هل أنت طفولة؟ هل أنت ذكريات؟ هل أنت تاريخ؟ هلَ أنت أسرة وأقارب وأصدقاء؟ هل أنت أطلال نقف عليها، ونستعيد في لهفة حرى ذكريات الأحبة الذين رحلوا عنها؟ وما الذي يشدنا إلى قطعة منك، ويحفرها في أعماق وجداننا دون سواها؟

         ربما كنت هذا كله، أو شيئا أبعد وأعمق من هذا كله. أما أنا، فسأظل أحمل في سريرتي أماكن عاشت معي، وعشت معها ذات يوم، وكانت جزءاً لا يتجزأ من ذاكرتي وتجربتي وتناجي.

أنا وهي

         "قالت شهرزاد : بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، والحلم البعيد، أن الفتى "خولان" كان يحمل ربابته، ويذيب قلبه حبات على الوتر يسمونها قصائد، تشتهيها الأعناق الحلوة قلائد، فلما رأى "خولة" الصبية الناعمة السمراء، وكانت أعنف من الشعر، وأعذب من الضياء، وقد قدمت لتوها من مكان بعيد، بفكر متوقد وروح جديد، أحس أن هذه الصبية التي تتفجر حيوية ورقة، هذه الأغنية الشاردة قد خلقت لربابه، وخلق لها، وأنه منذ اللمحة الأولى قد صار وإياها نعمة واحدة.

         كان يحملها، ويطير بها بعيداً في ضوء القمر، يمشيان حول المدينة العريقة الكبيرة (تجـ)، مدينة الصخر والنسمة الجافة الناعشة، يمشيان منذ هبوط المساء، حتى يتعب الليل، يداهما متشابكتان، وعيناهما تبرقان بالحب والسعادة، وخطاهما أشبه بنقرات "البيانو" المتلاحقة الرشيقة، في واحدة من المعزوفات التي تزخر بالشعر والحياة.

         فإذا ما طلع النهار، انغمس هو في عمله المضني الدءوب، وانغمست هي أيضاً في عمل مماثل.

         المتحابان الشابان، كلاهما كان يعمل ..

         والعمل في نظرهما جوهر الحياة وينبوع مسراتها الحقة، ومقياس الجدارة الإنسانية.

         من يصدق، أيها الملك السعيد، ذو الرأي السديد، أن شابين متحابين ينفقان الساعات الطوال، سيرا على الأقدام في ضوء القمر، وهما يتحدثان، ويتناقشان، في كل ما يخطر على البال من شؤون الفكر والفن والسياسة والمجتمع، والحب والحياة؟

         إنهما لا يزالان معا، على طريق الحياة، أحلام تتبدد وتتجدد، وكفاح لا يهدأ، يرتاحان قليلاً، ويتعبان كثيراً. يشقيان ويسعدان، يفرحان ويتألمان، يحققان بعض ما يريدان، ويصدمان في الكثير مما يريدان.

         أن ترسم لنفسك الخط الذي تراه أجدى، وأجمل، وأنقى مع من تحب، فلا بد أن تواصل رؤاك، وتواجه صدماتك في قناعة ورضا، وسيتحول كل شيء إلى قناعة ورضا حين تكون إلى جوارك من تشاطرك طريقك، وهمومك، وخطك الذي اخترته أنت، واختارته هي معك، لأنه - في رأيكما معاً - هو الأجدى، والأجمل ، والأنقى.

         أذكر أني تحدثت عنها غير مرة، وأضأت فيها قصة حياتي غير مرة. وسأقف الآن عند هذه السطور التي كتبتها ذات يوم، عندما اضطررت إلى السفر وحدي، للمشاركة في لقاء أدبي، في بلد أجنبي. قلتُ:

الضجر يأكلني ..
هذه آخر مرة أسافر فيها وحدي،
ولو عدت من سفري بغنائم الدنيا.
إنه قراري في هذه الأمسية.
الهنيهة شهر ..
والساعة دهر ..
بدون من تحب .
يمر الوقت بطيئا، خاملاً، كثيفاً.
كأنه يزحف على صدرك، على أعصابك،
حتى يجمد في عروقك،
ويعوقك عن كل شيء
كنت أشتهي أن أسافر،
وأنا أواصل حياتي المعتادة في البيت.
أشتهي أن أرحل إلى أي مكان ..
أسوة بالجداول والعصافير.
ولكني في هذه المرة، أيقنت أن رحيلي وحدي
لا يعني إلا شيئاً واحدا ..
أن أضجر وحدي، وأمل وحدي،
وأتنفس بصعوبة وحدي،
أربعة أيام مضت، وأنا أذرع غرفتي في فندق مريح،
في هذه المدينة التي استضافتني بكرم،
وعفوية، وحب، دون أن تسألني شيئاً.
أربعة أيام .. بانتظار لقاء شعري، جئت للمشاركة فيه.
لو كانت معي ، لملأت كل هنيهة
من وقتي شعراً وحياة وحباً.
لو كنا معاً، لتغير لون الأشياء
وطعمها ومعناها.
كنا نستطيع أن نخلق من كل
شيء متعة ومسرة
ليس في هذا شيء من كلام الرومانسيين.
إني أغرس حروفي بلحم الواقع ودمه.
لماذا نختار الأصعب والأقسى؟.
لم يبق في العمر متسع لمثل هذه "التجارب" الفارغة.
هذه آخر مرة أسافر فيها وحدي.
سنكون معاً، حتى آخر نقلة تحملنا فيها قدم.
سأكون معك، وتكونين معي.
ليكون للسكون، للحركة، للصمت، للكلام،
للحقيقة، للحلم، للصبح، للمساء،
للزمن للأشياء .. مذاق ومعنى.
لو كنت معي .. أيتها الحبيبة.
لما وجدتني بحاجة إلى كتابة مثل هذه الكلمات.
أتراني قلتُ مالا ينبغي أن يقال؟

الحُلُم

كنا نحلم ..
أنا سوف نهز الشمس
فتسقط في أرض الفقراء
بيادر من قمحِ وغلال
كنا نحلم
ثم قبضنا يوما بعض الضوءِ،
لتنسف فيه أصابعنا،
ولنعرف أن الحلم محالْ
إني أحلم ..
أن أترشف باقي الكوبِ..
صديق فراشات وندى
أن أبقى في ضوء الشمس
وألا يخدعني حلم أبدا

         تعمدت أن أفتتح هذه الفقرة بنبرة منكسرة بعض الشيء، يعيشها الحزن، وربما كان الحزن الذي يجرفنا الآن جميعا هو الذي أملاها. فلأنتقل منها بسرعة إلى ما أريد أن أقول.

         في مقدمة أعمالي الشعرية حرصت على أن أقدم نفسي في فقرات مكثفة جاء في إحداها:

         "الشريط الذي سيعرضه ديواني على القارئ، في هذه المجلدات الأربعة، ليس إلا حلماً رائعاً، يقاتل ليتحقق. كل منجزات التاريخ العظيمة كانت في يوم من الأيام أحلاما عظيمة. من هذه القناعة انطلقت، ومازلت مصراً على قناعتي وأحلامي الصلبة. الحلم هو الصحة، والواقع الذي من حولي هو المرض، والمرض طارئ، مهما طال ومهما استشرى، والصحة هي الهدف".

         ورحت أؤكد هذه المقولة في كل ما أكتب، وما ألقي من أحاديث.

         قالت الصحفية الشابة، وهي تحاورني:

         إلى أي حد يرى سليمان العيسى التطابق بين المشروع السياسي، والمشروع الشعري؟

         منذ أيام .. تلقيت رسالة من دارسة شابة، من مغربنا العربي، تنبئني فيها أنها تُعد دراسة لنيل إحدى الدرجات العليا، بعنوان : الواقع والمثال في شعر سليمان العيسى.

         الواقع والمثال، أليس في هاتين الكلمتين خلاصة لرحلتي في معركة البقاء - كما أحب أن أسميها -؟

         لقد أجبت الدارسة الشابة برسالة مقتضبة، قلت فيها:
         كان اختيار العنون، عنوان الدراسة، موفقا في رأيي إلى أبعد حد.
         فحياتي كلها مازالت رحلة مرة، وسفراً بين الشوك والصخر، والنار والجليد، في هذا الزمن العربي المهشم، الذي هشمنا ألف مرة معه. ولكني مازلت - ولا أدري لماذا؟ - مازلت متشبثاً بحلمي العربي الذي فتحت عيني عليه. هذا الحلم الذي أطفأه الكثير من الإخوة الشعراء، ولم يروا فيه إلا السواد، وإلا الرماد، (متى يعلنون وفاة العرب) لن أعلن وفاتي.

         إن جذوري لاتزال في أعماق أعماق هذه الأرض، ونحن لسنا نهاية الدنيا، أيها الإخوة النائحون. سيأتي بعدنا من يشعل النار في هذا "الهشيم"، ويحرك الحياة في هذا "التابوت". فلنفتح النوافذ، ولنواصل أغنيتنا المضرجة بالألم، والدماء، والدموع للأمل الأجمل والأقوى والأبقى، للطفولة والأطفال.

         باد الغزاة، وهذا "الميت" لم يبد.

         سأمسك القلم قليلاً، وأترك لأمثالك أن يتابعوني في هذا الواقع الذي نتجرع جميعاً مرارته، وهذا المثال الذي لا طعم ولا معنى للحياة تخلو منه.

         أخيراً .. يقولون إن الشاعر على امتداد عمره يكتب قصيدة واحدة.

         وأضيف : إنه في الوقت نفسه يحمل حلماً واحداً يصبغ حياته، ويلون نتاجه، ويعطيه نكهته التي يعرف بها.

         فهل أعطاني حلمي العربي هذه النكهة على امتداد هذا ما أتمناه..

الأطفال

         في مقدمة المجموعة الشعرية التي ترجمها لي إلى الفرنسية الشاعر الفرنسي الصديق "اتاناز فانتشيف دوتراسي"، بعنوان : "رائحة الأرض"، يقول وهو يتحدث عن صديقه :

         "إن الشاعر لن يغفر لي إذا ما أهملت جانباً آخر من نتاجه لا يقل أهمية عن سواه، ألا وهو الشعر الذي كتبه الأطفال. فمنذ سنوات عديدة، نشأت الأجيال الصغيرة في العالم العربي كله، وأشعار سليمان العيسى على شفاهها، وفي قلوبها. ولن أنسى أبداً أحد أصدقائي التونسيين الذي سمعته ينشد، في حالات حزنه وضيقه أشعاراً هدهدت طفولته. إنها قصائد لسليمان العيسى.

         إن الأطفال هم الذين يبعثون فينا أجمل الآمال، وهم الروح الحية، والعلاج الناجع لمشاعر الخيبة واليأس.

         لا يغني الطفولة إلا روح صافية.

         لأن من سجايا الصفاء - كما يقول أحد القديسين - أن يتجه إلى ما هو صاف، ومشابه له".

         حين أفرغ من هذه الكلمات تكون تجربتي في الكتابة للأطفال قد أتمت عامها الحادي والثلاثين.

         اتجهت إلى الطفولة، وجعلتها همي الأول منذ عام النكسة، التي درجنا على تسميتها : نكسة حزيران (يونيو) 1967.

         ومنذ ذلك الحين، واصلت حياتي الشعرية مع الصغار، عشتُ معهم، وعنيتُ معهم، ورافقتهم في مدارسهم، وفي حفلاتهم، ودعوت أصدقائي الملحنين في سوريا، وفي غيرها من أقطار الوطن العربي الكبير لكي يقوموا بتلحين الأناشيد، والمسرحيات الشعرية، التي كتبتها لهم. وطرحتُ شعاري المعروف منذ البداية، الشعار الذي مازلت مقتنعا به، والذي يقول:

دعوا الطفل يغني..
بل غنوا معه .. أيها الكبار!

         وما أكثر ما سئلت : لماذا شعر الأطفال؟ هل هو هروب من الكبار؟ والحق أنه ليس هروباً ولا عزوفاً، وإنما هي تجربتي القومية، تجربتي الفنية، تجربتي الإنسانية نفسها، أحاول أن انقلها إلى الصغار بلغة غير اللغة التي تخاطب الكبار.

         الطفل هو الحلم، هو المستقبل، هو امتدادي وامتدادك على هذه الأرض، فلم لا نتجه إليه؟ وأطفال اليوم هم الرجال النساء، الذين سيملئون الساحة غداً أو بعد غد.

         أليس كذلك؟

         وأدبنا العربي، على غناه وخصبه - أمد الله عمره - يكاد يكون محروماً من أصفى ينابيعه وأحلاها، من شعر الأطفال.

         كم أتمنى لو كان بين مئات قصائد المديح والرثاء والهجاء، التي تزخر بها دواوين شعرائنا الفطاحل بضعة عشر نشيداً فقط للطفولة.

         وما أظن هذا النقض شيئا خاصا بأدبنا العربي وحده.

         يخيل إلى أن آداب الأمم الأخرى القديمة لم تكن أفضل حالاً منا. لقد بدأنا نحس هذا النقص، ونتجه لملء هذا الفراغ، منذ أمد غير بعيد. وإني لسعيد بأن نبدأ الطريق الذي سبقنا إليه العالم، وقطع فيه مراحل وأشواطاً مدهشة.

         إني لأدهش حقاً حين اطلع - واحرص أبداً أن اطلع - على ما يقدم للأطفال في العالم من شعر، وقصة، ومسرح، وأعمال فنية تفوق الخيال، خيالنا نحن. ولقد وضعنا نصب أعيننا منذ أعوام عدة، - أنا وزوجتي الدكتورة ملكة أبيض - أن نعرب كل ما نستطيع تعريبه من هذا الأدب العالمي الرائع، أدب الأطفال، عن طريق اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وقطعنا في ذلك شوطاً يمكن أن نطمئن إليه، ونشعر أننا قدمنا لبراعمنا بعض ما لهم عليها.

         سأواصل رحلتي مع الصغار، ما دمت قادراً على أن أغني لهم، وأكتب لهم.

         لقد تعودنا دوماً الحنين إلى الماضي ..

         أما أنا فقد آثرت الحنين إلى المستقبل منذ أمد بعيد.

         ولن أختم هذه السطور قبل أن أهدي إلى أصدقائي الصغار نشيداً صغيراً من ديواني الأخير "أغاني الحكايات" الذي يصدر قريباً. بعنوان : في الأغاني.

         يقول النشيد على لسان قطيع من المعز، يرعى في أعالي الجبل،

         ويلقي نظرة من حين لآخر، إلى الوادي البعيد:

يا نسمة الجبال ، يا نقية!
يا نسمة الجبال!
إنا عشقنا الشمس والحرية
في هذه التلالْ
**
من صخرة لصخرة ندور
ويضحك الغمامْ
يرشنا بالأخضر المسحورْ
فعيشنا أحلامْ
**
يا أيها الجيرانُ في السهولْ
تسلقوا القممْ
عيشوا مع النسورِ والوعولْ
المجدُ للقممْ

 

سليمان العيسي