الإسلام السياسي في الميزان

 الإسلام السياسي في الميزان

في الوقت الذي ينشغل فيه الغرب بقراءة المشهد السياسي العربي الجديد والمفاجئ نسبيًا للتوقعات الجيوسياسية (العوامل الذاتية في التشكيلات السياسية) وبصورة خاصة القراءات التي تختص بالظاهرة الإسلامية التي طغت في المشهد السياسي العربي، ينشغل المجتمع العربي بدوره بإيجاد رؤية جديدة لمجموعة الإشكالات التي ولدتها سياسات الفردانية أو الانحصارية الثقافية التي ولدت مع تأسيس الدولة القومية وانعكاساتها على مجمل الصورة السياسية في الوطن العربي، ومحاولة جراهام فوللر في كتابه «مستقبل الإسلام السياسي» تندرج في هذا السياق. وقد كان الدكتور بدر الدين مصطفى موفقًا في عرضه للكتاب في (العدد 638- يناير 2012): إن تسييس الإسلام، أو ما تعارف على تسميته بالإسلام السياسي، كان نتاجًا طبيعيًا لمجموعة الإشكاليات المرتبطة بانحلال الوحدة الجوهرية بين التاريخ السياسي والثقافي العربي، ومن ثم كانت الثيوقراطية الجماهيرية هي البديل الجاهز، بل سرى هذا التصور حتى على مستوى النخب، ونتائج الانتخابات التونسية والمصرية - التي كانت مفاجئة حقًا - تشير إلى هذا المعنى في العقيدة الثقافية المتراكمة في تاريخنا العربي - الإسلامي الخاص والتي تمثل تاريخ الانقطاع الطويل الذي فرضته سنوات الاستبداد السياسي.

ينشغل الغرب بالإسلام السياسي ومستقبله القريب والمتوسط، ومازالت هناك مجموعة من الإشكاليات تعتبر من أهم عوائق تكوين رؤية واضحة لدى الإسلاميين أنفسهم إزاء القضايا المصيرية المختلفة، فقد عرف التاريخ السياسي الإسلامي ظهور موجات ثقافية أسهمت في بناء إمبراطوريات أو دول وانحلال أخرى، ومن ثم اتخاذ الإسلام السياسي موقفه منها سلبًا أو إيجابًا، المختلف من قطر إلى آخر في البلدان الإسلامية، وهو أمر يثير مجموعة من الإشكاليات بين قوى الإسلام السياسي المنفعل أصلاً بالمذهبية والطرائقية. وقد كان ظهور القومية العربية أوائل القرن الماضي - ومن ثم تمثيلها للثقل الأيديولوجي لدى النخب العربية والإسلامية - هروبًا مؤقتًا للنخبة السياسية من الواقع المأزوم بجدليات الخلافة والإمامة، وهو ما أوجد انعكاسه في الإبداع الفني والأدبي وفي الفكر الفلسفي العربي وتجلى هذا التأثر في الفكر التاريخي والسياسي والثقافي وكذلك في ماهية الهوية الإسلامية وانتمائها الثقافي وروحها القومية والثقافية، وهذه كلها إشكاليات مازالت مطروحة للحوار والتعاطي بين مذاهب الإسلام السياسي المعاصر.

وكذلك الموقف من الانقطاع الثقافي والسياسي التاريخي للإسلام السياسي, فالمقدمات الاجتماعية والاقتصادية والتركيبة الإثنية والقومية في مرحلة انهيار الدولة الإسلامية وتفتيت الدولة إلى مجموعة من الدويلات المتناحرة ألقت بظلالها الأيديولوجية على الذهنية السياسية في الإسلام السياسي وأدت إلى نتائج متباينة عكست جميعها تداخل إشكاليات معاصرة مرتبطة بمسألة تكوين الدول المستقلة، بأخرى تاريخية ترتبط بتفكيك الدولة الإسلامية, أي أن الإسلام السياسي المعاصر يعاني من «عقدة» التلاشي الكامل للوحدة الإسلامية القديمة وظهورها الدولي الجديد اليوم باعتبارها إمكانية لم تتبلور بعد بصورة نهائية، وهذه إشكالية أخرى لم يتم النظر إليها بصورة جدية تؤصل لفهم مشترك بين تيارات الإسلام السياسي، إشكالية أخرى تتمثل في نخب الإسلام السياسي ذاتها وإمكانية أقلمتها مع الأيديولوجية الدولية، وهذا الإشكال متولد أساسًا من النقص في تكامل المجتمع والدولة والقيادة السياسية وهو نتاج طبيعي لضعف البنية الاجتماعية, بالرغم من معالم التحديث قبل أن يكون نقصًا في أفراد الإسلام السياسي، والذي وجد انعكاسه في ضعف تكامل التكوين الثقافي لممثليه، فإذا كان الحائل فيما مضى الأيديولوجيا القومية أو الاشتراكية, فإشكاليات الحداثة والعولمة اليوم تعتبر العقبة المعاصرة التي لابد للإسلام السياسي من التأقلم مع ألف بائها.

إشكالية أخرى تتمثل في مفهوم الإسلام السياسي للدولة والاستقرار أو الأمن الإقليمي: هذه الإشكاليات لم تتفق عليها مذاهب الإسلام السياسي إلى اليوم ولعل ضعف اكتمال مفهوم الأمة أو الدولة أو الاجتماع السياسي في الذهنية أو العقل السياسي العربي كان الحائل دون وصول النخب السياسية إلى مستوى النضج المطلوب لهذه القضايا الملحة، وهو تناقض ديناميكي يفسح في الوقت نفسه المجال أمام إمكانات الاجتهاد والبحث في البدائل الواقعية، لذا كان الاستقرار (الأمن) في مقدمة المطالب المنظورة في الدول التي تصدر فيها الإسلام السياسي نتائج الانتخابات، ومن ثم كان الوسط والاعتدال يعني جماهيريًا رفض التطرف، ولا يعني رفض التطرف إلا ضرورة النظام ولا تعني ضرورة النظام سوى الانضباط والوحدة - لا المذهبية - ومن ثم فإن المتخيل الاجتماعي يطالب بوحدة دستورية تلتئم فيها مطالب الدولة المدنية بجميع عناصرها المحتملة والواقعية، فهل الإسلام السياسي قادر على التعاطي مع هذه المطالب المشروعة والمحتملة؟ إن البدائل الإسلامية لم تتجسد بعد في أيديولوجيات سياسية متكاملة، لأنها لم تتحول بعد إلى جزء عضوي في الوعي الاجتماعي والسياسي, والمطلب الملح اليوم هو أن تتعاطى فعاليات الإسلام السياسي مع الواقع الاجتماعي قبل تعاطيها مع صناديق الاقتراع.

حسن جويد الكندي
العراق