المقاومة والبطولة في الشعر العربي

المقاومة والبطولة في الشعر العربي
        

المؤلف: الدكتور محمد حسن فتح الباب
تاريخ أمتنا ماثل في جهادها. فكيف عبر الشعر عن ذلك؟

         إن أهم دلائل التكامل في الشخصية يكشف عن نفسه حين يتحول إلى عمل منجز، تحقق بالتعامل مع جهات مختلفة، واستطاعت هذه الشخصية (المتكاملة) أن تنسّق، وتوحد، فتنتج عملاً له خصوصيته، وضرورته. هذا المعنى هو ما استخلصته حين انتهيت من قراءة عمل مفيد وممتع، بعنوان: (المقاومة والبطولة في الشعر العربي)، فالكتاب قادم من الرياض (ويحمل هذا الاسم)، والمؤلف شاعر مصري معروف هو الدكتور حسن فتح الباب، والموضوع تراثي يبدأ مع بداية التاريخ العربي (الجاهلي)، ويتدفق حتى يفجّر أوضاعنا الراهنة، أما الدافع المباشر لتأليف هذا الكتاب، وهو ما كشف عنه الباحث في مقدمته، ودل عليه توزيع المحتوى بين فصلين كبيرين، جاء أولهما في خمسة مباحث، وجاء الآخر في ضعفها، هذا الدافع المباشر يتركز في حرب البوسنة والهرسك، تلك البقية الباقية من أرض الإسلام في القارة الأوربية، ولكن إذا كان كفاح البوسنة والهرسك هو القصد، وأن إبداع الشعراء العرب في إطار هذا الموضوع هو مادة البحث وموضوع التحليل، فلابد أن يبدو (عنترة) الجاهلي، أو (مالك بن الريب) الإسلامي، أو (أبوفراس الحمداني) العباسي، غير مطلوبين لاستيفاء الرؤية، وهذا صحيح ببعض الاعتبارات، وبخاصة أنه أخذ من حجم الكتاب نصفه تقريباً (الكتاب من 336  صفحة، اختصت البوسنة والهرسك منها بالفصل الثاني بعنوان: شعر المقاومة في مأساة البوسنة والهرسك وملحمتها، من ص 145 حتى ص 336)، ولكننا لا نرى أن هذا الفصل الأول (145 صفحة) يمثل زيادة أو استطراداً، فقد أخذ موقعاً مؤثراً، وأدى ثلاث وظائف لا يمكن الاستغناء عنها: الأولى أنه بهذا الامتداد التاريخي يؤكد لنا أن تاريخ الأمة (الحقيقي) ماثل في جهادها، وقدرتها على التحدي والتصدي، وأن هذا مطلوب على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأمة، بأداة الشعر، كما بأداة السيف وبأداة الفكر كذلك، والثانية أن حدود المقاومة ومعاني البطولة ليست جامدة، ليست قالباً واحداً، وطريقة واحدة، إنها ردّ فعل إيجابي يواجه فعلاً ظالماً متجنياً، يتهدد قيم الحياة، كما يتهدد الجماعة بمسخ هويتها، أو إفنائها، وبهذا التأسيس التاريخي استقرت الوظيفة الثالثة، وهي أن مقاومة الأمة وبطولتها كانت دائماً تركز على مبادئ الدين، تستوطنها وتحرّكها روح الجهاد وعقيدة الإيمان، وهذا التمسك بمبدأ الجهاد، والحرص على القيم الدينية كان الع امل الأول في مد المقاومة والبطولة بطاقة التحمّل والاستمرار، وتجاوز المحنة الطارئة، والإصرار حتى يتحقق النصر.

         وسنلاحظ أن (أفراد) القسم الأول من الكتاب، القسم التاريخي، في أغلبهم، وقبل أن يصبح الشعر حرفة، هم شعراء فرسان، تناولهم للبطولة يصدر عن خبرة ذاتية، ممارسة، أما المواقف فهم صنّاعها، ولهذا تتسع عندهم معاني المقاومة وتتنوّع. بهذا اختلف عنترة، عن مالك بن الريب، عن شعراء الجهاد في عصر النبوّة والراشدين، عن قطري بن الفجاءة وأشباهه من الخوارج، فإذا بلغنا العصر الحديث، لم نجد بين أيدينا غير محمود سامي البارودي، رب السيف والقلم، أما شوقي وحافظ، وشعراء الموضوع الأساسي (البوسنة والهرسك) فيضافون إلى أبي تمام وأمثاله من محترفي الشعر، وليس هذا طعناً في المهارة والصدق الفني، ولكنه كشف عن العلاقة بالموضوع، ونوع الدافع إلى المشاركة، وهذا الامتداد التاريخي يوجّه الاهتمام إلى (القيمة) النفسية، وهي البطولة وتحقيق الذات، أكثر مما يهتم بالأهداف الاجتماعية، فعنترة كان يبحث عن خلاصه الخاص، أما أبو فراس، فكان يتصدى لأعداء دينه وأمته، فالفرق شاسع في التطلع، ولكن المنبع واحد، وهو الرغبة في تحقيق الذات، وممارسة الفعل، وهذا ما يجمع بين شاعر مثل حسان بن ثابت - شاعر الرسول - وهو يستنهض الهمم للتجمع حول الرمز (الرسول صلى الله عليه وسلم)، وشاعر مثل قطري بن الفجاءة (الخارجي) يعمل على هدم الرمز (الخلافة والخليفة)، فالمعنى المشترك بين القطبين المتباعدين: الإعلان عن حقيقة جديدة، يرى فيها الخلاص، ويقرأ فيها المستقبل.

بعيداً عن قيود المنهج

         لابد أن تكون لنا وقفة عند الجهد النقدي التحليلي الماثل في تعقيبات على هذه القصائد الكثيرة التي سجلها الشاعر حسن فتح الباب، ونذكر صفته لأننا نتوقع أن تكون اكتشافات الشاعر الناقد مختلفة عن قيود المنهج التي يلتزمها، أو تقف عندها خبرة الناقد الدارس، وقديماً قال المتنبي إن الناقد بزاز (تاجر أقمشة) والشاعر حائك (ترزي أو خيّاط): خبرة الأول إجمالية، وخبرة الآخر إجمال وتفصيل، وقدرة على الغوص أيضاً، وقد وجد هذا القول من يردّ عليه ويرفضه، وليس هذا موضوعنا على أيّ حال، ولكننا سنضع في الاعتبار أن صاحب هذا البحث، شاعر، قبل أن يكون باحثاً أو ناقداً، وقد قدّم خبرته ومقدرته التحليلية، معتمداً على محفوظه (وسنقدم الدليل على هذا) بالنسبة للتراث، فكانت له إضافات جيدة، وإن لم يقدم دراسة شاملة لنص كامل، هكذا فعل مع قصيدة حسان بن ثابت، وأخرى لمالك بن الريب، وثالثة لأبي الحسن الأنباري، ورابعة لأبي تمام قالها في رثاء محمد بن حميد الطوسي.

         أما الفصل الثاني بمباحثه العشرة، الذي خصص للشعراء العرب الذين وجّهوا إبداعهم لمناصرة البوسنة والهرسك في محنتها، فقد اختص كل مبحث بشاعر، سواء كان ما جادت به موهبته قصيدة واحدة، أو أكثر، وهذا يعني أننا أمام عشرة شعراء صنعوا مادة هذا القسم وهم: الدكتور حسن الأمراني، وعبدالله شرف، والدكتور أنس داود، وإبراهيم عيسى، وأحمد سويلم، وخالد الحليبي، وشهاب غانم، ومحمد عبدالقادر الفقي، ويوسف القرضاوي، وبعد هؤلاء التسعة يعقد فصلاً أخيراً بعنوان: منظومات من وحي مأساة البوسنة وملحمتها، والوصف بالنظم دون الوصف بالشعر، وهذا يعطي مؤشراً إلى أن الباحث لم يتمسك بالمستوى الفني للقصائد في هذا القسم الأساسي من دراسته، بقدر ما كان حريصاً على تجميع النصوص التي تتصل بالموضوع.

الحدث الدامي

         لقد كشف الشاعر عن زاوية الرؤية التي يتناول منها الحدث الدامي، فهي - في رؤيته - حرب دينية، لأن أهل البوسنة والهرسك من الناحية العرقية لا يختلفون عن غيرهم من أهل منطقة (البلقان) إن الفرق الوحيد أنهم مسلمون، لهذا يُطاردُون، ويُقتلون بلا رحمة، تحت شعار التطهير العرقي!! إن الشاعر حسن الأمراني يكشف عن وعي تاريخي وفني في تناوله لموضوعه، واختيار العنوان هو نوع من التناص مع عمل روائي مشهور، عنوانه (جسر على نهر درينا) كتبه إيفواندريتش سنة 1945، وهو كاتب بوسنوي، وكانت البوسنةأحد أقاليم يوغسلافيا، أما نهر درينا، فهو الفاصل بين البوسنة والصرب، وهذا الجسر أقامه الأتراك العثمانيون في القرن السادس عشر، ودافع عنه أبطال التحرير ضد النازية في الحرب الثانية، ولكنه الآن معبر لعدوان الصرب على ما بقي من أرض الإسلام في البلقان!! لقد جاءت هذه الملحمة الشعرية في عدد من القصائد هي، بعد المقدمة التي تتناص مع الرواية - البيان - الصلب - أشباح غرناطة - الاغتصاب - وشهد شاهد من أهلها - الرؤيا - الخرافة والحقيقة - بديع يتلو أشعاره - وا إسلاماه- ويل للخلي من الشجى - أطفال سراييفو يتحدون الحصار، وهذه القصائد متصلة منفصلة، بحيث تتناول حدثاً واحداً في مشاهد كاشفة عن أوجه المحنة، إن المعتدي الصربي يصف مسلمي البوسنة بأنهم أتراك، ليوحي بأنهم دخلاء على المكان.

         إن عناوين القصائد وحدها تعطي أفقاً للتوقع يصلح لاكتشاف التشظي، والتجمّع، في مواقف محدودة، فحين يكتب الأمراني في إحدى قصائده:

يغفو الولاة على سرير الطيبات

كل يجالس عجله الذهبي

يسأله صكـوك المغفرة

حينا، ويغفو كالصنم

ما بينهم يوم الكريهة خالد أو معتصم

         فإنه (يهجو) حالة التواكل والتـهرّب العـربي والإسلامي من مواجـهة حقـيقية تدافـع عن الانتماء المشترك مـع مجاهدي البوسنة والهرسك، وهذا ما يدل عليه عنوان قصيدة عبدالله شرف (وعلى سراييفو السلام)، وما يؤكده بغضب عنوان قصيدة أنس داود (من سمانا بشرا) وما يرمز له عنوان قصـيدة رشاد يوسف، (مذبحة المآذن).. وهكذا.. وقد اقترن هذا الغضب بالأمل - لدى شعراء آخرين أن تنهض الأمة للمساندة والكفاح، وأن ترعى الأمل في أطفال الجيل الآتي من أبناء المجاهدين.

         الجوانب الإيجابية في هذه الدراسة تبدأ من أن صاحبها شاعر يحسن اختيار النموذج، ويضع يده على سر الجمال فيه، وهنا نشير إلى الصفحات: 43، 64، 76، 85، 170، 173، 176، 180، 235، لنعاين كيف حلل مقاطع من قصائد حسان، ومالك ،وأبي تمام، والأمراني، وداود، وغيرهم، وكيف وجهت خبرة الباحث مقارناته، وإشاراته إلى التناص، والتأثر المباشر، والقدرة على التأويل كذلك، وفي هذا الجانب قدم مقترحاً طريفاً حيث قرأ كتاب (نهج البلاغة) (ص 61)، المنسوب إلى علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، كنص مقاوم، وأغرى باستكمال المحاولة التي بدأها، أما الجانب الذي كان يستحق قدراً من التثبت، فإن سببه الأساسي هو اعتماد الشاعر الدكتور حسن فتح الباب على الذاكرة - والذاكرة تخون أحياناً - وهذا واضح في إهماله لتوثيق النصوص وعدم ذكر مصادرها، وقد ترتب على هذا بعض الأخطاء، وقد ذكر في نهاية الكتاب ثبتا بالمراجع، أو بأهمها، ولكن تنوّع المادة كان يحتاج إلى أضعافها، وقد أشار (ص 65) إلى خزانة الأدب دون أن يضع هذه الموسوعة في مراجعه، ومن هذه الأخطاء التي فاتت المؤلف، أن يتوقف عند قصيدة أبي الحسن الأنباري، فيخطى في مناسبتها، وفي عصرها تبعاً لذلك، وهي القصيدة التي مطلعها:

علوّ في الحياة وفي الممات

لحق أنت إحدى المعجزات

         فقد ذكر الباحث أنها قيلت في ثائر من أحفاد الحسين أبي الشهداء، كان قد خرج على السلطة الأموية، فقتله رجالها وصلبوه (ص 73) وهذا مما لا أساس له، فهذه القصيدة المشهورة قالها ابن الأنباري (كما ذكر الدكتور فتح الباب) - وهو - كما يقول الزركلي - ومعروف قبله لكل من درس العصر العباسي - من شعراء القرن الرابع (توفي بعد 390 هـ) فأين هذا من العصر الأموي، وقالها الشاعر الكاتب في رثاء الوزير ابن بُقيّة، أما الإعجاب المنصوص عليه فكان من (عضد الدولة) البويهي، إعجابا بالوفاء وليس بالشعر، وقد تأخر الإعجاب بالشعر ليبديه الصفدي وابن خلكان.. إلخ، إذ قال أولهما: لم يسمع في مصلوب أحسن منها!! وفي مكان آخر يشير البيت المشهور:

أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

         فينسبه إلى النابغة (ص 155) وهو لجاهلي آخر أقرب منه إلى عصر الإسلام، الشاعر دريد بن الصمة، وقصيدته مشهورة في رثاء أخيه عبدالله، وفيها البيت الذي ينافس السابق في شهرته وسيرورته:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد

         وكذلك يشير إلى مسرحية (وا إسلاماه) للكاتب الإسلامي الكبير علي أحمد باكثير، (ص 188)، والكتاب المذكور رواية، وليس مسرحية، والفرق كبير.

         غير أن البحث المترامي، الممتع، الذي يعتمد على ذوق مثقف، وخبرة واسعة، بالشعر الجميل في كل العصور، والاهتمام بخلق الفرسان، وتجلي العقيدة في الفن، ويختار من أحداث عصرنا هذا أهم قضية تختبر الولاء والوفاء، وهي قضية البوسنة (وقد ظهرت كوسوفو على أعقابها) يحقق للقارئ معرفة ومتعة، ويحرّك من وجدانه وفكره، ما يستحق الباحث عليه التقدير والعرفان.

 

نسيمة الغيث