العمل بسرعة الفكر

العمل بسرعة الفكر
        

المؤلف: بيل جيتس
أصبح العاملون في حقل المعلوماتية ينافسون المثقفين في مجال الكتابة والتأليف.

          لا جديد في القول إن العاملين في حقل المعلوماتية يتصدرون اليوم واجهة العمل الحضاري، بقدر ما يقودون عملية التحوّل التاريخي التي تجري تحت اسم العولمة أو مجتمع الإعلام، ولكن الجديد أو المفاجئ هو أن هؤلاء الفاعلين الجدد الذين يثيرون حفيظة المثقف التقليدي، ويتعرّضون لحملاته النقدية، إنما ينافسونه على أرضه بالذات، أي في مجال الكتابة والتأليف.

          والمثال البارز على ذلك يقدّمه لنا بيل جيتس، صاحب شركة مايكروسوفت وأحد نجوم العالم المُعَوْلم، فهذا الرجل لا يكتفي بكونه فاعلاً في صناعة المشهد العالمي، عبر ابتكاراته في طرقات الإعلام وبرامج المعلومات، بل هو يكتب ويؤلف لكي يشرح طبيعة العمل الذي يقوم به، ويسلّط الأضواء على ما لثورة الاتصالات من الأثر الهائل والمتسارع على حياة الإنسان ومستقبله.

          ومن المعلوم أن أوّل كتاب ألفه جيتس، هو "طريق المستقبل"، وقد صدر في سلسلة "عالم المعرفة" بعنوان المعلوماتية بعد الإنترنت، أما الكتاب الجديد الذي صدر حديثاً، فعنوانه هو: العمل بسرعة الفكر أو رؤية للألفية الثالثة".

          وإذا كان جيتس قد تحدّث في الكتاب الأول عن الآفاق المستقبلية التي تفتحها أمام البشر طرقات الإعلام السريعة، فإنه في الكتاب الجديد يتحدث بشكل خاص عن الطريقة التي تُدار بها الأعمال في عصر الحاسوب والشبكات، حيث أصبح ممكناً بفعل ثورة المعلومات والأعداد، تحويل أي معط، أكان صورة أو وصوتاً أو نصّاً أو رسالة، إلى لغة رقمية تتيح نقله بسرعة الضوء من مكان إلى آخر، من هنا تتردّد في الكتاب عبارات مثل العصر العددي والاقتصاد العددي والتبادل العددي.

لا قوة بلا معرفة

          المفتاح الرئيسي للكتاب يتخلص بالمقولة الآتية: لا قوة بلا معرفة. قد يُقال لا جديد في هذه المقولة، إذ الإنسان يتصف بالذكاء والمعرفة، وهذا ما يمّيزه عن بعض الحيوانات التي تملك حواس أكثر ثقافة وحدة من حواسه، أو التي هي أضخم منه وأقوى أو أسرع، وهكذا فالإنسان هو ابن المعرفة، وقد فُسّر هبوطه من جنة الفردوس إلى جحيم الأرض لكونه أكل من شجرة المعرفة، إلا أن بيل جيتس لا يعتبر المعرفة مصدر شقاء على ما يذهب إلى ذلك بعض أهل المعرفة، بل يفتخر لكونه يعيش في عصر يتيح للمرء قواه العقلية أكثر بكثير مما كان يجري في العصور السابقة، حيث كانت الغلبة للقوى العضلية أو البدنية، من هنا فهو يُعرب عن سعادته لأن ابنته سوف تكُبر وتعيش في العصر العددي الذي ننتقل به من المجتمع الصناعي ذي البنية الميكانيكية إلى المجتمع الإعلامي ذي البنية الإلكترونية، وذلك حيث تتضاعف قدرات الإنسان الفكرية مع التقنيات الرقمية والسرعة الضوئية.

          في ضوء هذا التحوّل، تتغير المعرفة عمّا كانت عليه من قبل، على غير صعيد، الأول يتعلق بالأدوات والوسائل، ذلك أن المعرفة باتت تعتمد الآن على تداول المعلومات الرقمية، عبر شبكات وأنظمة وبرامج تتيح جمعها وتخزينها أو فرزها ونقلها، أو استثمارها والتصرّف بها بسرعة البرق، بل بالسرعة التي يفكر فيها المرء عندما تداهمه مشكلة طارئة.

          من هنا اختار جيتس لكتابه هذا العنوان: العمل بسرعة الفكر.

          وسرعة الفكر تعني هنا أن العمل في الشركات يقوم على تداول المعلومات بالسرعة نفسها، أو الكيفية التي يجري فيها تداول الأفكار في الأذهان. من هنا لا مجال بعد الآن لإدارة عمل، في شركة أو في مصنع أو حتى في مزرعة، من دون الاعتماد على تقنيات الاتصال الرقمية، الفائقة في الدقة والسرعة، مما يحقق بجهد أقل ووقت أقل بكثير نتائج أكبر بكثير مما كانت تحققه التقنيات التقليدية.

          هذا التغير في وسائل المعرفة يعني على صعيد آخر تغّيرا في خارطة العلاقة بين مصادر القوة الثلاثية: الثروة والسلطة والمعرفة، فمع التبادل الرقمي والعصر الإعلامي تصبح المعرفة المصدر الأول لإنتاج الثروة والمعرفة والسلطة.

          في الماضي، كانت القوة البدنية كافية لصنع الفاعلية والقوة والازدهار، ولهذا كان الأقل معرفة أو تمدّناً يستطيع التغلب على الأكثر علماً وتحضّراً، كما تشهد الأمثلة التاريخية: اكتساح المغول للعالم الإسلامي، سقوط الإمبراطورية الرومانية على يد البرابرة. مع ولادة العالم الصناعي الحديث تغير الأمر، إذ أصبحت الصناعة تحتاج إلى علم ومعرفة، ومع ذلك، فقد بقيت السيطرة في المجتمع الصناعي للعمل اليدوي، لدى الغالبية العظمى من العمال.

          أما اليوم، فإن تشغيل المنظومات الرقمية الذكية، يعني أن إدارة المعلومة قد بات نظام الأنظمة، سواء في الإنتاج المادي والتقني أو في الإنتاج الفكري والثقافي.

الجهد المعرفي

          من هنا يطال التغيير من جهة ثالثة العمال أنفسهم من حيث علاقتهم بالنشاط الفكري والجهد المعرفي، ثمة فاعل مجتمعي جديد يظهر على المسرح: إنهم عمال المعرفة أو "عمال الإعلام" كما يسمّيهم بيل جيتس، ومعنى ذلك أن لا عامل بعد الآن من غير معرفة، مادام العمل - في أي قطاع كان - أصبح يعتمد على تشغيل الأدمغة الإلكترونية والأنظمة الرقمية، سبراً للمعلومات أو تحليلاً للمعطيات، وبصورة تتيح اتخاذ المبادرات الملائمة أو ابتكار الحلول الناجعة للمشكلات المفاجئة.

          ففي العصر الصناعي، كان الاعتماد على العمل اليدوي، ولذا كان على العمال تلقي الأوامر والتوجيهات من الكوادر الإدارية أو المركزية، أما علاقتهم بالمعرفة فكانت هامشية أو كسلى أو معدومة، في عصر المعلومة لا ينجح في العمل إلا من يتحمل المسئولية، ويمتلك الخبرة والمهارة، أي الذي يعمل بصورة خلاّقة تتيح له إدارة المعلومات واستغلالها وربما تنميتها وتطويرها.

          وهكذا يتشكّل الآن عالم جديد من العمل والإنتاج تزول معه القسمة إلى عمل فكري وعمل يدوي، بقدر ما تفقد مصداقيتها ثنائية النخبة والجمهور، الأمر الذي يغّير النظرة إلى المجتمع بالذات، بحيث يجري معه بوصفه يتشكّل من قطاعات منتجة وفعّالة، ما يجري التعامل مع الأفراد بوصفهم فاعلين اجتماعيين، وذوي قدرة على الخلق والإبداع، كل في دائرة اختصاصه أو في مجال عمله، ومن المفارقات في هذا الخصوص أن المثقفين الذين طالما رفعوا شعار الدفاع عن مصالح الجماهير والدعوة إلى تحريرها، يقفون اليوم ضد العولمة التي تطلق إمكانات لتحرير الناس من وصاية المثقف النخبوي والإداري البيروقراطي في آن معاً، ولكن المثقف لا يعرف ما يقول بقدر ما يطرح قضايا لا يقدر عليها، من هنا آلت مشاريعه ومهامّه إلى نهاياتها الفاشلة.

          إذا كان كتاب جيتس موجّهاً أصلا إلى أصحاب الشركات ورجالات الأعمال، فإنه يعني العاملين في بقية القطاعات المنتجة في المجتمع، ذلك أن عصر المعلومات الرقمية يحوّل عالم العمل بقدر ما يحوّل مشهد العالم وخريطته، وعلى نحو تتغير معه إدارة الأعمال والأموال بقدر ما تتغير إدارة الأفكار والأشخاص، من هنا يتناول جيتس في كتابه المفاعيل الإيجابية للاقتصاد الرقمي في حقول كالتعليم والصحة والجيش والإدارة.

التعلَم عبر الحاسوب

          ففي حقل التعليم، مثلاً، تفتح الأدوات الجديدة للاتصال والتداول آفاقاً خصية أمام المعلم والتلميذ، لأن الشبكات تتيح استخدام طرائق متعددة ومتنوعة في التحصيل، ولأن البريد الإلكتروني يوسّع إمكانات التبادل والاتصال، خارج المدرسة، سواء بين الأهل والأساتذة أو بين الأساتذة والتلامذة، والأهم أن نمط العمل على الحاسوب يعطي للتلميذ الفرصة لكي ينجح، إذ هو يتيح له أن يكون ذا دور فعّال في عملية تعلّمه وتكوين نفسه، بقدر ما يساعده على تشغيل عقله وتنميه، قدراته على البحث والتفكير النقدي المستقل، وهكذا سوف تتراجع الطريقة التقليدية للمعلم الواقف أمام اللوح يشرح ويُلقّن أو يطلب إلى التلامذة القراءة وكتابة الفروض، لكي تحل محلّها طريقة جديدة تقوم على العمل المشترك الذي ينخرط فيه التلاميذ بوصفه فاعلاً تربوياً يستخدم ملكاته في السبر والتحليل، وفي ابتكار حلول للمشكلات التي تواجهه، بقدر ما يساهم مع زملائه في التعلّيم سواء من الكتاب أو من الفيديو والأوديو، من هنا، فإن الشعار التربوي الذي سوف تعمل في ظله المؤسسات التربوية، هو أن يتعلم المرء طيلة حياته حيث يشاء وكيف يشاء.

          وبالانتقال إلى مثال آخر، هو حقل الإدارة، يرى جيتس أن الدولة هي المؤسسة التي تستفيد أكثر من سواها من جراّء ثورة المعلومات والأرقام، فاستخدام الشبكات يتيح عقلنة الإدارة وتفعيلها عن طريق الربط والتنسيق بين الدوائر والأجهزة والتنظيمات المتعددة والمتشابكة، واستخدام البريد الإلكتروني يخفف من المصاريف بقدر ما يقلل الحاجة إلى ركام الأوراق والاستمارات، ثمة دول تعمل اليوم على تحسين الخدمات بخلق مكاتب بلا أوراق، وعندما لن يقف المواطنون في طوابير طويلة لوقت طويل ينتظرون دورهم لملء الاستمارات المتعددة، إذ يصبح بإمكان الواحد أن ينجز معاملته أو يحصل على المعلومات التي يطلبها خلال دقائق.

التحرر من البيروقراطية

          هذا ما تتيحه التقنيات الجديدة للاتصال: ظهور مواطن الشبكة الذي يتحرر من البيروقراطية الإدارية وسلطويتها، بذلك تصبح الدولة أقرب إلى المواطن، على عكس ما يظن الغارقون في أوهامهم، أي الخائفون على الدولة من شبكات الإعلام والشركات العملاقة متعددة الجنسية، فالدولة تتسع إمكاناتها، مع عصر المعلومات، شرط أن تعمل على ابتكار نفسها، بتجديد مفاهيمها ونظمها أو أساليبها ورسائلها، في ضوء التحوّلات الحضارية والانفجارات التقنية، وإذا كانت الشركات لا تُدار اليوم بعقليات تقليدية، بالأولى أن يكون هذا شأن الدول.

          والواقع أن جيتس يقدّم مثالاً حيّاً وناجحاً على كيفية التعامل مع المتغيرات التي يحملها العصر العددي، بالمقارنة مع مواقف حماة الهويات الثقافية الكسلى أو المتحجّرة والعاجزة ممن يرون العولمة بوصفها فخاً أو نذيراً أو تسطيحاً للوعي، وتدميراً للثقافة، بالعكس إن جيتس لا ينظر إلى التغير بعين السلب والنفي، بل يتعامل معه كفرصة للعمل أو كأفق للتفكير، وعلى نحو تضاعف معه الإمكانات وتتسع المجالات ، شرط أن يستعدّ المرء لمواجهة الحدث، بالعمل على تغيير عقليته ومفاهيمه أو أساليبه وأدواته، في فهم الواقع ، وفي إدارة الأشياء.

ولادة فاعل بشري

          أياً يكن، إن لكتاب جيتس أهميته من نواح عدة: الأولى هي أن تجربة مؤلفة ، صاحب الشركة ، شاهد على ولادة فاعل بشري جديد، يتمثّل في عُمال الإعلام الذين لا غنى عنهم ، بعد اليوم، في أي حقل إنتاجي أو قطاعي مجتمعي، من هنا، نحن مقبلون على عصر تُردم فيه الهوّة بين النظر والعمل، بين اللغة المفهومية والفاعلية التواصلية، ولا عجب في الأمر مادام جيتس يعتبر أن العمل الإعلامي هو عمل فكري.

          هذا ما ينقلنا إلى الناحية الثانية من الكلام على أهمية كتابة ، وأعني بذلك إن إنتاج المعارف والأفكار، لم يعد حكراً على الجامعات ومراكز البحث العلمي، وإنما أصبح ممكناً لأصحاب الشركات ومديري الأعمال أن يشاركوا في النشاط المعرفي بتحليل معطياتهم وتأمل تجاربهم ومنجزاتهم ، وبصورة تُسفر، على الأقل، عن أفكار تخلق مجالات لمزيد من النقاش والفهم حول الوقائع التي يتشكّل منها العالم اليوم، إنه اقتصاد جديد في المعرفة لا تجدي معه معرفة ملامة غير المختصين على التدخل فيما لا يختصون به، الأجدى هو خروج العقل العلمي من معاقله الأكاديمية للانفتاح على سائر القطاعات، ولتبادل الخبرات مع مختلف الحقول والمجالات.

          أخيراً، إن تجربة جيتس، مؤلف الكتب، تشهد على أن الكتب الورقية لن تموت مع الحاسوب والثقافة السمعية والبصرية، فإذا كان جيتس، الذي يُعدّ من أبرز رجالات الثورة الإعلامية، التي يخشى منها الناس على الكتاب، يلجأ إلى تأليف الكتب من أجل أن يتحدث عن معنى تجربته وآفاق مشروعاته، فإن ذلك يعني أن الكتاب المطبوع باق، ولن يحل محله الكتاب الإلكتروني.

 

علي حرب