ملف فارس الصحافة: محمد مساعد الصالح.. فارس الكلمة المباشرة: د. سليمان إبراهيم العسكري

ملف فارس الصحافة: محمد مساعد الصالح.. فارس الكلمة المباشرة: د. سليمان إبراهيم العسكري

كان محمد مساعد الصالح يصنف كأول صحفي كويتي بالمعنى الدقيق للصحفي الحديث، مع أنه زاول مهنة المحاماة، لكنه تفرغ للصحافة، كاتبا - منذ أن كان على مقاعد الدراسة بكلية الحقوق بجامعة القاهرة في الخمسينيات من القرن العشرين - ملتزمًا وإدرايًا قديرًا في رئاسة صحف أسبوعية ويومية، وكانت جريدة الوطن التي أسسها ورأس تحريرها تمثل الصحيفة اليومية الأولى في المنطقة، وتتماهى مع كبريات الصحف العربية اليومية، وكانت تحمل نبض الشارع الكويتي والعربي على حد سواء.

وأنا في هذه المقدمة للملف عن حياة الراحل الكبير أتساءل: كيف اجتمعت للكاتب الراحل محمد مساعد الصالح تلك الصفات معًا: نبالة الفارس، ودقة المؤرخ، وسخرية الحكيم، وعروبة الوطني؟ لا شك أنها بذور النشأة التي اعتركها، وجذور الدراسة التي أتقنها، وغصون الهموم التي ألمت بأمته، وثمار الحب الذي شمل به حياته وكتاباته، فجعلنا نصغي إليه، رحمه الله، وهو يبث في يومياته نبض أهله وقضايا مجتمعه واهتمامات إقليمه ومستقبل أمته العربية.

حين كنا نقرأ لـ «أبو طلال» كما كنا نناديه، يمكن لنا أن نقترب من عالمه الشامل المحيط. إن هذه الموسوعية في تناول القضايا لهي الالتفاتة الأولى التي تغلف كتابات تبحر بين عوالم القضاء ودفاتر القانون وصفحات التاريخ وشئون الصحة وفضاءات المال، وكواليس السياسة بالمثل.

وهو - في هذه الكتابة الموسوعية والتي لا تخلو من مسحة فيها الكثير من السخرية والفكاهة الراقية - لا يثرثر، كما أنه لا يتحدث من فراغ، بل يحمل على كتفيه مهمة الإيجاز البليغ، فرسالته لم تكن الكتابة للكتابة، بل هي كتابة من أجل المعرفة والنهضة والتنوير، بل والتثوير.

هذه الموسوعية هي التي يسرت له أن يقترح أفكارًا رائدة، لأنه لا يسود صفحات ويسد فراغا، بل يؤسس عالمًا بطريقة علمية، يستند إلى الحقيقة ويتكئ على التاريخ ويدقق في صحة المعلومة التي يعالجها، فالكتابة عنده مسئولية وأمانة لم يساوم عليها أو يتنازل عنها، بالرغم مما كان يحيط بحياته اليومية من مغريات، فهو ابن العائلة الغنية المترفة، ويعيش في وسط اجتماعي غارق في الثراء وترف العيش، ظل «أبو طلال» راسخًا في قناعاته الإنسانية ومبادئه الوطنية والقومية، يعيش حياته بها، لم تشغله ملذات الحياة عنها، يتابع ما يجري حوله من أحداث في بلده الكويت ووطنه العربي، وكانت فلسطين وحقوق شعبها في أرضه ووطنه في مقدمة انشغالاته العربية، دافع وناضل بقلمه وماله ووقته من أجلها حتى آخر يوم في حياته.. ووقف شجاعًا مع الناس في بلده مدافعًا عن حقوقهم في الحرية، وقاد تيارًا مسالمًا مطالبًا بحماية الحريات الصحفية، والحريات العامة بشكل عام، كل ذلك من خلال مدرسته الخاصة النابعة من شخصيته المسالمة، وثقافته السياسية العميقة، وولعه بالكتابة الصحفية وإيمانه برسالتها وأهميتها في بناء المجتمع وتربية الأمم.

لعلي أستحضر في السطور التالية بعضاً من كتاباته خلال تسع سنوات بين عامي 1998 و2007، «الله بالخير»، تلك التحية الأثيرة التي أخذها عنوانا لزاويته.

الديمقراطية هي الحل

كان ذلك عنوان إحدى يوميات الصالح، في عموده الشامل «الله بالخير»، وقد أولى الديمقراطية جزءا مهما من كتاباته، لأنه كان يؤمن بأمرين؛ عظم التجربة الكويتية وريادتها، والخطر القائم على تلك التجربة من تيارات تدعي الديمقراطية، رغم جنوحها عنها.

في الديمقراطية، أتذكر ونحن نحتفل باليوبيل الذهبي للدستور الكويتي، كيف دعا محمد مساعد الصالح - قبل خمس سنوات - عبر ملاحظات إجرائية وأخرى موضوعية، إلى تنقيح بعض مواد الدستور شريطة التمسك بمبادئ الحرية والمساواة، لكي يعلي من دور اللجان البرلمانية، عند التصويت على القرارات، حتى «تُمنع الحركات الاستعراضية وارتفاع الأصوات لكسب الناخبين» وألا يطال التعديل الحقوق والواجبات العامة، لأنها موجودة في كل دساتير العالم.

لقد أولى محمد مساعد الصالح قضية الدستور والحريات اهتمامه الخاص، ولا عجب في ذلك من شخص درس القانون، وعاش التجربة الديمقراطية كاملة فكان شاهدًا على تحولاتها، ولذلك سنقرأ له كيف يهاجم - بشجاعة - القوى الظلامية التي هددت دولة الكويت، داخليا وخارجيا، ولا يزال صوته يتردد مناديا بأن تكون هناك فزعة لحماية الدستور، من أجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون هناك توعية للشعب تنقله من «هموم» الأحزاب ذات الشعارات الدينية الهامشية إلى هم مشاكل الكويت الحقيقية. لذلك دعا الصالح - رحمه الله - إلى كشف مخطط الإساءة إلى العمل البرلماني، الذي قال إنه مخطط يديره ويشرف عليه هؤلاء الذين ما إن يختلقوا مشكلة، حتى تظهر أخرى، كما قال معلقا على اتهام مسئول بوزارة الأوقاف بمخالفة الشريعة، لأنه زار إحدى الكنائس في جمهورية جورجيا، إن الوزارة نفسها دعت بطريرك جورجيا لزيارة الكويت، الذي جاء برفقة رئيس إدارة مسلمي القوقاز، كما زار عدد من رؤساء الدول وضيوف الكويت الرسميين مسجد الدولة الكبير من دون أن يحتج دعاة الإسلام السياسي، ولكن يبدو أن إثارة مثل هذه الموضوعات مقصود بها ـ كما يقول الصالح ـ الإساءة إلى العمل الديمقراطي، وهي سبب، كما يؤكد للاحتقان السياسي الذي تعيشه الكويت.

وهكذا يدعو الصالح إلى رؤية وسطية، لا من أجل توافق خانع، وإنما بحثا عن توفيق مانع من أجل رفعة مصلحة الوطن، فوق الأهواء الشخصية، وقد كرر أكثر من مرة أهمية أن تكون هناك شفافية في التعامل مع هذه القضايا، من أجل التحقق من صحة ما ينشر، قبل النشر وبعده.

سخرية الحكيم

آخر العمود، هو ما كان يذيل به محمد مساعد الصالح آراءه، وفي هذه الفقرة التي قد تطول فتصل إلى ثلث العمود نفسه، وقد تقصر فتكون عبارة مختزلة قوية، اعتاد الصالح أن يعطي درسا في السخرية الحكيمة، التي لا تبتذل لغوا، ولا تهين شخصا، ولا تستعصي على الفهم أيضا. لم يكن خطاب الصالح موجها بلسان عامي، لأنه أدرك أن الاسفاف صنو الجهالة، لذلك يعف لسانه، حتى وهو يتفكه، عن ذكر سيئ القول.

في هذا التذيل الكثير من الدهاء الصحفي، ولعلي حين أقتبس منه سطورا تفصح هذه الاقتباسات عن روح الدعابة العميقة الراسخة لدى الراحل الكبير:

  • «لا أعتقد أن المرأة الكويتية سترشح نفسها لعضوية مجلس الأمة، لأن جميع نساء الكويت لم يبلغن سن الثلاثين عاما الميلادية حتى الآن» (نشرت عام 1999م)
  • «نشاط الوزارات يبدأ عادة في شهر سبتمبر، ومع ذلك يبدو أن بعض الموظفين، وبالذات الكبار، يمارسون هوايات السفر في هذا الشهر، وهذا يعني أنه لا إنجاز على مستوى الوزارات. مطلوب جلسة طارئة لمجلس الوزراء هذه المرة للنظر في هذا الأمر».
  • «تمتلئ صحفنا هذه الأيام بتصريحات المرشحين، ولكي لا تساهم الصحيفة في تضليل القارئ، أرى وضع علامة تدل على أنه إعلان مدفوع الأجر».
  • «يقول إخواننا المصريون إن من يتوفى ولا يُكتبُ نعيُه في صفحة الوفيات في جريدة الأهرام كأنه لم يمت، لهذا فإن جميع المصريين يشترون الأهرام لصفحة الوفيات.. في الكويت تنشر صحفنا أسماء المتوفين الكويتيين، وكأن غير الكويتيين من عرب وأجانب لا يموتون (حتى في الوفاة هناك تفرقة) وعليه، لو نشرت الصحف الكويتية أسماء المتوفين كويتيين وغيرهم من جنسيات مقيمة في الكويت، فإن توزيع الصحف سيزداد»!

إن هذه الطرف التي تذيل المقالات لا تقل جدية عنها، فهو لم يوردها من أجل الضحك، وإنما اتخذ منها وسيلة لنقد لاذع، بأسلوب راق.

وهو بذلك يعلي من قدسية الكلمة، وقداسة الكاتب. وأذكر أنه كتب في زاويته عام 2000: «لم أشجع أحدًا من أبنائي الخمسة على العمل الصحفي أو الكتابة المنتظمة، لأن العمل الصحفي في الكويت ينقسم إلى قسمين؛ كاتب يمدح وهو يسمى في الكويت مواليا للحكومة ويستفيد ماليا من كتاباته، وكاتب صادق ملتزم مكروه حكوميا (وهذا شرف) تصفه الحكومة وأعوانها وكتابها الكثر في الصحف بأنه موتور ويعارض لمجرد المعارضة. ولا أريد لأبنائي أن يكونوا موالين، لأن بعض الكتاب في حكم المرتزقة، والكاتب الجيد يجب أن يكون ملتزما ولديه قضية يدافع عنها».

الهم العربي والأمن القومي

كما أسلفنا، فإن الشأن القومي، وقضايا الأمتين العربية والإسلامية، قد وجدت جميعها لدى الصالح مساحة مهمة في كتاباته. فيحكي عن مصر، بدءا من الخمسينيات ـ حين كان طالبا في كلية الحقوق ـ وحتى آخر يومياته، ويقدم لزياراته إلى لبنان، ويعلق على ما يحدث في فلسطين، وينتقد حملات الكراهية الغربية ضد العرب والمسلمين، في أعقاب هجمات سبتمبر. وقد شن هو نفسه حربا ضد الإرهاب، وضد الكراهية بسبب الإرهاب أيضا. كما ساهمت كتابات الصالح في التنبيه إلى خطورة العمالة الأجنبية الآسيوية، دون أن يعني ذلك تقاعسا عن إيمانه المتكرر بمنحهم حقوقهم الإنسانية والمادية كاملة.

إن هذا التناول الذي تتسع مساحته لهموم الداخل والخارج، لقضايا الوطن والأمة، ليؤكد على أن علمًا من أعلام الصحافة الكويتية يبقى دائما مع حرية هذه الصحافة، التي يعدها أحد أجنحة الديمقراطية التي لن تحلق إلا إذا وجدت صحافة حرة. قليلون هم من استضاءوا بنور الحرية، وحكمة السخرية، ونهضة العقل، وكان محمد مساعد الصالح من أنجب هؤلاء، لتبقى سيرته عطرة لكل ما خط قلمه، وما دون مداده. رحم الله «بوطلال» الذي خلّف لنا تاريخًا موثقًا لفترة حيوية من تاريخ الكويت السياسي والاجتماعي مما وثقه في كتاباته.

 

سليمان إبراهيم العسكري