ملف فارس الصحافة: محمد مساعد الصالح بين عروبته وكويتيته

ملف فارس الصحافة: محمد مساعد الصالح بين عروبته وكويتيته

طوال عقود من الزمن ظلّت قراءة عجالاته اليومية من الضرورات، بل الواجبات، لمن يريد أن يعرف ما الخطأ وما الصواب في الكويت وفي عديد من البلدان العربية التي اهتم بها وأحبها بمقدار ما أحب كويته أحياناً أو - للدقة - أقلّ قليلاً. ومن بين بضعة ناس وأشياء سمعها الزائر العربي قبل أن يحلّ في الكويت كان محمد مساعد الصالح في طليعتها، بلا شك، منافساً أبهة قصر السيف وشهرة الأبراج وتاريخية النواخذة ورمزية السور والبوم، وإذا لقيه أخيراً يفاجأ به غير مهتم ولعله غير مدرك أنه ذاك المَعلَم.

ليته صمد لبرهة أخرى، ليت لحظة الرحيل الأخير تمهّلت بعض الشيء؛ ليرى «بو طلال» هذه الثورات والانتفاضات التي كانت لمحات منها تجول في خاطره كأنها حلم، تغازل رؤيوية قلمه وإنْ بدت له بعيدة ومشوّشة في الحال العربية التي أمضّه تردّيها المتواصل. فهو المغتبط بكويتيّته تصرف دائماً على أنه كائن عربي، فهذا ما كانه في قرارة نفسه منذ بدأ وعيه السياسي.

في التحوّلات العربية الجارية كم يبدو صوت «بو طلال» مفتَقداً، بل إن غيابه يثير الفضول والتكهنات: كيف كان سيواكب الحدث؟ خصوصاً أن الجيل ليس جيله والشباب ليسوا كما كان في شبابه، وتعبيراتهم في 2011 مختلفة عما كان النصف الثاني من القرن الماضي يتيح له ولجيله أن يتصوراه ويفعلاه. لكن، سيخطئ كل من يعتقد أنه كان بعيداً عن جوهر هذا الزلزال الوجداني العربي وروحه. فلو بحثنا في أعماق أعماقه عما كره طوال حياته لوجدنا بالتأكيد أنه كره شيئاً واحدًا، وبإصرار، إنه الظلم. وإذا استعدنا سريعاً ما هيمن على كتاباته لعثرنا - بلا عناء - على عناوين الحراكات الشبابية الراهنة: الديمقراطية، الحرية، حقوق الإنسان، قضاء، قانون، عدالة، الفساد، الدولة المدنية، انتخابات حقيقية... وحتى النقاشات التي أعقبتها: الدستور، الدين والسياسة، فصل الدين عن الدولة، الإعلام، المرأة، المجتمع وطوائفه وقبائله، واقع العرب ومستقبلهم، فلسطين، أمريكا، إسرائيل، التدخلات الخارجية... (انظر عناوين الفصول لمختارات من مقالاته جمعت في كتاب «قال بو طلال حفظه الله: الله بالخير»، منشورات «القبس»، الكويت 2009).

فمع محمد مساعد الصالح لم يكن ممكناً فصل التجربة عن الإنسان. لم يكن ابن جيله فحسب بل لعله اختصر هذا الجيل بمختلف. أياً كانت التطورات والتقلبات بقي رجلاً حراً برأي حر. ورغم اعترافه مراراً بأنه يؤمن بـ «نظرية المؤامرة» في فهم ما يتعرض له العالم العربي، إلا أن عقلانيته كانت تمدّه بحس المسئولية كلما خرج برأي أو بموقف، لذلك لم يكن ممكناً أيضاً فصل الرجل عن الكاتب. كان يجلس هادئاً منصتاً ولا يلبث هذا الهدوء الصاخب أن يتفجر بفكرة غير متوقعة أو برأي مفاجئ أو بقفشة تهزّ المكان بضحكات الجلساء. ولم تكن سخريته لمجرد الهذر وإنما لنقد شفاف لا يجرح، ولصوغ أكثر المواضيع تعقيداً في قالب مبسّط ومفهوم يخاطب الأجيال كافة. وإذ بدت سخريته أكثر بلاغةً وأريحيةً، فإن ذخيرته الحقوقية بدت أفضل ما حمل إلى الصحافة، إذ جعلته أولاً يُخضع مجريات السياسة التقليدية لمرجعية القوانين وما تفترضه من حس مراقبة وتحليل، ثم مكّنته ثانياً من أن لا يبني رأيه وسخريته على شعور قوي بما يعتقده حقاً وعدلاً. يخبرك أنه يقرأ للجميع، للجادين وللساخرين مثله، ويحبهم أقل أو أكثر، ولم يكن يغيظه شيء مقدار ما تغيظه السخرية «المتهتكة» سياسياً، ويعتبرها أكثر إيذاء من الكتابة المصطنعة الجد إلى حدّ أن تصبح غير مفهومة. يشرح لك أنه لا يمكن الكاتب الساخر أن يقول لقرّائه أنه يستهزئ بما يهمهم، بل يجب أن يشعرهم بأنه «ملتزم»، والالتزام لا يعني فقط التحزب، ولا العبوس، كما أن السخرية لا تعني عدم الجدية، بل على العكس.

ثمة في حياة محمد مساعد الصالح حدثان شكلا قناعاته وربما ثوابته السياسية. كان الأول خروجه إلى مصر للدراسة، فإذا به يكتشف البعد العربي وكأنه كان يبحث عنه داخل شخصيته فوجده، وهو سيؤثر في مقاربته للسياسة إلى حد أنه كان يكتب عن القضايا العربية وكأنها شئون محلية تشغل وحدها بال الكويتيين. يجدر القول إن «بو طلال» عايش الأحداث التي حفرت آثارها عميقاً في العالم العربي، بدءاً بالنكبة الفلسطينية عام 1948، وخصوصاً ثورة 23 يوليو المصرية عام 1952، التي فجّرت وعيه، وكل ما تلاهما من انبلاج الأحلام العربية ولكن أيضاً من توالٍ للهزائم والخيبات العربية. في الأحلام ذهب محمد مساعد الصالح إلى أقصى اللامألوف الذي يمكن أن يذهب اليه أي مواطن خليجي في تلك الحقبة، إذ كانت مصر منطلقة إلى العالم الأوسع وإلى التجربة الحزبية، ففيها انضم إلى حركة القوميين العرب، وفيها أيضاً ذاق طموح الوحدة العربية وتاق إلى رؤية شعوب العرب ودولهم في كيان واحد. لذلك قال عن تلك الحقبة إنها ولّدت عنده اهتماماً بالقضايا العربية أكثر من القضايا المحلية.

أما الحدث الآخر فهو معايشته، وهو الذي درس القانون، ولادة الدستور الكويتي عام 1962، مدشّناً تبلور الديمقراطية الكويتية لتصبح لها قبة برلمانية إلى جانب الديوانيات التي كانت ولا تزال المكان الذي يشهد تبادل المواقف والأفكار، وفيها يتشكّل الرأي العام الكويتي. جاء ذلك الدستور في حينه بمثابة عقد اجتماعي متقدم، ولعله لا يزال متقدماً، على كثير من تجارب الحكم في عموم العالم العربي، ولا شك أنه كان أيضاً، بالنسبة إلى محمد مساعد الصالح وأمثاله من القوميين، إطاراً للعمل وللمضي أبعد في التغيير الذي ينشدونه، إذ أصبحوا قطباً سياسياً يحاول جذب المجتمع إلى تطلعاتهم، لكنهم وجدوا أن البيئة العامة غير مواكبة وغير جاهزة للسير بالوتيرة التي تمنّوها، فضلاً عن أنها جزء من بيئة خليجية أوسع تجذب المجتمع في اتجاه تقليدي كان هو السائد. صحيح أن الدستور، ثم الانتخابات، أحدثا نقلة عملاقة بمقاييس تلك الفترة، إلا أن الممارسة التطبيقية لم تكن مستعدة للقفز إلى ما كان يوصف بـ «التقدمية» وفقاً للأدبيات الحزبية. وإذا لم يتمكن «بو طلال» ورفاقه من إحداث التغيير الذي ابتغوه، إلا أنهم أثبتوا وجودهم على الساحة الكويتية، وكان لهم تأثير واضح على الجيل التالي، وإلى جانب أقطاب الحكم كانوا هم أبرز الوجوه الكويتية المعروفة عربياً، وكان لهم حضور في مختلف الفعاليات داخلياً وخارجياً. لكن «بو طلال» أسف في أحد أحاديثه لأن أقطاب الحركة القومية أمثال أحمد الخطيب وسامي المنيس لم يربّوا جيلاً «قومياً» بعدهم.

كان لهذا التيار فضل في جعل البيئة السياسية الكويتية حاضنة للمقاومة الفلسطينية وشخوصها البارزين، لكن يجدر القول أيضاً إن المستوى الحكومي كان مواكباً لهذه الظاهرة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فالمعروف أن القضية الوحيدة التي كان سفراء الكويت ودبلوماسيوها يتابعونها عبر العالم هي القضية الفلسطينية. ورغم أن القوميين حافظوا على هذا النهج حتى بعد الغزو العراقي للكويت، إلا أن هذا الحدث هزّ قناعاتهم وأدى بديهياً إلى تغيير مزاج البلد، إذ استقطب الأولوية لقضية واحدة هي وجود الكويت وأمنها ومستقبلها. وقد عبّر محمد مساعد الصالح عن الواقع الجديد بقوله في حديث عام 1999: «عندما نكتب عن قضايا عربية لا نجد ردود فعل على عكس مرحلة ما قبل الغزو، وهذه هي الكارثة، مع الأسف الشديد الناس فقدوا هويتهم العربية».

لم يكن احتلال لدولة عربية أخرى بالحدث العادي العابر، ولم يهزّ وجدان الكويتيين وحدهم، بل قصم عملياً ظهر ما كان يسمى «النظام العربي» وأدخل العرب في مرحلة شك، لا في «هويتهم» وإنما في ما إذا كانت الروابط الكثيرة التي تجمعهم تكفي ليأمن أحدهم الآخر. والأرجح أنهم لم يخرجوا من تلك المرحلة التي قادتهم إلى مزيد من التشرذم والضياع. وفي الحديث نفسه في «مرآة الأمة» قال «بو طلال»: «بالأمس كنت متطرفاً ومتحمساً للقضايا القومية بالدرجة الأولى، كنت أكتب بحدّة وأسمي الأشياء بأسمائها، الآن أراعي أوضاع الكويت، أصبحت أهدأ وأكثر حكمة وعقلانية». كان ذلك تعبيراً عن خيبة أمل كبرى من هزيمة الحركة القومية التي كان وأترابه ملتزمين بها، ولم يعترفوا باكراً بما اكتنفها من هنات وقصور خصوصاً في إصلاح أنظمة الحكم. كانت تجربتهم مع تهديدات عبدالكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق (1961 غداة إعلان الاستقلال) بمثابة إنذار أول، لكنها تركت لديهم انطباعاً قوياً بأن الخط القومي الذي ينهجونه هو الصواب، بدليل أن الزعيم القومي جمال عبد الناصر هو من وقف ضد تلك التهديدات، وأن حركة القوميين عارضتها أيضاً، بل تواصلت معهم (عبر رسائل ظلّت مغلقة، كما روى «بو طلال») بشأن كيفية إحباطها إذا ما قدّر لها أن تدخل حيز التنفيذ. غير أن مسلسل الخيبات العسكرية والصراعات التي نشبت في اتجاهات متعددة منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي حتى نهاية سبعينياته حول مقولة «الوحدة العربية» وهيمنة الدكتاتوريات، وأخيراً الغزو العراقي للكويت، كانت أكثر من كافية لحسم حقيقة أن الفكر القومي شيء وأن ممارسة الحكم باسمه شيء آخر تماماً. وفي العام 1997 كان من الطبيعي أن يتوصل محمد مساعد الصالح إلى هذه الخلاصة: «مطلع الخمسينيات كانت قضيتي الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار وتحرير فلسطين، أما اليوم فقضيتي هي الديمقراطية، وأجد فيها حلاً لكل مشاكل الكويت والعالم العربي».

بقي من قومية «بو طلال» في نفسه نزعة يقول إنها «علمانية» لا تعني في أي حال عزوفاً عن الدين، بل تعني رفضاً قاطعاً لاستخدامه وسيلة للتحزّب والعمل السياسي. وإذ دافع على الدوام عن حرية الفكر كقضية مقدسة وعن تعدد الآراء كظاهرة صحية، فإنه كتب مبكراً أن هناك تناقضاً بين الديمقراطية - قضيته - وبين تسييس الدين، فهي كما قال «لا علاقة لها بالأحزاب الدينية». ولعل مقالاته، قديمة ومتأخرة، تبدو في كثير من تفاصيلها مشاركة في النقاشات الدائرة في أيامنا هذه، تحديداً لأن «بو طلال» كان مجلياً في التقاط المفارقات، ومنها مثلاً «يستغربون أن أصلي في المسجد وأكتب ضد الإسلام السياسي» أو «إذا كان رأيك السياسي غير رأيهم يعتبرونك كافراً»، أو كما في نقده الاستناد إلى الدين لقول الشيء ونقيضه في آنٍ وباسمه. ها هو يروي («القبس» 22-11-2005) إنه «إبان غزو النظام العراقي للكويت انعقد في بغداد مؤتمر لعلماء المسلمين أباح وحلل ضم الكويت للعراق، بينما انعقد مؤتمر آخر في جدة لعلماء المسلمين وحرم الغزو والضم لبلد إسلامي»، وتابع: «هكذا عشرات بل مئات المسائل هي محل خلاف في الاجتهادات مثل معنى الربا، وفوائد البنوك، والنقاب، والشورى هل هي ملزمة أم اختيارية، والديمقراطية هل هي حرام أم حلال؟».

يصعب حصر محمد مساعد الصالح في صورة واحدة، ففي ما يقرب من خمسة عقود كان له حضور يومي ليقول كلمته و«يهرب»، وفقاً لشعار أطلقه. وهو بدأ قومياً عربياً تكاد شئون الكويت لا تعنيه، لأنه منشغل بهمّ الأمة، وربما لأنه اعتقد أن التغيير الذي ينشده يبدأ على المستوى الأكبر ثم ينعكس على المستوى الأصغر، لكنه بعد كل الذي رآه وخبره شاهداً على أحوال الأمة خلص إلى أن تجربة الكويت مقارنة بأنظمة الاستبداد المتهاوية وبكل ما أتاحته له ولسواه من حرية تعبير من دون خوف، مع كل انتقاداته لها، تركته قانعاً مقتنعاً وربما متمنياً لو أنه يمكن تعميمها. ويبقى أنه، كما قال، كان معظم حياته «متفرجاً»، لكنه تفرّج المراقب لا الرقيب، أي أن ظلّ متمتعاً بعين الصحافي. ألم يقل إنه يعتبر الصحافة هداية لا غواية؟.
--------------------------------
* كاتب من لبنان.

 

عبدالوهاب بدرخان*