ملف فارس الصحافة: محمد مساعد الصالح: ابن المهنة وأشياء أخرى

ملف فارس الصحافة: محمد مساعد الصالح: ابن المهنة وأشياء أخرى

لم يكن دخوله إلى عالم الصحافة بدافع تجاري أو وظيفي بحت، بل امتهن الكتابة الصحفية منذ كان شابًا يدرس المحاماة في جامعة القاهرة في الخمسينيات.. إلى جانب ممارسته للمحاماة ترافقت معه الكتابة ولم تتوقف حتى آخر رمق في حياته، فالأستاذ محمد مساعد الصالح ابن مهنة، عرفها ككاتب يومي كما عرفها كمسئول، تخلى عن المناصب في الوقت الذي تطلب فيه التنازل عنها، وبقي عموده اليومي «الله بالخير» يطل على القراء صباح كل يوم..

مدمن على الكتابة والقراءة حتى أثناء الإجازة، فالكتابة اليومية تحتاج إلى قراءة الكتب، وهو أمر صعب تحقيقه إلا في الإجازة، اكتشف أن الكتابة ليست موهبة فقط كما يقولون، بل يشترط أن يكون الكاتب في منتهى صفاء الروح، لكي يكون قادرًا على أن يعبر عن أفكاره.

بعد تخرجه من كلية الحقوق في القاهرة عام 1958 التحق بأول وظيفة حكومية بمسمى «مساعد وكيل وزارة» لدائرة التسجيل العقاري، ثم طلبته وزارة التجارة ليعمل مراقبًا عامًا للسجل التجاري، وبين هذه وتلك قرر ألا يعمل موظفًا لأنه من هواة العمل الحر، وحتى عام 1961 بقي مع والده يساعده في الأعمال التجارية.

مارس مهنة المحاماة منذ العام 1961 واستمر طوال عمره المديد.. أما الصحافة فكانت تأسره منذ تفتح وعيه السياسي عندما كان أحد المساهمين في إصدار جريدة «الاتحاد» وكان من المشرفين عليها.

أسعده أن يرى في حياته صورة من الصفحة الأولى من تلك الصحيفة التي جمعها الأستاذ عادل عبدالمغني في العام 2009 والتي كان يصدرها اتحاد طلبة بعثات الكويت في مصر، عندما كان مع رفاقه من الطلبة يكتبون المقالات ويقومون بتصحيحها وطبعها في المطبعة ومن ثم توزيعها، فقد جاء في مقال كتبه آنذاك منتقدًا أسلوب خطبة الجمعة في المساجد، حيث قال: «يا أيها الآباء لا تتركوا بناتكم يذهبن إلى الأطباء لأنهن يذهبن متبرجات متزينات وفي هذا إخلال بالحياء»، معتبرًا أن هذا النوع من الخطابات لم يتغير منذ خمسين سنة.

مجلة «البعثة» التي أصدرها بيت الكويت كان له فيها نصيب فقد نشر أول مقال له عن الصعوبات والمتاعب التي تواجه الشباب الكويتي في التعرف على فتاة للزواج، ويذكر كيف أعطى مقالته باستحياء إلى سعد زكريا رئيس تحرير «البعثة» عام 1964 وعندما قرأه قام بتشجيعه مما دفعه إلى الكتابة في «البعثة» و«الاتحاد» بين وقت وآخر، وعندما يأتي إلى الكويت أثناء العطلة الصيفية يكتب في صحيفة «الفجر» وصحيفة «الشعب»...

استمر عمله في الصحافة والمحاماة إلى أن طلب امتياز جريدة إعلانية عام 1961 وكان الطلب للمطبعة العصرية وهو كرئيس للتحرير، وبعد الاستقلال تحول الامتياز الإعلاني إلى سياسي، وبقيت «الهدف» جريدة أسبوعية إلى أن اشترى شقيقه داوود مساعد الصالح جريدة «الوطن» من صاحبها أحمد العامر وأصبح رئيسا للتحرير، بعد ذلك تم بيع «الهدف» إلى صاحب جريدة «السياسة» الأستاذ أحمد الجارالله، أما «الوطن» فلم تعد له علاقة بها بعد بيعها عام 1991 إلى الشيخ علي الخليفة العذبي الصباح، وبقيت العلاقة مع «الوطن» مثل علاقة الحبيب بحبيبته.

كتب في «الهدف» زاوية تحت اسم «من عرة وبره» أي من كل شجرة ثمرة، وعندما صدرت «الوطن» كتب في الصفحة الأخيرة زاوية أطلق عليه اسم «الله بالخير»، التي أرادها تحية شعبية بينه وبين القارئ، وفي العام 1992 انتقل إلى صحيفة «القبس» ككاتب دون أن يتوقف عن ممارسة هذه العادة التي التصقت به وأضحت جزءًا من حياته وتفكيره.

أسلوبه في الكتابة يأخذ طابع النقد والسخرية اللاذعة وهو أقرب إلى عقلية القاضي منه إلى المحامي، وهذه الأخيرة أفادته في الصحافة، بحيث جعلته قارئًا يستطلع الأجواء قبل أن يكتب.

وفي حوار له مع مجلة «الحدث» سنة 1997 قال «إن الجمع بين هاتين المهنتين مزعج.. لأن كلتيهما عمل وفكرة.. لذلك أشعر بصداع دائم» وإن بقي ملازمًا للكتابة والصحافة دون انقطاع بعكس المحاماة التي شعر وبحكم السن أنه لم يعد قادرًا على الإيفاء بالتزاماتها.

في بداياته كان يكتب بحدة ويغلب على آرائه التطرف وكلما مرت الأيام وجد نفسه أكثر هدوءًا، فالصحفي الناجح من وجهة نظره يجب ألا يرى الناس، خاصة في بلد مثل الكويت، فعندما تهاجم وزيرًا أو وكيل وزارة وتراه مصادفة سيقول لك.. أنت فلان ولو إتصلت بي لأعطيتك الحقيقة.. وأحيانًا يضطر لأن يلعب اللعبة السياسية، كأن يقف مع مجلس الأمة ضد وزير معيَّن.

في السنوات الأخيرة من عمره بات أكثر «حكمة» وحرصًا في البحث عن الحقيقة.. عن أسلوب العمل في الصحافة والفرق بين صحافة الخمسينيات وصحافة السبعينيات وما بعدها، يقول كان في «الوطن» زاوية اسمها «حديث الساعة» يقول للشخص الذي سيكتب الموضوع، اذهب إلى مركز المعلومات وابحث عن أبعاد الموضوع وخلفياته قبل أن تكتب، ولكن لم يكن يذهب أحد إلى هناك.. ولذلك لم تعد هناك معالجة موضوعية «وعدد صفحات جرائدنا أكبر من اللازم» فالكاتب، كما يراه، لا ينجح دون الاطلاع وتوافر المعلومات.

هو أحد المساهمين منذ الخمسينيات في الدعوة إلى نشر الديمقراطية وثقافة التسامح والالتزام بالحريات، عمل على إقناع نفسه بضرورة التنازل عن أمور قد يخسرها ويظنها ثابتة، مثلما حدث معه عندما كان رئيسا لتحرير «الوطن» عام 1978، تنازل عن رئاسة التحرير لأنه لو لم يفعل ذلك لتم إلغاء الامتياز بعد ثلاثة أيام من تركه رئاسة التحرير أوقف زاوية «الله بالخير» ليستبدلها بزاوية جديدة بتوقيع «أبوناصر»..

لم يكن راضيا عن بيع «الوطن» من المنظور المهني، لكن البيع من الناحية التجارية كان مجديًا وبالرغم من خسارته الصحيفة، انتقل إلى موقع آخر ليمارس الكتابة والشقاوة كما يحلو له..

حاول الدخول في العمل السياسي في الكويت من خلال البرلمان لكنه لم يوفق وآثر البقاء في كنف صاحبة الجلالة فهي الأدوم وإن كان عاش في بيئة سياسية أيام الدراسة فهو يعرِّف عن نفسه بأنه من أنصار القوميين العرب..

فالكتابة اليومية بالنسبة إليه كما في حديثه لـ«القبس» عام 2002 صعبة ومتعبة، «وعندما أقيس ضغطي أجده 160 على 90 وأحيانا 100، وعندما أسافر وأتوقف عن الكتابة في الصيف يرجع إلى 120 على 80، وبالتالي البحث عن فكرة مشكلة، وحتى أجدها، يجب أن أطالع الجرائد المحلية، فإذا وجدت الفكرة أكتب عنها وإذا لم أعثر عليها أقرأ «الشرق الأوسط» و«الحياة» أو عن طريق الإنترنت أو يأتيني بها أحد، لأنني لا أعرف أشغل الإنترنت «مخي مو مركب على هذه السوالف وأحسد بعض الزملاء الذين يكتبون في «القبس» أمثال حسن العيسى وعبداللطيف الدعيج وهم مرتاحون لأنهم يقعدون أمام الكمبيوتر والإنترنت» ويدورون على أفكار، مع العلم حاولت أن أتعلم ولكن ظهري عورني فبطلت إضافة إلى الأخبار الصغيرة التي تنشر في الصفحة الأخيرة هذه أعلق عليها وأربطها بقضايا محلية..

وهنا لابد من الإشارة إلى أن مهمتنا ككتاب بعد الغزو أصبحت أكثر صعوبة، في السابق كنا نكتب عن القضايا العربية والفلسطينية في الدرجة الأولى، والآن نركز على الشئون المحلية لأن القارئ الكويتي الآن لا يريد إلا الكتابة عن الكويت..

عندما اشتد المرض عليه في شهر مايو 2010 أبدى حماسًا شديدًا للكتابة والعودة إليها، فهي بالنسبة إليه متلازمة معه.

تمنى أن يظل يكتب «حتى الرمق الأخير من حياته» لكن القرار ليس بيده.. بل باليد اليمنى التي ترتعش من الحر والغبار، كان يقول في مقالته «الصحة والكتابة» يوم 26-5-2010 .. فقد صار الأطباء يقيسون صحته على قدر ما يكتب!!

ساءه مرة في 8-10-2010 تجاهل وزارة الإعلام دعوته وتكريمه مع رواد الصحافة في الكويت لأنه لو دعي ولن يذهب إلى الحفل لأنه لا يرغب في أن يحصل على درع حكومية أو شهادة تقدير فهو معارض لجميع الحكومات المتعاقبة ولا يؤمن بالتكريم لمجرد أنه تجاوز الستين عامًا.. عندما كان يمرض أو يصاب بوعكة صحية لا يتوقف عن الكتابة بل تراه يبرع في تصوير حالته الصحية بأسلوب ساخر يجعلك ضاحكًا وكأنه يتكلم بلسان أي مريض يدخل المستشفى، ففي شهر أبريل من عام 2009 اكتشف الطبيب الذي قام بعمل صورة «سيتي سكان» أن القلم ملاصق لجسمه، مما اضطره لإعادة التصوير، فما كان من «بوطلال» إلا الاعتراض على تشويه القلم الذي بقي رفيق دربه، لا يستغني عنه، معتبرًا أن المرض إذا كان نقمة وعذابًا للإنسان فهو في الوقت نفسه نعمة، لأن الإنسان يعرف فيه نفسه فلا يبالغ التقدير .. فالإنسان مهما بلغ من القوة والإيمان بالمانشيتات الضخمة، إلا أنه ضعيف أمام المرض، وهذه حكمة الخالق ليعرف كل إنسان دوره وموقعه! «وهذا ما يفتقده معظم أفراد شعبنا» على حد تعبيره..

لا يتورع عن إسقاط صور واقعية تظهر أمامه وهو على سرير المرض في أحد المستشفيات الغربية على حالة الكويت، «فالمستشفى الذي أعيش فيه مؤقتًا، تبلغ نسبة العاملات النساء فيه ما يقارب 90 في المائة، وهؤلاء متخصصات في الأشعة والتحاليل الطبية ومساعدة الأطباء، بينما أرى أمورًا في بلدي تدعو إلى الحزن، الرجل الفحل يسير متقدمًا وخلفه ثلاث أو أربع خيام سوداء لا تعرف طبيعة عملهن سوى خدمة الرجل ووضع البطاقة الانتخابية باسمه..

يحول مأساته إلى جرس في الانتقاد اللاذع لما يراه من حوله، وهو يطبق المثل القائل: الناس ذاهبة إلى مكة وهو عائد منها، ففي الوقت الذي كانت تدور فيه الانتخابات في الكويت عام 2009 كان حديثه عن «رجله الثالثة» ويقصد بها العصا التي يتكئ عليها، لكنها ليست أشهر من عصا عقاب الخطيب التي يستعملها في ضرب المشاغبين من رواد ديوانية برجس حمود البرجس..

لديه قدر كبير من التسامح وقبول الآخر، فكيف إذا كان من الكتاب الساخرين بعد أن صار في كل جريدة تقريبًا كاتب ساخر وهو أمر رائع ومرحب به..

وإذا لم يجد شيئًا يعلق عليه يتوجه إلى نفسه ويجعل منها فكرة لمقاله الذي يحرص على نشره يومي السبت والأحد لاعتقاده بأن الهنود يكثرون من استخدام الصفحة الأخيرة من الجريدة ليفترشوا بها أرض الحديقة التي يذهبون إليها للتسلية والترفيه.

كثيرا ما كان ينتقد الصحافة ومحطات التلفزيون من موقعه كإعلامي، فعندما يرى أجواء المشاحنات السخيفة والتحريض الطائفي تطغى على المواد المنشورة بالصحف «يصاب بالغثيان»، لوصول الأمر إلى هذا المستوى والذي لم يعد فيه التفكير بمصالح الدولة هو الأساس.. فقد تحولت «شاشات التلفزيونات» الخاصة والصحافة إلى طريق للتكسب غير المشروع من دون التفكير بمصالح الوطن العليا. وهو اعتراف من كاتب وصحفي ليس ببعيد عن أجهزة الإعلام... بل لصيق بها إلى حد التوأمة..

أعد هذا التقرير استنادًا إلى مقابلات وحوارات صحفية أجرتها مع محمد مساعد الصالح مجلة «الحدث» الكويتية وصحيفة «السياسة» الكويتية ومقالات كتبها في صحيفة «القبس» في عموده «الله بالخير».
------------------------------
* كاتب من لبنان.

 

حمزة عليان*