مؤسسو الحركة الفلسفية في العصر العربي الحديث..

مؤسسو الحركة الفلسفية في العصر العربي الحديث..

في ثلاثيته عن تاريخ الفلسفة أرخ المفكر المصري اللبناني يوسف كرم بعين عربية للمدارس الفلسفية الغربية منذ اليونان حتى مطلع القرن العشرين. إنها افتتاحية تعرف العالم العربي على المنجز الفلسفي الغربي. وهي انطلاقة جديدة لمرحلة من الترجمات والمراجعات والشروح والتفسيرات سار عليها مزامنو كرم وخلفاؤهم خلال القرن العشرين.

أكرم يوسف كرم المكتبة العربية بمجموعة من الكتب والترجمات صنعت بداية معرفة عربية بمنجز فلسفي غاب منذ ألف سنة. أهمها كتبه الثلاثة «تاريخ الفلسفة اليونانية» الذي تضمن مسحًا ممنهجًا ومختصرًا ومبسطًا يؤرخ لأهم أفكار المدارس اليونانية قبل وبعد سقراط. و«تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط» و«تاريخ الفلسفة الأوربية الحديثة» وهما كتابان مر فيهما كرم بمجموعة من المدارس الغربية في سبعة قرون حتى القرن العشرين.

إن هذا النتاج ظهر بعيد حركة الإصلاح التي شهدتها مصر والعالم العربي حتى منتصف القرن العشرين. وهي حركة شملت زوايا عدة من ضمنها نقد الأفكار الدينية المتطرفة، والدعوة لإصلاح المجتمع، وإعادة قراءة التاريخ، والترجمات الأدبية، وصراع الأفكار، وكانت ضمنها ما يمكن وصفه بـ«الحركة الفلسفية».

في مقابل كرم ظهر باحث فلسفي مصري آخر هو مصطفى عبد الرازق، شيخ أزهري بعقلية معتدلة درس في فرنسا ودرّس الفلسفة في الجامعة المصرية، واختص تحديدًا بتدريس الفلسفة الإسلامية. المتعاصران مثل كل منهما تيارًا، الأول نقل تجربة بكرًا عربيًا إلى عالمه، والآخر حاول أن يصبح معيدًا لإنتاج فلسفة قديمة. عبد الرازق طرح نفسه كدارس للفلسفة الإسلامية، واشتهر بكتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية». وهذا ما لم يفعله يوسف كرم الذي أجرى مراجعة واسعة للفكر الفلسفي الحديث والقديم, مقدما إياه للقارئ والدارس بأمانة مشهود لها. إنهما مساران، فلسفة إسلامية مفترضة يراد إعادة إنتاجها، وفلسفات غربية أغلبها مجهول، والمعلوم منها قرئ وفق رواية الفلاسفة المسلمين. وبالرغم من كثرة رواد مدرسة «الفلسفة الإسلامية» لم تستطع أن تكون الأبرز في القرن العشرين من مدارس «الفكر الفلسفي» داخل أوساط النخبة. لقد بقيت في حدود إعادة إنتاج الفلسفة الإسلامية القديمة نفسها، وهو جهد يبدو منسجمًا مع البنية الدراسية الدينية، لكنه يعجز عن مجاراة التطور الحداثي الذي أنتجه العصر الحديث.

ولا تمتلك الفلسفة الإسلامية هوية خالصة، والدين فيها لا يمثل عمودها الفقري، هي مجموعة فلسفات أضفيت عليها شرعية دينية. إنها تلاقح فلسفتين عقلانية يونانية مترجمة بأخرى شرقية إيرانية أو هندية. وإعادة تأهيل هذه الفلسفة ليست سوى تأهيل لمحاولة تاريخية كتب لها النجاح في حدودها وإطارها وظرفها، ومن غير المنطقي أن يعاد الدمج بين فلسفتين غير موجودتين اليوم؛ فاليونانية خضعت للنقد وإعادة النظر، والأخرى روحانية تغيرت كثيرًا بفعل عوامل التصوف والتداخل بالديانات الأخرى. ومحاولة يوسف كرم والنخبة المعاصرة له تبدو أكثر جدوى، على اعتبار أن هناك فكرًا وفلسفة لم تقترب منهما الثقافة العربية أو تتثاقف معهما. وهي إضافة إلى هذا ولدت على ركام وتفكيك الفلسفة اليونانية التي يتمسك بها الفكر الفلسفي الديني.

إن الفلسفة الغربية تشكل مساحة مهمة في ثقافة تلك البقاع وفي عموم الحضارة الحديثة، ودراستها شرط للتواصل الثقافي مع الآخر. وما تحتاج إليه من صناعة واقع افضل وبناء التغيير وإجراء الإصلاح يكمن في هذا التواصل، خصوصًا أننا نتحدث عن بيئة عربية افتقرت إلى وجود العقل والفلسفة في بنائها المعرفي خلال القرون الأخيرة السابقة للقرن العشرين، والأسماء التي عرفتها الفلسفة الإسلامية في الفترات العثمانية لم تكن عربية ولم تؤثر في الثقافة العربية، هي تنتمي لشرق دجلة، لذلك فإن ما حققه يوسف كرم مهم من إحضاره الفلسفة الغربية، خصوصًا أنه لم يكن وحده، بل العديدون رافقوه في رسم ملامح الانطلاقة.

تيار كامل.. ولد

ظهر بالتزامن مع يوسف كرم وبعده بعقد من الزمن باحثون ومفكرون ومترجمون ساهموا في إغناء المكتبة العربية بما يمكن تسميته «فضاء التواصل الفلسفي» مع الحضارة الحديثة. وربما يصح وصف هذه النخبة بالتيار، لأنها تقريبًا لعبت دورًا موحدًا، هو وضع المنجز الفلسفي الحديث بين يدي القارئ بشكل عام والمشتغلين في الفلسفة بشكل خاص.

من أسماء هذا التيار زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وعادل العوا وأحمد فؤاد الأهواني وأنطون مقدسي وفؤاد زكريا وآخرون. هم جيل ظهر في الربعين الأول والثاني من القرن الماضي، ليرسموا «المشهد الفلسفي والفكري» للنصف الثاني من القرن العشرين. وعملية التواصل الفلسفي كانت بحاجة إلى ألفة العقل العربي لها بعد قرون من القطيعة وغياب التأسيس وهيمنة «الخطاب الديني البياني» عليه، هذا الجيل له الفضل في صناعة هذه الألفة. وبمعزل عن توصيف هؤلاء والجدل حول كونهم فلاسفة أو باحثين في الفلسفة، فإن ما قاموا به يمثل إبحارًا جديدًا وتيارًا أنشأ حركة أكاديمية فلسفية في المشرق العربي.. وهي تمثل المرحلة الأولى من تأسيس فلسفي وفكري مازال في بداياته حتى الآن.

وبالرغم من عمق الأفكار التي تعامل معها مؤسسو حركة الترجمة والتواصل الفلسفي مع الغرب، فإننا نجد مفكرًا مهمًا مثل زكي نجيب محمود يخاطب القارئ العادي من خلال الصحف والمجلات وطرح العديد من الآراء الفلسفية. فظهر متلق يتابع الأفكار المعقدة بلغة سلسة ومفهومة. والكثير من المتلقين قرأوا مقالاً أو دراسة لزكي نجيب محمود في المجلات العربية التي كان يطل منها بلغة أنيقة وسهلة.. هذا الدور الذي لعبه محمود مع القارئ يختلف أحيانًا عما أنتجه المفكر والمترجم المجايل الآخر عبدالرحمن بدوي، حيث قام الأخير بترجمة العديد من كتابات الفلاسفة الغربيين، وتأليفه مجموعة من الكتب المتخصصة ذات لغة ليست بسلاسة طرح زكي نجيب محمود وأيضًا لم تكن بصعوبة الفلسفة المعهودة. لقد قدم بدوي الكثير من الترجمات والكتب والبحوث للقارئ المختص، وبقي في الأكاديمية الفلسفية العربية حلقة وصل رئيسة لدراسة المنجز الفلسفي.

لذلك كل مفكر في هذا الجيل استخدم أدواته الخاصة للتعامل مع مرحلة جديدة ولدت من رحم ما يعرف بـ«النهضة العربية» أو «التنوير العربي»، وهي فترة انتعشت بشيء من الليبرالية. يوسف كرم ترك أثرًا حاول فيه إجراء مسح حول أهم التيارات والمدارس الفلسفية في أوربا واليونان، ليساعد القارئ على فهم سلسة حركة الأفكار الفلسفية في الحضارة الغربية الحديثة. زكي نجيب محمود وضع الفلسفة في ميزان القراءة اليومية للمتلقي العربي إضافة إلى أعماله الفكرية والفلسفية الجيدة التي أنتجها كمؤلفات لاتزال ذات قيمة. وعبدالرحمن بدوي أغنى المكتبة العربية بكتابات فلسفية وترجمات مهمة ليجد القارئ المتخصص ما يمكن أن يساعده.

وتمثل هذه الأسماء المصرية العمود الفقري لحركة «معرفة المنجز الفلسفي». وهذا لا ينفي وجود مشابهين في بلدان عربية أخرى، ربما تكون سورية هي الأهم بينها. فإلى جانب هذا الجيل في مصر كان هناك جيل آخر في سورية من أهم رموزه عادل العوا وأنطون مقدسي، وهذان الباحثان أصبحا مرجعًا لتدريس الفلسفة في الجامعات والمدارس السورية، من خلال التأليف والترجمة.

بيت الحكمة.. وجيل القرن العشرين

وأيّا كان رحم الولادة، فإن القارئ العربي في أي مكان وجد بابًا معرفيًا جديدًا يفتح أمامه. وببعض المقاربات والمقارنات يمكن اعتبار ما حصل مطلع القرن العشرين مع الفلسفة العالمية مشابها لما جرى في «عصر الترجمة»، الذي مثل شروعًا بتواصل «فلسفي» ومعرفي مع الآخر الغريب. ويمكن القول بأن هناك عصرين للترجمة أو بتعبير أدق لـ«التواصل الفلسفي» مع الخارج، الأول بدأ في القرن التاسع الميلادي بعد إنشاء «بيت الحكمة» الذي عهد إليه ترجمة العديد من الكتب اليونانية والرومية والفارسية والهندية إلى اللغة العربية، وبعد استقدام المكتبات الرومية وترجمتها بعقدين أو ثلاثة ظهر أول المشتغلين بالفلسفة وهو الكندي. واتسعت تدريجيًا دائرة المتكلمين والفلاسفة. لتصل أخيرًا بفيلسوفيها المهمين الفارابي وابن سينا إلى حجمها الذي توقفت عنده في المشرق الإسلامي.

السلطة وولع المأمون العباسي بالمعارف أوجدا ذلك الفضاء. ولدت الترجمة وبعدها الشروح الفلسفية، لتبلغ ولادة «الفيلسوف» في ذروتها. وبعد أكثر من اثني عشر قرنًا ولد عصر التواصل الثاني، من خلال الترجمة والشروح ومراجعة سلسلة الأفكار الفلسفية في الحضارة الأخرى. هذه المرة ليس من خلال دور السلطة، بل بدور نخبوي أسهم في قيامه وتطوره حراك إصلاحي و«ليبرالية محدودة» للفضاء السياسي، لكن الفيلسوف لم يولد بعد لدى العرب.

لماذا لم يظهر الفيلسوف؟

في «الترجمة الأولى» استفاد المسلمون من منجز الآخرين لتطوير خطابهم «العقلاني» وصناعة صراعهم الثقافي.. وما كان الصراع لينتقل من صراع فقهي مجرد وسياسي مؤطر بالدين إلى صراع ثقافي بين تيارات مثل المعتزلة والأشاعرة إلا بعد أن دخلت هذه الترجمات حيز التأثير وشكلت ما عرف بعلم الكلام وأصبحت الفلسفة صنعة إسلامية. وحتى التصوف لم يتطور لولا دخول روحانية الشرق القديم إلى المسلمين. وظهر الفيلسوف والمتكلم في مراحل متقدمة. والعامل الأساس لذلك كان اطلاع النخبة المفكرة في المجتمع المسلم على ما ترجم من أعمال سابقة، والشروح التي أنجزت لتلك الترجمات. ربما ساعدت قوة الحضارة الاسلامية حينها على تطور الفلسفة والعلوم الأخرى. وهذا ما افتقر إليه العالم العربي في بدايات القرن إلى الآن، لكن من المؤكد أن القوة والضعف ليسا دائمًا هما العامل الوحيد في بناء الثقافة أو انهيارها، هناك أيضًا الرغبة في صناعة واقع مهم ومتقدم وبناء وجود جديد.

هذه الرغبة الجدية توافرت وصنعت حضورًا للفلسفة في بعض الأوساط. وتحقق بالفعل الكثير حتى الآن، فالمكتبة العربية تمتلك حصيلة جيدة من الترجمات والشروح والبحوث المرتبطة بالفلسفة، والجامعات تمتلك أرقامًا لابأس بها من الدارسين، لكن من الصعب توصيف أحد المفكرين العرب الموجودين اليوم بـ«الفيلسوف». هناك مفكرون، بعضهم من العيار الثقيل والمؤثر. فالتواصل صنع حضورًا إلا أنه لم يصل إلى مستوى يحقق بيئة متكاملة تولد عقلاً فلسفيًا وفق أسس حديثة وأدوات معاصرة، بل أحيانًا ينتاب المتابع شعور بأن مهمة الجيل الأول كانت لابد أن تستمر بالطريقة ذاتها وعدم الاستعجال بطرح مشاريع فلسفية أو فكرية خاصة بالباحث العربي، وإن كان القارئ العربي بحاجة إلى الإلحاح مع العوامل التي شتت اهتمامه.

لكن هذا لا يدعو للتشاؤم أو فقدان الأمل. لأن سمة العصر في العالم كله تراجع فيها زخم الفلسفة، أو تغيرت أدواتها وموضوعاتها واهتماماتها، ففلاسفة القرن العشرين ليسوا فلاسفة بالمعنى التقليدي الذي درج عليه رجال الفلسفة الحديثة والقديمة. واعتماد الحضارة البشرية على الحركة الفلسفية السابقة ما عاد كما كان. طبيعة الفلسفة واشتغالاتها باتت مختلفة، أصبحت أقل تجردًا، وأكثر صلة بالحدث بما يجري على الأرض. اللغة حاضرة اليوم في مناهج الفلسفية من خلال التيارات المعاصرة. أصبحت الفلسفة المعاصرة تدرس تاريخ التعذيب والسجون، تاريخ الجنون، الهموم اليومية، الجنس، التعايش والتسامح. كتبت عن تاريخ السرد..

ما عادت قضية الوجود والموت وأصل البشرية والغيب والصورة الشاملة عن الحياة هي شاغلها الوحيد.

النخبة «الفكرية» العربية ليست بعيدة عن هذه الأجواء، إنما أصبحت مذ ذاك التواصل جزءا منها. فهذا الطابع الجديد نجده لدى أسماء ظهرت في الخمسين سنة الماضية، وهي نخبة أخرى جديدة اشتغلت فكريًا في مجالات عدة. إنه جيل آخر من المفكرين ما كان ليظهر لولا دخول الفلسفة الحديثة إلى الثقافة العربية من خلال نوافذ يوسف كرم ومجايليه، فولادة الفكر وتطوره لن تكون عملية منقطعة عما سبقها، هي بنت تدرج محدد تفرضه شروط التاريخ والتطور الفكري لأي مجتمع أو للبيئة الحاضنة، حتى وإن كانت هذه البيئة نخبوية وليست اجتماعية واسعة النطاق.

وفرضت تحديات الواقع العربي أو الإسلامي نمطًا من الاشتغالات ليست هي نفسها الموجودة في دول المنشأ الفلسفي المعاصرة. هناك مشكلات أخرى مختلفة عن العالم المتقدم، من أهمها قضايا مثل العلاقة بالتراث الذي مازال يتحكم بالفرد والمجتمع، والموقف من الغرب اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، ودور المثقف والانتلجنسيا العربية... وكنموذج أن المفكر العربي المعاصر لجأ إلى اللسانيات الحديثة التي استخدمت في الغرب فلسفيًا ليتعامل مع النصوص الدينية ويعيد قراءتها. في حين أن هذه اللسانيات وضعت لتقرأ فيها النصوص الأدبية.

لذلك يمكن القول إن هناك جيلاً يمثل فكرًا يرتبط بشكل أوآخر بالجيل الأول. في الشروح والترجمة يبرز أمثال إمام عبدالفتاح إمام الذي اشتغل في المجال ذاته الذي اشتغل عليه أساتذته. وفي الاشتغالات الفكرية الأخرى التي استخدمت فيها مناهج الفلسفة والنقد الفكري المعاصرة يمكن القول بوجود حزمة الأسماء المهمة مثل نصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وحسن حنفي وعبدالله العروي وأدونيس... حتى محمد أركون يظل ضمن الجو العام المتوافر لطرح مشروعه في نقد التراث، بالرغم من أنه فرنسي النشأة والتكوين.

إن تأسيس الفلسفة ربما يحتاج إلى مزيد من الألفة والاعتياد، وبيئة أفضل مما عليه المجتمع العربي. قد يستدعي إرهاصات وتحولات وشجاعة مفقودة، غير أن المؤكد أن فضاء ساهم جيل التواصل الفلسفي الأول في صناعته، في هذا الفضاء تصبح الفلسفة أحد مناهج صناعة المعرفة، ولأن العالم تطور خلال القرن الماضي لدرجة كبيرة، فالحاجة تبقى ماسة لمزيد من التواصل «فلسفيا»، بانتظار ولادة «الفيلسوف».
----------------------------------
* كاتب من العراق.

 

 

عمار السواد*