جنكيزخان من رجل القبيلة إلى رجل الدولة

جنكيزخان من رجل القبيلة إلى رجل الدولة

من الصعب العثور على اسم زعيم مغولي استطاع توحيد القبائل المغولية قبل جنكيزخان، ويؤكد ذلك رشيدالدين الهمذاني بقوله: «إن مجموع أقوام الأتراك والمغول لم يكن لهم مطلقًا ملك قهار، جبار يستطيع أن يحكم هذه الطوائف، فكان أفرادها يتنازعون ويتصارعون، ويحاربون بعضهم بعضًا، وبالرغم من أنه كان لكل قبيلة ملك أو أمير، فإن أفراد هذه القبيلة كانوا لا يخضعون له، ولا يأتمرون بإمرته»، ويذكر فؤاد الصياد أن زعيمًا أخضع قبائل المغول والتانجوت من سنة 304-315 هـ/916-927م. وكان يدعى «تاي تسو» وكانت أسرته تلقب «لياؤو» وبقيت هذه الأسرة تحكم هذه القبائل طيلة قرنين من الزمن حتى سنة 519هـ/1125م.

لم يستطع أحد أن يجمع تلك القبائل بعد هذا التاريخ، سوى شاب مغولي، زعيم إحدى القبائل، ويدعى تيموجين، والذي عرف فيما بعد بجنكيزخان، وقد ذكر ابن خلدون نسبه قائلاً: جنكز بن بيسوكاي بن بهادر ابن تومان برتيل خان بن توفيه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا ابن مودنجه».

ويضيف ابن خلدون، أن مودنجة هي جدة آل جنكيزخان، وأنها حملت بعد وفاة زوجها، فاتهمها أقرباؤها بارتكاب عمل شائن، إلا أنها ذكرت لهم «أنها رأت نورًا دخل فرجها ثلاث مرات وطرأ عليها الحمل بعده، وقالت لهم إن في حملها ثلاثة ذكور، وظهرت براءتها بعد أن وضعت ثلاثة توائم، كانوا يطلقون عليهم اسم النورانيين نسبة إلى النور الذي ادّعته، ولذلك يقولون جنكيزخان ابن الشمس». وقد تكون هذه القصة المزعومة عن أصل الخان الأكبر للمغول من نسج الخيال وقد وضعت مع غيرها من القصص نقلاً عن التاريخ السري للمغول لوضع هالة من القداسة حول جنكيزخان، في مجتمع كان يفتقد فيه إلى الحكم القوي الصارم الذي يسيرون وراءه. وبالعودة إلى أصل جنكيزخان، فإن أجداده كانوا من الأمراء، وكان نفوذهم يشمل بعض القبائل المغولية، وهذا النفوذ كثيرًا ما كان يضعف في بعض الحالات نتيجة للصراعات التي كانت تقوم بين أفراد هذه القبائل حين وفاة أحدهم.

وينقل أن كابل خان أحد أجداد جنكيزخان، قد نظم هذه القبائل المغولية أو بعضها في حلف مفكك ضعيف، انتهى مع مقتل كابل خان نتيجة لصراع هذه القبائل مع التتار الذين أخضعوا مناطق المغول وبسطوا نفوذهم عليها. إلا أن حفيده المدعو يسوكاي (ورد أن يسوكاي كان أميرًا على 13 قبيلة تحت رعاية الخان الأكبر أونك خان «الصرفي، تاريخ دول الإسلام: 2،762») استطاع أن يرأس إحدى هذه القبائل، ويواجه التتار في أكثر من معركة. وينقل الصياد في كتابه أن يسوكاي كان رئيسًا لقبيلة «قيات» من قبائل المغول، وكانت شهرته وبسالته قد ذاعت بين الأقوام المغولية، وكان يتعرض لمضايقات من التتار، ومن إمبراطور الصين الذي كان يفرض الخراج على القبائل المغولية، وعندما حاول الإمبراطور الصيني القضاء عليه عبر بعض الجماعات، أخضعهم يسوكاي لنفوذه.

نساء مغوليات

وكان ليسوكاي نساء عدة، أبرزهن كانت «أولون فوجين» وقد أنجبت له أربعة أولاد هم:

1- تيموجين، أكبرهم، وهو المعروف باسم جنكيزخان.
2- جوجي قسار.
3- قاجيون.
4- تمواتجكن.

وينقل أن ولادة الابن البكر كانت أثناء عودة يسوكاي من إحدى معاركه مع التتار، حيث قُتل أحد زعمائهم ويدعى تيموجين، فلما علم بولادة زوجته، أطلق على ولده اسم تيموجين تيمنًا بالقائد التتري. وقد كان مولد تيموجين كما نقل المؤرخ العريني سنة 550هـ/1155م. بينما يورد آخرون أنه ولد سنة 563هـ/1167م.

وعندما بلغ تيموجين الثالثة عشرة من عمره، مات يسوكاي مسمومًا بيد بعض التتار الذين كان يتناول معهم طعام العشاء. وذلك انتقامًا من غارة كان قد شنها عليهم يسوكاي من قبل. وبعد موته، بدأت القبائل التي كانت تخضع له بالتخلي عن الولاء لتيموجين، وأخذت كل منها تعلن التمرّد، والانضمام إلى قبائل التايجوت التي كانت تكن البغض لأرملة يسوكاي وأولاده، فاضطر تيموجين وأفراد عائلته أن يعيشوا حياتهم معتمدين على صيد السمك وجمع التوت البري في ظروف قاسية وصعبة، وكثيرًا ما كانت تتعرض هذه الأسرة وبعض من بقي معهم من أتباع إلى هجمات هذه القبائل وكانوا يأسرون تيموجين ويعذّبونه، ثم يعود ويخرج من جديد. وهذه الظروف والأوضاع الحياتية الصعبة جعلت من تيموجين رجلاً حديدي الإرادة، وضعّف مجهوده ومقدرته من أجل تخليص قومه من الاضطهاد والبؤس. وخلال تلك السنوات الصعبة ، تعلّم تيموجين فنون القتال والصيد، وظهر نبوغه، وكان يؤمن بأن البقاء للأقوى، كما جمع حوله عددًا من الأتباع وذلك تبعًا لمقولته:

«إن مَن يقدر على حفظ نظام بيته يقدر أيضًا على إقامة النظام في إمبراطوريته، ومَن يستطع قيادة عشرة رجال على وجه حسن، يمكن أن يعهد إليه أيضًا بقيادة ألف رجل وعشرة آلاف رجل».

هذا الصعود المتواصل لتيموجين، دعمه زواجه من ابنة زعيم القنقرات «وهي قبيلة مغولية كانت تنزل بالقرب من نهر كيرولين - العريني»، وقوى سلطته بعد استمالة كبار رجال قبيلته، وإخضاع المعارضين له، حتى أكّد زعامته تمامًا عليها وهو في سن السابعة عشرة. ولكي يزيد من نفوذه السياسي أعلن الولاء لزعيم الكرايت تغرل، الذي كان أبوه ميسوكاي قد ساعده على البقاء في عرشه من قبل. وفي ذلك يورد ابن خلدون «وكان من خاناتهم «المغول» ملك آخر اسمه دوشي خان، كان متزوجًا بزوجة جنكيزخان، توافقت مع حضور جنكيزخان يوم وفاة زوجها، فولّته مكانه وحمّلت قومها على طاعته». وهكذا تأمنت زعامة تيموجين فتشجع عندها على إخضاع القبائل المجاورة وخصوصًا التايجوت التي أمعنت في اضطهاده عندما كان ضعيفًا، فأخضعها سنة 584هـ/88م. وقضى عليها. هذا النفوذ الواسع الذي اكتسبه تيموجين، دفع بالبعض ممن يحيط بزعيم قبيلة الكرايت المغولية طغرل خان بافتعال الفتنة بين الزعيمين، وأمام هذه الوشايات، بدأ طغرل بالعمل على وضع الخطط للتخلص من تيموجين، إلا أن هذا الأخير كشف المؤامرة عبر غلامين يعملان لدى طغرل، وفي اللحظة المناسبة نجا تيموجين وعائلته وأتباعه في حين قتل طغرل بعد معركة عنيفة وقعت بينهما سنة 599هـ/1202م، ليخرج تيموجين من هذا الانتصار كزعيم لا يُقهر. فاندفعت القبائل المغولية على تقديم فروض الولاء والطاعة للزعيم الجديد، خصوصًا تلك القبائل الضعيفة التي كانت تبحث عن مَن تلتجئ إليه ليحميها ويذود عنها خطر القبائل الأخرى. أما القبائل القوية المدعومة من زعيم قبيلة النايمان المغولية المسيحية تايانك خان، الذي أحس بخطر قوى مغولية معارضة لسلطته، عمل على حشد قوة كبيرة، انضمت إليه قبائل مختلفة من المغول. فساءهم ما وصل إليه تيموجين من قوة لتقع معركة بين الطرفين سنة 600هـ/1203م، تنتهي بمقتل تايانك خان، وإخضاع النايمان ومَن ساندهم. بعد هذا النصر جمع تيموجين رؤساء القبائل التي أخضعها في احتفال كبير «مجلس النبلاء»، أو ما يعرف عند المغول باسم «القوريلتاي» على ضفاف نهر أونون «وهو نهر يقع قرب عاصمة منغوليا الحالية أولان باتور» سنة 600هـ/1203م. وفي هذا الاحتفال أعلن الشامان الأعظم: «يا أخوتي قد رأيت في منامي كأن رب السماء على عرشه الناري تحدق به الأرواح، وقد أخذ بمحاكمة أهل الأرض، فحكم أن يكون العالم كله لمولانا تيموجين، وأن يسمى جنكيزخان «أي الملك العام أو الملك الكبير الأبدي ثم تطلع الشامان نحو تيموجين ثم قال: لبيك أيها الملك، فإنك تدعى منذ الآن جنكيزخان بأمر الله». بعد ذلك مباشرة أعلنت القبائل المغولية التي كانت تنتظر وتراقب الأحداث الداخلية في البيت المغولي، الولاء للملك الجديد ومنها بعض الأويغوريين، والقارلق، والمالق، والقرغيز. ولم يتبق أمام جنكيزخان إلا مواجهة أسرة كين الصينية، فأنزل بها الهزيمة سنة 612هـ/1215م. ولم يستطع الصينيون من استعادة سلطتهم إلا في عهد أوكتاي خان ابن جنكيزخان فيما بعد. وقد كان للتوسع الذي حققه المغول، والسيطرة على الحضارات المجاورة والمتطورة بالنسبة لحضارتهم، أن تطورات حياتهم، فاستخدموا البارود والحرير في صنع الخيام. وبعد إضعاف سلطة ملك الصين الذي كان يتدخل في شئون قبائل المغول، بدأ جنكيزخان يخطط لمهاجمة المناطق الغربية من منغوليا والصين حتى بحر أورال، وكانت هذه المناطق تخضع للقراخطائيين تحت زعامة ملكهم كورخان، وقد تحوّلت منطقته إلى مكان يلتجئ إليه الفارون من جنكيزخان، ومن بينهم ابن ملك النايمان المهزوم كوجلك خان. وقد استطاع هذا الأخير من إعادة جمع قواته المشتتة، وانقلب على حاميه بدعم من حمد خوارزمشاه «حاكم الدولة الخورازمية وهي تقع على حدود دولة الخلافة العباسية» الذي كان يعارض كورخان، ويعمل للسيطرة على أملاكه، ونجح الاثنان في مسعاهما، فقتلا زعيم القراخطائيين، وسيطروا على أملاكه سنة 609هـ/1212م. فظهرت عندها دولة جديدة على حدود العالم الإسلامي.

العبادة بين الاضطهاد والحرية

وقد تميز حكم كوجلك بالظلم والاضطهاد للقوميات والأديان، وقد عانى المسلمون كثيرًا هذا الاضطهاد حيث فرض عليهم التخلي عن ديانتهم، كما قتل عددًا من أئمة المسلمين منهم الإمام علاءالدين محمد الختني «وهو من بلاد تركستان». إلا أن جنكيزخان، وبعد أن تفرغ للمناطق الغربية من مملكته وأدرك ما وصل إليه كوجلك من نفوذ وسطوة، أرسل له أحد قواده «جبه نويان»، الذي سيطر على مناطقه، وأعاد حرية العبادة للسكان المحليين، وقضى على النايمان سنة 615هـ/1218.. فأصبح عندها جنكيزخان على حدود العالم الإسلامي والدولة الخواززمية، التي كان يعول عليها صد هجمات المغول، إلا أن هذه الدولة أضحت تعاني تفككًا داخليًا ظاهرًا، فوالدة السلطان محمد «توركان خاتون» كانت تتدخل في شئون الدولة، ولم تكن العلاقة بينها وبين ولدها جيدة، كما أن الخلاف وصل إلى طبقة رجال الدين الذين كانوا يشعرون باللامبالاة من جانب السلطان الذي استخدمهم كوسيلة شرعية لتحقيق مآربه السياسية والدنيوية. يضاف إلى ذلك البغض الشديد الذي كان يكنه سكان المناطق التي تخضع لنفوذ الخوارزميين نتيجة الظلم الذي عانوه من تصرفات جنود السلطان وقياداته. هذا عدا ما وصلت إليه الدولة العباسية من ضعف وهوان وتشتت للهيبة والسلطان، نتيجة لاعتمادهم على ما تبقى لهم من قوة في مواجهة بعضهم البعض.

جنكيزخان والتنظيم الإداري والسياسي

تميّز جنكيزخان بالدهاء، والحنكة السياسية، كيف لا وقد استطاع أن يوحد مجموعات من القبائل المتصارعة، فيحوّلها إلى قوة عظيمة لا يستهان بها، ومعظم المؤرخين المسلمين نقلوا صورة عن جنكيزخان أظهرته كشخص متوحش، سفّاك للدما، ولكنها لم تعط صورة واضحة وحقيقية عن هذا الزعيم الإداري، والسياسي، وقائد الدولة، العطوف على قواده. وفي ذلك ينقل الصياد في كتابه، أنه وخلال إحدى المواجهات التي وقعت بين جلال الدين منكبرتي حاكم الدولة الخوارزمية وأحد قواد المغول. المدعو «قوتونويان» انتصر الأول عليه فعاد القائد المغولي خائبًا وأخبر جنكيزخان بما حصل معه، فأجابه الخان وبكل هدوء: «أن قوتونويان تعوّد أن يخرج من كل معركة ظافرًا منتصرًا، ولم يذق طعم الهزيمة قط، وأنه لاشك سوف يأخذ حذره، ويحتاط أكثر من ذي قبل بعد هذه الهزيمة».

هذه المعنويات التي قدمها جنكيزخان إلى قائده، وهذا الأسلوب في التعاطي مع جنوده وشعبه، زادته قوة، ودفعت بالجند المرافق له أن يكونوا من الإقدام والاندفاع الذي تعجز عنه الجيوش الشديدة التنظيم، فهم يجدون أنفسهم تحت قيادة زعيم مخلص، محب، عطوف، شجاع، حريص على اختيار المحيطين به، يكره الخيانة، حتى ولو كان من أحد أتباع أعدائه، فهو يؤمن بأن الذي يخون يومًا ولي نعمته، قادر على أن يخون غيره، لذلك كان يعاقب الخونة إلى أي جهة انتموا. كما تميز بدفاعه عن الضعفاء والمحتاجين، فهو لم ينس عندما كان يومًا مضطهدًا، وحيدًا مع عائلته بعد مقتل والده يسوكاي، وهو لذلك كان يتأثر بشدة عند رؤية الضعفاء، لذلك نجده يساعد ويحمي أسرة زعيم التانجوت الذي قتل من النايمان لمساندته جنكيزخان، كما أنه بسط حمايته وعطفه على القبائل التي انتصر عليها من الخطا والأيغور، كما عطف على أرملة الأمير الخيتائي «بليوليوكو» الذي قتل في إحدى المعارك مع الخوارزميين، ورعى أولادها، كما عمل على الاستفادة من خبرات الشعوب المتحضرة التي وقعت تحت سيطرته، فاتخذ من مختلف الأعراق والديانات مستشارين له، كان يلجأ إليهم عند الحاجة. ومن هؤلاء البعض من التجار المسلمين الذين اتصلوا به منذ بداية صعود نجمه، وأبرزهم جعفر خوجا، دانشمند الحاجب، وغيرهما ممن كان يشكل صلة وصل بينه وبين أصحاب مواقع الحضارات الإسلامية التي كان يتصل بها. وينقل أن أحد هؤلاء، ويدعى محمود الخوارزمي، كان رسولاً منه إلى خوارزمشاه حاكم الدولة الخوارزمية. كما اتخذ مستشارين آخرين: مثل تاتا تونجا من الإيغوريين، ولي ليوتشوتساي من الصينيين، وغيرهما من المثقفين والعلماء الذين شكلوا نواة الإدارة المغولية الأولى المنظمة. وكان تاتا - تونجا مستشارًا لآخر ملوك النايمان، وقد عمل بعض أن أخضع لجنكيزخان على تعليم أولاده الإيغورية. أما يي ليو تشو تساي فكان حاكمًا على مدينة بكين الصينية، وعند سقوطها في يد المغول سنة 612هـ/1215م. وقع في الأسر، إلا أن جنكيزخان أعاد إليه حريته، وجعله مستشارًا له، وولاه بعض المناصب في الدولة كي يستفيد من خبرته. وقد كان ليوتشوتساي دور في إنقاذ العديد من المدن الصينية من التدمير والقتل.

وقد لعب هؤلاء المستشاون دورهم في تغيير آراء جنكيزخان وبعض نواياه، وإنقاذ آلاف، بل وملايين الأرواح من القتل في بعض الأحيان. ومع هؤلاء المستشارين، كان لقانون اليسق دوره أيضًا في حفظ النظام والقضاء على كل فوضى، صحيح أنه كان قانونًآ صارمًا، لكنه وحّد القبائل المغولية ضمن مبادئ جمعت كل القوميات والقبائل، وليس تحت لواء زعماء أو أشخاص متفرقين، قد ينهون كل ما بناه وبسرعة. وهكذا حقق الأمن والسلام في ربوع إمبراطوريته التي امتدت حتى حينه من بكين إلى بحر قزوين، هذا الأمن الذي فتح الطريق التجارية على مصراعيها من دون خوف، فنشطت حركة التجارة، واتسع نطاقها، وتطورت الحياة مع دخول القوميات والعناصر المتحضّرة ضمن الإمبراطورية الواحدة.

الجيش

يعتبر الجيش المغولي بتقسيماته إنجازًا مهمًا لجنكيزخان، فقد أنشأ حرسًا خاصًا ظهر كقوة كاملة وتامة العناصر عام 603هـ/1206م. حيث بلغ عديد هذا الحرس حوالي عشرة آلاف رجل، كانوا يشكّلون طبقة خاصة داخل الإمبراطورية، وكان الجندي الواحد في هذه الطبقة له رتبة تميّزه عن بقية الجند وقادتهم، ومن هؤلاء شكّل جنكيزخان مجموعة من ألف رجل تم اختيارهم بعناية ليعملوا على خدمة جنكيزخان ومرافقته في تحرّكاته، وخصوصًا أثناء الحروب. وكان السلاح عند جنكيزخان محدودًا، ولكن قواته تحولت بحكمته وبساطته كزعيم كبير إلى جيش قوي مدرّب، مؤلف من الخيالة والرماة والجنود المتعودين على القساوة. وعمل على تنظيم قواته تبعًا للنظام العشري، فالفصيلة الواحدة تتألف من عشرة أفراد، أما المجموعة فمن مئة عنصر، والفرقة من عشرة آلاف. كما ركّز على إلغاء التراتبية القبلية التي كانت تفتت المغول، فاختار العناصر المؤهلة من كل القبائل المغولية القادرة على القيادة وتحمل أعبائها، متخليًا عن زعماء القبائل. فألغى القبيلة داخل الجيش، فالجندي لم يعد يعمل تحت لواء قبيلة، بل مزج بين أفراد القبائل في بوتقة الجيش، للعمل في سبيل الإمبراطورية المغولية. كما شدد على تدريب الجند ضمن حملات الصيد، التي كان يختبر فيها الجندي كل أنواع الأنظمة العسكرية، لتأهيله كي يصل إلى أرض المعركة وهو متأهب تمامًا للقتال. وأفضل صورة عن الجندي المغولي ينقلها ابن الأثير قائلاً: «ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات، لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من الخارج. ولم يكن جنكيزخان ليرضى عن أي تجاوز قد يرتكبه جنوده، وخصوصًا عصيان الأوامر، لما في ذلك من خطر على وحدة الإمبراطورية المغولية. ويذكر الذهبي في كتابه عن حوادث سنة 525هـ/1130م: «إن فرقة من التتار قد أبعدهم جنكيزخان وغضب عليهم فقصدوا الري وهزموا خوارزمشاه مرتين، ثم أصبهان، فغلبهم خوارزمشاه، وساق خلفهم إلى الري قتلاً وأسرًا، ثم أتته رسل من القان «جنكيزخان» بأن هؤلاء أبعدهم فاطمأن لذلك وعاد إلى تبريز». وهكذا نجد أن الخان الأكبر بعدما غضب على مجموعة من جنوده تخلى عنهم ولم يأبه لأوضاعهم، وهو يظهر لبقية الجند المصير الذي سوف يلاقونه في حال خالفوا أمره، أو تخلوا عن واجباتهم، فالنظام العسكري كان دقيقًا، وعلى الجندي أن يحرص على الالتزام به، وإلا فإن ذلك سينعكس عليه سلبًا. وقد تميز الجيش المغولي أيضًا بسرعة الحركة، والتأهب لأي وضع وفي أي ظرف كان، لذلك فإنهم كانوا ينزلون الرعب بأعدائهم الذين كانوا يتفاجأون من سرعتهم قبل أن يتأهبوا لملاقاتهم. فجنكيزخان كان يهتم بعنصر المباغته والضربة السريعة والقوية التي تقضي على قوة أعدائه فلا تسمح لهم بالتحرّك، وهو بذلك كان يعتمد على نظام الجواسيس لمعرفة وضع أي منطقة قبل مهاجمتها ودراستها بدقة.

بذلك استطاع جنكيزخان من بناء الدولة المغولية من مجموعة قبائل متصارعة حولها بالقوة حينًا، وباللين أحيانًآ على نواة دولة توسع نفوذها من الصين شرقًا إلى البحر الأبيض المتوسط غربًا، كما أسقطت إمبراطوريات وممالك حكمت مئات السنين، ليبدأ عصر جنكيزخان.
--------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

طارق شمس*