من المكتبة الأجنبية: قناص الصور

من المكتبة الأجنبية: قناص الصور

عرض: أحمد حسن*

هي المرة الأولى، كما أعتقد، أن يُعرض بالمكتبة الأجنبية لمجلة العربي كتاب إلكتروني، مثلما هي المرة الأولى أيضًا التي يتم تناول كتاب لم ينته مؤلفه منه بعد! هذه هي قصة كتاب (SHOOTER) أو قناص الصور - كما اقترحه عنوانًا - للمصور، أو رجل الكاميرا البريطاني الأشهر بوب دورتو.

أحداث الكتاب تصور فصولاً من حياة مصور فوتوغرافي مستقل كان يستدعى لتصوير الحروب، على الأغلب، خلال السنوات الثلاثين الماضية في أكثر من 90 بلدًا لجميع شبكات التلفزيون الكبرى الدولية، مثل «إي بي سي»، و«بي بي سي»، و«سي بي سي»، و«سي تي»، و«بي سي»، و«سي بي اس»، يتطرق فيها، بلغة رجل كان في صميم الحدث، إلى أيام يكتنفها الجنون، ولحظات تغلفها المغامرة. هكذا سيتطرق إلى عض الثعابين السامة له في تايلاند، وإطلاق النار عليه في بيروت، ودخوله حقل ألغام في فيتنام، ومشاركته بهجوم جوي على الفيتكونغ، وتغطيته لزلزال المكسيك، وعلاجه لدى الأطباء السحرة في غانا، وتفسير لعدم شرائه لوحة أصلية لفنان البوب آرت آندي وارهول بمائة دولار فقط! ولا ينسى أيضًا أن يأتي على ذكر تهديد وكالة المخابرات المركزية له،وكثير مما جرى له في بلفاست، وهايتي، وزفاف الأمير تشارلز إلى ديانا، واغتيال الرئيس المصري السادات، مع حفنة من نجوم السياسة والمجتمع: مارجريت تاتشر، ريكس هاريسون، جولي أندروز، تشارلتون هيستون، روجر مور، وبالطبع فرانك سيناترا.

صورة فرانك سيناترا

كان المطرب الأشهر معبود الفتى الصغير، لأنه بالنسبة إليه - آنذاك - كان يرمز لجيل بوب دورتو كل ما هو أمريكي وبراق. من بنساته التي كان يدخرها يسعى لشراء أسطواناته، وأصبح من طقوس أيام السبت لبوب وأفضل أصدقائه، جوردون. يداومان الذهاب إلى متجر الموسيقى، فيسمعان الأسطوانات الأربع كحد أقصى مسموح به قبل شراء أسطوانة، يتناوبان على سماعها حتى تصبح خدوشها أكثر إزعاجًا من صوت المطرب الشهير. حتى أن سيناترا حين زار لندن، وقطعت الكهرباء عن المسرح، أتيح لهما أن يتقدما الصفوف ليكونا أمام قدمي المطرب الذي يغني بدون ميكرفون، باردًا ووحيدًا، وهي الصورة التي حبستها المخيلة لعقود، قبل أن تتاح له فرصة أن يصور فيلما في جبال الألب عن سيناترا نفسه، وحينها يفاحأ بصلافة المطرب، الذي لا يرى من حوله، ولا يعنى بهم، لأنهم تحت إمرته!

ذهب إليه المصور الشاب يسأله:هل تستطيع أن توفر 20 دقيقة نجلس معًا أسألك بضعة أسئلة وترد عليها لأضعها في الفيلم الوثائقي؟

نظر إليه سيناترا شذرا، وأمره أن يعد جملا يقرأها! وبعد محاولات مضنية لتحضير البطاقات الفاخرة التي أتى بها المصور بطائرة هليكوبتر من ميلانو إلى الموقع الجبلي الثلجي النائي وعليها رسمت الجمل بحروف نقشتها الموظفات في الموقع، لم يشأ سيناترا أن يقرأها، وطلب من بوب أن يلقي بالبطاقات من فوق الجبل!

مدفع في بيروت

في أتون الحرب الأهلية، يسافر بوب إلى العاصمة اللبنانية بيروت. يقول لزوجته كارولين: «الجميع ذهب لتغطية الحرب في بيروت، وقد حان دوري». وحين يطلب من محطة إيه بي سي نيوز إدراج اسمه على لائحة المهمات القادمة إلى هناك، يطلبون منه الاستعداد للسفر في الغد، مع فني صوت، هو فيلاديمير بينسكي.

كانت بيروت تشبه للجميع حديقة الجثامين، لكثرة ما بها من قتلى ومفقودين. وقد تم تقسيمها إلى معسكرين بينهما «الخط الأخضر» وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد بدأ غزوه قبيل بضعة أيام، فكان على المصور ورفيقه أن يبرزا عند كل بوابة تصريح مرور مناسبا لكل فئة متحاربة. يقول بوب إنه كان يسأل السائق عن هوية التفتيش، فالجميع بالنسبة إليه متشابهون وهم مدججون بالسلاح. ولدى كل نقطة يسحبون صورتين أو ثلاثًا، وبدأت صور بوب الخمسون تنفد كلما زاد عدد الاستمارات التي يملأها. تعلم السائقون، مع طول الحرب، كيف يحسبون الوقت المسموح لهم للمرور بين القذائف المتقطعة، والانتظار حتى اللحظة المثلى قبل الإنطلاق والإسراع والتوقف.

تحاصرهم شرذمة من جنود الاحتلال الإسرائيلي، فيمد يده إلى جيبه ليأتي بالتصريح المناسب، فقد نال زميل له علقة لأنه أخطأ في نوع التصريح الضروري عند نقطة تفتيش. رفض طلبه بأن يصور من على مبنى عال، فقال لهم وهو يشعر بجرأة: «أنا من ايه بي سي نيوز وأود أن أذهب إلى أعلى المبنى لأصور من هناك، فالكثير من الكلام يثار حول قيامكم بقصف مخيمات اللاجئين..».

وكانت النتيجة طرد بوب وصاحبه، فبحثا مع سائقهما عن مبنى عال، وصعدا على الأقدام لعدم وجود كهرباء، وبدآ في التقاط المشاهد الحية، بالصورة والصوت، وفجأة بدأت المدفعية تستهدفهما، فقد كان حامل الكاميرا في نظر أحد أصحاب الرشاشات في بناية مقابلة بمنزلة مدفع!

اغتيال السادات

في غرف الأخبار كانت العبارة التي حركت الجميع، داخل المؤسسة الصحفية:

«تم اطلاق النار على الرجل الذي فاز بجائزة نوبل للسلام في عام 1978، لإحلال السلام بين مصر وإسرائيل خلال عرض عسكري في القاهرة».

بعد دقائق كان قرار سفر بوب، الذي عاد إلى منزله في ويمبلدون، قبل أن ينطلق إلى مطار هيثرو للحاق بطائرة مستأجرة. وفي مطار هيثرو كان الجميع كأنهم يستعدون للسفر إلى مصر، المنتجون، والمراسلون، والمصورون، وفنيو الصوت، ومحررو الشرائط، ومديرو التنفيذ.

بعد عبور جمارك مطار القاهرة، ذهب الفريق إلى مكتب إيه بي سي،حيث وقفوا جميعًا يشاهدون شريط اطلاق النار الذي سجله مصور ايه بي سي نيوز في مصر، فابريس موسوس، الذي أدنى كاميرته من السماء، حيث كان يراقب سرب طائرات العرض، إلى حيث انطلق الدخان والرصاص، ونزع آلة التصوير من حاملها وجرى بها نحو المنصة، وخلفه مهندس الصوت، إلى حيث السادات ومن معه قد جلسوا بعد أداء التحية العسكرية. بدا لفرقة الاغتيال أن آلات التصوير تتجه نحوها، فبدأوا تصويب السلاح نحو طاقم التلفزيون مع نية واضحة لقتلهم كذلك، فتكوم فابريس وصحبه خلف ساتر صغير، لكن الكاميرا كانت لا تزال تدور من فوق الحاجز. كان المشهد خليطا من الرعب والفوضى، أجزاء وأشلاء، وكتل بيضاء ملطخة بالدماء، كان الرصاص قادرًا على تدمير كل شيء. نقل جسد الرئيس السادات إلى سيارة إسعاف اتجهت إلى المستشفى، وارتجفنا ونحن نشاهد أن الشريط انتهى.

تم القبض على المصور، الذي فاز لاحقا بجائزة بوليتزر، بسبب جرأته على مواصلة التصوير، وسافر في وقت لاحق جوا إلى ABC في نيويورك ليتلقى التهنئة.

بدأ بوب يلتقي بالمارة، ويصور ويسجل، ولكن حين جاء موعد صلاة الجنازة منعه الحراس، من الدخول مع رفاقه. ذهب إلى مدخل المسجد حتى يتمكن من الحصول على وجوه حشود المصلين. بدأ بالتركيز على الوجوه. بدأ السائق ينادي عليهم بالعودة إلى السيارة، حين بدأ حشد من الأمن يطاردهم بسبب ما قاموا بتصويره. وتكرر الأمر في الجنازة التي لم يكن مسموحًا فيها لغير التلفزيون المصري، ولكن بوب قال للحراس إن معه تصريحا من الجنرال رومانزالة! فسمحوا له بالبقاء، وهم يعتقدون أنه أخطأ اسم مانح التصريح، وهو ما منحه فرصة تصوير مسيرة الجنازة بالكامل لجميع من حضروها!

فوق جبال فيتنام

كان بوب جالسا في فندق فاخر وسط مدينة تورونتو ينتظر إنطلاق مهمة ستذهب به إلى أمريكا الجنوبية، لكن مراسل القناة الإخبارية «سي بي سي» جاءه يعرض عليه السفر إلى فيتنام. كانت صورة العاصمة الفيتنامية سايجون حالمة، كما في الأفلام الروائية، رغم الحرب، فالكل كان يعلم أن الحرب في الجبال، أو هكذا كانت على الأقل حين وصل إليها بوب.

هناك بدا المشهد مختلفا مع سائقي الريكشا نحيلي الأجساد يجرون جنديًا أمريكيًا بدينًا فوق عربتهم اليدوية، لكن المساء والعشاء فوق المطاعم العائمة كان بمنزلة مكافأة يومية للمصور وصاحبه المراسل حين يعودان من الجبال بفضل تصريح استخدام الطائرة الهيلكوبتر التي تمنحهما الأولوية للتحليق، ولا يتقدمهما في تلك المرتبة سوى الجرحى!

ثم تأتي دعوة لتصوير فيلم عن معسكر أمريكي فوق جبل «نوي با دن» أو «جبل العذراء السوداء» وهو اسم لأسطورة عن أميرة ذهبت إلى المعبد للحصول على مباركة قبل زواجها فأكلها هناك نمر!

كان للقوات الخاصة الامريكية نقطة على القمة للاتصال، وكانت المنحدرات حول تلك النقطة مغطاة بغابات كثيفة وبساتين فاكهة وأسراب من القردة، تتقافز فوق الأشجار المحيطة بمقر المنشأة الذي شيد خلال أيام الاستعمار الفرنسي. لم تعد هناك نمور تلتهم أميرات، بل جنود مرتزقة من كمبوديا، وأرتال من العسكر الأمريكيين.

يقول بوب: «كنا ننام في المعبد القديم على القمة، والألغام والذخائر تحت الأسرة، ونتابع باستمرار الضربات الجوية كل يوم، وتفجير المنحدرات التي تثبت عناد المقاومة ضد الأمريكيين».

مع نهاية الفيلم، يعود بوب إلى سايجون، ويستعد للذهاب إلى مطعمه المفضل، ليدرك أنه تم تفجيره بأربع عبوات ناسفة قبل مجيئه. لو لم يرض بالذهاب إلى الجبل لكان قد لقي حتفه هناك. كانت سايجون قد فقدت هدوءها للأبد. ولم يعد إلا بعد رحيل المحتلين.

صفحات لا تنتهي، بالفعل، من مشاهد ورؤى حول حياة بوب دوتروـ المصورة والمدونة على موقعه. فصول بدأها ولم ينهها بعد. إنها المرة الأولى أيضا التي يتابع فيها القراء نشر تعليقاتهم قبل أن يقوم المؤلف بنشر كتابه، وهي صورة عن العهد الرقمي الذي نعيشه، وقدم لنا كتاب «قناص الصور» زاوية رؤية له.
-----------------------------
* كاتب من مصر.

 

تأليف: بوب دوترو