اللغة حياة.. قد نستعمل أحيانًا ما لا نفهم

 اللغة حياة.. قد نستعمل أحيانًا ما لا نفهم

في كثير من اللغات، وربّما فيها كلّها، استعمالات شائعة يستخدمها الإنسان بصورة عفويّة، حتّى إذا سألتَه عن معناها قلب شفتيه. والحقيقة أنّه يدرك معناها بصورة مبهمة، كجزء من سياق عامّ، وربّما فاته ذلك المعنى.

من ذلك فعل «نَوَّهَ»، فكثير من الناس يستعملونه بمعنى أَشارَ، ويُعَدَّونه لذلك بالحرف إلى، فيقولون، مثلًا: نوّهَ فلانٌ إلى الموضوع، مع أنّ هذا الفعل يدلّ على الارتفاع، وقد استُنبطتْ من هذه الدلالة معان مجازيّة؛ فإذا قيل نوّه به أو بذِكره، كان المعنى: رفعَ صوتَه باسمه أو بما يَعْرِفُه عنه، ثم صار رفْع الصوت بالاسم تعريفًا للناس بالمسمَّى، ثم صار التعريف مدحًا، وكأنّ رفع الصوت في هذه الحالة ضرب من المباهاة. والحقيقة أنّ مثل قولهم: نَوَّهَ إلى الشيء، قد يُحتمل، لأنّ فيه شيئًا من التضمين، سواء قبلناه أم رفضناه، ومعناه: أشار إلى الموضوع بنوع من التقدير، وإن لم يشأ المتكلّم ذلك؛ لكنّه يصبح قبيحًا حين يُستعمل بضدّ معناه المتعارف، فيبدو استعارة تهكميّة، وهو غير ذلك، كأن يقال: نوَّهَ الخطيبُ إلى كذب مُسَيْلِمة. فلقد يُتسامح في استعمال عبارة نوّهَ إليه، بمعنى أشار إليه، إذا كان المشار إليه شيئًا حسنًا، لأنّ في رفْع الصوت بالاسم إشارة إلى صاحبه، لكنّ الأمر لا يُقبل إذا كان المشار إليه مذمومًا.

ومن ذلك ما نستخدمه من عبارات الاتْباع، وهي مركّبات مزجيّة، مثل «حَيْصَ بَيْصَ» (بلغاتها المختلفة)، ولاسيّما أنّ الجزء الأوّل من تلك المركّبات يكون مفهومًا، في الغالب، ويكون الجزء الثاني إكمالًا له في السجع، وغالبًا ما يكون بلا معنى. فكلّنا يعرف أنّ عبارة «حَيْصَ بَيْصَ» تدلّ على الحَيْرة والارتباك، لكنّ المعاجم تفسّر الجزء الأوّل منها بما يُشعرك بانتفاء العلاقة بينه وبين تلك الدلالة؛ إذ يجعلون لحَيْص معنى الحَيْد ومعنى الفرار ومعنى المراوغة. والطريف أنّ الاستعمال العاميّ أقرب صلة بالعبارة؛ فالحايص، بالعاميّات الشاميّة، يعني الباحث محتارًا عن شيء ما، أو غير المستقرّ في مقعده فهو يهمّ بالقيام والخروج مرارًا، ولعلّ هذه اللغة ممّا أغفلته المعاجم، أو لعلّها لغة مُماتة. حتّى إذا بلغت المعاجمُ الجزء الثاني من التركيب وهو: بَيْص، بدا الأمر أدعى للعجب، لأنّ معناه عندهم هو السبق والفرار (والفرار مشترك بين الجزءين). وهناك معنيان من معاني حَيْصَ بَيْصَ ذكرهما اللغويّون قد يقوداننا إلى المعنى الحقيقيّ للعبارة، هما: جُحر الفأر، والشيء الضيّق؛ ومعروف أنّ جحر الفأر ضيّق وقد يكون متعدّد السراديب، فهو شبه متاهة ضيّقة، ولعل أصل معناه الضيّق، أو لعل معنى الضيّق آت من صورة الجحر، ولهذا فإنّ من يقع في حَيْص بَيْص فكأنّه يقع في متاهة وضِيق، فهو يحار كيف يخرج منهما، لكنّ المستعمل لا يلجأ إلى هذا التحليل المتعب، بل يعوّل على العفو من المعنى، وعلى ما يوحيه السياق.

ومن الأوهام الشائعة تصوّرهم لسيف النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ذي الفَقار، الذي غنمه يوم بَدْر، وقاتل به يوم أُحُد، والذي يقال إنّ عليًا (رضي الله عنه) غنمه يوم بدر وسلّمه للنبيّ؛ ويزعم ياقوت في معجم البلدان أنّ عليًا هدم صخرة مَناة التي كان يعبدها عدد من القبائل ويحجّون إليها، وأخذ ما أُهدي إليها، ومن ذلك سيفان لأحد ملوك غسّان، أحدهما ذو الفَقار، فأعطاه إلى النبيّ (صلى الله عليه وسلم)، فوهبه النبيُّ له من بعد، وذلك سنة ثمان للهجرة. ويقال إنّ عليًا وجد السيف في الفُلُس، صنم طَيِّء. وقد آل السيف إلى ذريّة عليّ، فلمّا قَتل المنصورُ العباسيّ النفسَ الزكيّة الطالبيّ سنة 145 هـ، دفع النفسُ الزكية السيف إلى تاجر وأوصاه ببيعه لأيّ رجل من آل البيت، فبلغ ذلك عاملَ المدينة العباسيّ فسارع إلى شرائه، ثم أخذ الخليفةُ المهديّ ذلك السيف من العامل، وظلّ العباسيّون يتوارثونه حتّى عهْد الرشيد على الأقلّ.

لكنّ المشكلة ليست في تاريخ ذي الفَقار ومصيره، بل في صورته التي يتخيّلها كثير من الناس؛ فهم يحسبونه ذا رأسين، وقد مثّله بعض الرسامين كذلك، وجعلوا الإمام عليّا (رضي الله عنه) يحمله ممتطيًا فرسه - على كراهية تشخيص الصحابة بالفنون التشكيليّة والتمثيليّة، ونعتقد أنّ أوّل من شخّصهم العجم. بمعنى أنّ الناس توهّموا أنّ معنى الفَقار في السيف هو الرءوس المتعدّدة. ومعروف أنّ الفَقار - وأجاز بعضهم كسر الفاء - جمع فِقْرة أو فَقْرة أو فَقارة، وهي الخرزة من صُلب الإنسان أو الحيوان. وشكل الفقرة معروف فهي نصف دائريّة في قسمها العظميّ الصلد، ومفرغة في مجرى المُخّ أو النِقْي، أي المادة السائلة اللزجة. وفي طرفي المجرى شعبتان عظميّتان قوسيتان، يلتقي رأساهما من الجهة الأخرى المخالفة للجزء الصلد. ويفهم من المصادر أنّ ذلك السيف سمّي ذا الفَقار لأنّهم حفروا على صفحته ثماني عشرة فقرة. ولعمري كيف كان سيبدو ذلك السيف لو رسمه الرسّامون وله ثمانية عشر رأسًا؟ حتّى المذراة لا يكون لها هذا العدد من الأطراف. والظاهر أنّ سيف النبيّ (صلى الله عليه وسلم) لم يُفرد بحفر الفَقار عليه، بل يبدو أنّ ثمّة طرازًا من السيوف على تلك الشاكلة؛ ففي كتاب الحيوان للجاحظ رثاءٌ قيل في الفارس الجاهلي عُتيبة بن الحارِث بن شِهاب، يفهم منه أنّ قوم الحارث كان لهم سيف اسمه ذو الفَقار، وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أنّ مَرْثَد بن سعد لحق ابن أخيه الشاعر الجاهليّ المشهور عَمْرو بن قَمِيئة بسيفه ذي الفَقار، لاتّهام زوجة مرثد لذلك الشاعر بمراودتها عن نفسها. وقد تسمّى الجاهليّون بذي الفَقار، لكن ليس لصورة الفقار فيهم، بل لأنّ العبارة كناية عن القوة، على ما يرجح عندنا.

ولا ندري من أين جاءت الناسَ فكرة الرءوس المتعدّدة، ربّما من فهمهم المغلوط لحلم النبيّ (صلى الله عليه وسلم) قبل أُحد، إذ رأى في المنام سيفه ذا الفَقار ينقصم من عند ظُبته، أي يتكسّر طرفُه، فكان تأويل ذلك مقتل حمزة (رضي الله عنه) في تلك المعركة. لكنّ الكسر غير الشقّ، ولا يمكن لعليّ (رضي الله عنه) أن يبقي السيف مكسورًا ويقاتل به، ولا شيء يشير إلى أنه جعله برأسين.

مهما يكن منّ أمر فإنّ المستعمِل قد يسمع أو يقرأ عبارة أو لفظًا لا يعرف معناه، ولو كان لغويًّا، فيتخيّل له معنى من سياق الجملة؛ وبقدر نقاء سليقته، وقدرته في كيمياء اللغة، يكون قربه من المعنى الصحيح أو بعده منه، وهذا من أسباب الأخطاء الشائعة، وهي كثيرة جدًّا، وقد فرض بعضها نفسه حتّى أُقِرّ.
---------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى عليّ الجوزو*