جمال العربية: من بستان الشعر الأندلسي.. ابن خفاجة نموذجًا

جمال العربية: من بستان الشعر الأندلسي.. ابن خفاجة نموذجًا

في بستان الشعر الأندلسي نلتقي مع إبداع مغايرٍ لإبداع شعراء المشرق العربي، ومع مذاق مختلف لباقة من كبار الشعراء الأندلسيين الذين أضافوا ثروة ضخمة من تجليّات العربية والشعر العربي، وقدّموا لقارئ الشعر ومتذوِّقه، فنونًا شتَّى من الابتكار والافتنان، وطرائق مختلفة في التعبير والتصوير، وتجسيد موقف الشاعر الأندلسي من الإنسان والطبيعة والكون. في مقدمتهم: ابن زيدون وابن خفاجة وابن حمديس وابن سهل وابن دراج وغيرهم من شعراء الأندلس الكبار.

من بين كل شعراء الأندلس، أطلق الأندلسيون على شاعرهم ابن خفاجة لقب الجَنَّان، وصنوبريَّ الأندلس؛ لأنهم رأوا فيه اتجاهًا إلى جماليات الكون، وانجذابًا شديدًا إلى المناظر الطبيعية، واهتمامًا بتأمُّل عناصر الطبيعة يصوِّرها ويُشخِّصها ويقيم علاقة شعورية معها، وبخاصة أن مولده كان في بلدة تقع شرقيّ الأندلس تسمى جزيرة شُقْر، سنة أربعمائة وإحدى وخمسين هجرية، في أسرة ذات ثراء ومنزلة عالية في المجتمع، الأمر الذي أتاح للشاعر - عندما شبّ - أن يتلقَّى علوم عصره - وفي مقدمتها اللغة والأدب - على عددٍ من كبار مؤدِّبي عصره، فنشأ محبًا للأدب نثره وشعره، لكن موهبته واستعداده وتكوينه وجّهه إلى عالم الشعر والشعراء، وبخاصة شعراء المشرق من أمثال: الشريف الرضي ومهيار الديلمي وعبد المحسن الصوري، كما وجّهته النشأة في جزيرة شقر إلى تنمية نزعته الأدبية والشعرية وإلى شعر الطبيعة - الذي سيصبح علَمًا عليه ورمزًا للنبوغ والتفوّق فيه - يفوق سائر شعراء عصره.

والمتابعون المتذوقون لشعر ابن خفاجة، يلفتهم انعكاس ميل الشاعر إلى اللهو والأخذ بمتع الحياة في شبابه على شعره، حتى إذا ما تقدم به العمر، تغير مسلكه، وأخذ يتجه إلى الاستقامة التي تقترب من الزهد. فاتسع شعره - في هذه المرحلة - إلى كثير من التأمُّل، وبخاصة في مفارقات الحياة، وحتمية الموت، ومحاسبة النفس على ما اقترفت في زمن الصبا والشباب. وزاد من وطأة هذه المشاعر في المرحلة الأخيرة من حياته أنه عاش حياته منفردًا، دون زواج. فلم يكن إلى جواره الصوت الآخر الذي يسعفه بالإيناس من قبضة الوحشة، وبالمؤازرة الإنسانية والوجودية في أوقات السأم أو التشاؤم، أو الشعور بالوحدة والعزلة، وهو الذي امتد به شريط الحياة حتى توفِّي في بلدته شقْر سنة خمسمائة وثلاث وثلاثين هجرية، عن اثنين وثمانين عامًا.

ومن بين شعر ابن خفاجة - الذي نتخيره للبدء به من بين أوراق بستان الشعر الأندلسي - نتوقف عند واحدة من قصائده المعبرة والناطقة بألوان إبداعه الشعري، وتحليقه في فضاءات مختلفة للقصيدة تضمّ جوانب تأملية فكرية ومشاهد طبيعية وملامح من شعر الحكاية والقصص، يرفدها جميعًا فيض من زاد التجربة والإحساس.

يستهل ابن خفاجة قصيدته بالحديث عن ولعه بالارتحال - حتى وإن كان مجهدًا - وشغفه بالسفر والتنقل - حتى وإن كان شاقًا -، لأن في تكوينه نزعة الاكتشاف والرغبة في التعرُّف على ما هو جديد من البقاع والأماكن وبخاصة في مشرق الأندلس. حتى إذا ما استوقفه واحد من جبال الأندلس الشمّ التي تجاور البحر، الواقعة في جنوبيّ الأندلس، أو في بلاد المغرب، وجدناه يتواصل مع هذا الجبل الذي تحوّل في إحساس الشاعر إلى كائن حيّ يتكلَّم، وتجري الحكمة على لسانه، ويتدفَّق حديث هذا الجبل في بناء هذه القصيدة ليضفي عليها جمالاً غير معهود في شعرنا العربي من قبل.

يقول ابن خفاجة:

بعيشك هل تدري أهوج الجنائب
تخُبُّ برحْلي، أم ظهورُ النَّجائبِ؟
فما لُحْتُ في أولى المشارقِ كوكبًا
فأشرقتُ، حتى جُبْتُ أُخرى المغاربِ
وحيدًا تهاداني الفيافي فأجتلي
وُجوهَ المنايا في قناعِ الغياهبِ
ولا جار إلا من حُسامٍ مُصمّمٍ
ولا دار إلا في قتُودِ الرّكائبِ
ولا أُنْسَ إلا أن أضاحكَ ساعةً
ثغورَ الأماني في وجوهِ المطالبِ
بليلٍ إذا ما قلتُ قد باد فانقضى
تكشّف عن وعدٍ من الظنِّ كاذبِ
سحبْتُ الدّياجي فيه سُودَ ذوائبٍ
لأعتنق الآمالَ بيضَ ترائبِ
فمزّقتُ جيْبَ الليل عن شخصِ أطلسٍ
تطلَّع وضّاحَ المضاحكِ قاطبِ
رأيت به قِطْعًا من الليل أغبشًا
تأمّلَ عن نجمٍ توَقَّد ثاقبِ

وحين نصحب الشاعر في المقطع الثاني من قصيدته، الذي يصوِّر تأملات ابن خفاجة في الحياة والناس، نفاجأُ فيه بأنّ الجبل كائن حيّ يتكلّم بالحكمة في صورة الشيخ الوقور المعمَّم، فيدهشنا هذا الموقف الشعري وهذه الصورة الشعرية التي تفرّد بها ابن خفاجة، حين يقول:

وأرعنَ طمّاحِ الذؤابةِ باذخٍ
يطاولُ أعنانَ السماءِ بغاربِ
يسدُّ مهبَّ الريح عن كلِّ وجهةٍ
ويزحمُ ليْلاً شُهْبَهُ بالمناكبِ
وقورٍ على ظهر الفلاة كأنه
طَوَالَ الليالي مطرقٌ في العواقبِ
يلوثُ عليه الغيْمُ سُودَ عمائمٍ
لها من وميض البرقِ حُمْرُ ذوائبِ
أصخْتُ إليه وهو أخرسُ صامتٌ
فحدَّثني ليلُ السُّرى بالعجائبِ
وقال: ألا كمْ كنتُ مَلْجأَ فاتكٍ
وموطنَ أوّاهٍ تبتَّلَ تائبِ
وكم مرَّ بي من مُدلجٍ ومُؤوِّبٍ
وقال بظلِّي من مطيٍّ وراكبِ
ولاطم من نُكْبِ الرياح معاطفي
وزاحم من خُضْرِ البحارِ جوانبي
فما كنتُ إلا أن طوتْهم يدُ الرَّدى
وطارت بهم ريحُ النَّوى والنوائبِ
فما خفْقُ أيْكي غيرُ رجَفْةِ أضلُعٍ
ولا نوْحُ وُرْقي غير صرخةِ نادبِ
وما غيّض السُّلوانُ دمعي وإنّما
نزفْتُ دموعي في فراقِ الأصاحبِ
فحتَّى متى أبقى ويظعن صاحبٌ
أُودِّعُ منه راحلاً غيْرَ آيبِ؟1
وحتى متى أَرْعَى الكواكبَ ساهرًا
فمنْ طالعٍ أُخرى الليالي وذاهبِ
فرُحماكَ يا مولايَ دعْوةَ ضارعٍ
يمدُّ إلى نُعمْاكَ راحةَ راغبِ

وأجمل ما في صورة هذا الجبل - كما صوّره ابن خفاجة - أن الجبل وهو يتحدَّث عن نفسه يشير إلى جمعه بين العديد من المتناقضات، فهو مأوى لقاتل سفاح، وملاذٌ لمؤمن مُتبتِّل منقطع للعبادة، وهو موضع يمرُّ به من يسير في ليل أو نهار، ويستظلُّ به - من يلوذ به - من الراكبين والسائرين ومعهم مطاياهم التي تحملهم وتنقلهم. وكم صادمته الرياح العنيفة، وزاحمته البحار العميقة الصافية، التي تبدو - لصفائها - كأنها خضراء، ولقد ذهب هؤلاء جميعًا وكأنهم صفحة طوتها يد الموت، أو طارت بهم ريح الأحداث والمصائب إلى كل مكان وموضع.

وفي صفحة أخرى من ديوان ابن خفاجة، نجد صورة شعرية بديعة لحنين ابن خفاجة وهيامه وشوقه إلى بلدته شُقْر في شرقيّ الأندلس، بين شاطبة وبلنسية، وهي تقع على نهر يحمل اسمها ويكاد يطوّقها، وعندما يشير الشاعر إلى نهريْها فهو يريد جزأي النهر اللذين يطوقانها ويجعلان منها شبه جزيرة.

يقول ابن خفاجة - كما يقول دارسو شعره - في التعلُّق بالموطن وألم الاغتراب عنه:

بين شُقْرٍ وملتقى نهريْها
حيث ألقت بنا الأماني عصاها
ويغني المكّاءُ في شاطئيها
يستخفُّ النهي فحلّت حُباها
عيشة أقبلت يُشهَّى جَناها
وارفٌ ظلُّها لذيذٌ كَراها
لعبت بالعقول إلا قليلا
بين تأويبها وبين سُراها
فانثنيْنا مع الغصونِ غصونًا
مَرَحًا في بطاحها وربُاها
ثم ولّت كأنها لم تكد تلبـ
ـثُ، إلا عشيةً أو ضُحاها
فاندب المرْج فالكنيسةَ فالشطَّ
وقل آهِ يا مُعيد هواها
آه من غُربةٍ ترقرقُ بثًّا
آه من رحلةٍ يطول نَواها
آه من فرقةٍ لغير تلاقٍ
آه من دارٍ لا يجيبُ صداها
لستُ أدري ومدمعُ المزنِ رطبٌ
أَبَكَاها صبابةً أم سقاها؟
فتعاليْ يا عينُ نبْك عليها
من حياة إن كان يغني بكاها
وشبابٍ قد فات إلا تناسيـ
ـه، ونفْسٍ لم يبْقَ إلا شجاها
ما لعيني تبكي عليها، وقلبي
يتمنّى سوادُهُ لو فداها

البحر الموسيقي الذي اختاره ابن خفاجة لقصيدته هذه - وهو بحر الخفيف - من البحور المناسبة لحمل شحْنة الانفعال والامتلاء بالأحاسيس والمشاعر المرتبطة بالغربة والشوق والحنين، كما أنّ قافيتها - والهاء الممتدة المطلقة - تُلائم التعبير عن الحزن والشكوى، وكأن القافية هنا شبيهة بآهة طويلة أو صرخة جريحة. من هنا، يتضح سبب هذا التأثير الوجداني للقصيدة في المتلقي - قارئًا أو مستمعًا - فموسيقاها وإيقاعاتها: وزنًا وقافية ذات تأثير واضح، متناغم مع الجوّ الذي تشيعه القصيدة في أبياتها الثلاثة عشر، ممتلئًا بالشجن والأسى والحسرة والافتقاد.

ذلك أن بستان الشعر الأندلسي - في معظم قصائده التي أبدعها شعراؤه الكبار - فيه الكثير من العزف على الوتر الإنساني العام، عندما اقتربت هذه القصائد من فضاءات الطبيعة والحب وحقائق الكون والنفس الإنسانية، والكثير من تجليات العاطفة السامية - باعتبارها عواطف نبيلة خيرة، ومشاعر عميقة صادقة - والكثير من بدائع التصوير الفني وفن التصوير في لوحات حية نابضة، شديدة الترابط والإحكام، تمثُّل وحدة فنية مع غيرها، ولا تحمل تناقضًا أو غرابة مع غيرها.

وفي هذا البستان أيضًا الكثير من الأفكار الناضجة، والتجارب العميقة المؤثرة، والمعاني الأصيلة المبتكرة، التي ازدهرت في مجتمع مفتوح، لا قهر فيه ولا أسوار على العقل أو العاطفة، ولا تقييد لفكر أو خيال. للشاعر أن يقول ويبدع ويصوِّر، لا يخشى عنتًا يواجهه، أو أسوارًا تحدّه وتقف في طريقه، وتحول بينه وبين حرية الإبداع، والاسترسال على هواه، صانعًا - على عينيه - نموذجه الشعري المتفرد، بعيدًا عن أي تقليد أو متابعة، في إطار من جمال البناء الذي يتَّسع لروعة المحتوى، ويتوافق معه، ولا يحدّ من انطلاقه وتحليقه، ونشر جناحيْه في كل صوب.

وهي بعض سمات هذا الشعر، في بستانه الأندلسيّ البديع، عند واحد من أبرز أعلامه ومبدعيه: ابن خفاجة، الذي يبقى أن يقال عنه في باب الإفراد والتمايز إنه قَصَر شعره على عواطفه، واهتزازات وجدانه، فلم يمدح أحدًا، في عصر امتلأ بالشعراء المدّاحين طلبًا للكسب أو المثوبة أو الجاه، أما هو فقد أغناه جاهه، ومكانته في أهله وقومه، وثروته التي تنعّم بها طيلة حياته، أغناه هذا كله عن الوقوف بأبواب الأمراء والممدوحين، والانخراط في درب طلاب الحاجات من الشعراء، وبقي شامخًا مرفوع الرأس معتزًّا بشعره وعدم احتياجه، تاركًا لعواطفه العنان في كل ما يتصل بالشاب الذي أغوته ملذّات الحياة ومباهجها فاغتنمها في سنّ الصبوة والاغتنام، ثم تملَّكه الزهد والعزوف والتأمُّل في سن النضج والحكمة والاحتشام، فكان صادقًا في الحاليْن، تقوده مشاعره يوم كان لها السبق والتوهُّج، وتئوده الحكمة عندما بدأ يستشعر أثقال العمر وتجاعيد الزمن وراحة الزهد والاستغناء.

 

 

فاروق شوشة