اللغة حياة: التعريب الضارّ

يلتقط بعض الناس، ولاسيّما رجال الإعلام، بعض المصطلحات من نصوص أجنبيّة فلا يكلّفون أنفسهم عناء ترجمتها، بل يسارعون إلى تعريبها، وكأنّ القارئ أو السامع يعرف الكلمة الأجنبيّة ولا يحتاج إلى غير سماع ما يقارب لفظها عربيًّا ليدرك معناها؛ أو كأنّ المتلقّين كلّهم يعرفون جميع اللغات وأنّ ثمّة آليّة بسيطة هي نقل النصوص بألفاظها من لغة إلى أخرى حتّى تصل الرسالة واضحة إليهم؛ والأدهى من ذلك أن يكون التعريب تخفّفًا من عبء البحث عن مفهوم المصطلح الأجنبيّ، واختصارًا للوقت والجهد، بحيث يبقى المرسِل والمتلقّي معًا جاهلَيْن لذلك المفهوم. وكم من مصطلح معرّب سقط وحلّ محلّه المترجَم، مثل طراغوذيا وقوموذيا اللتين حلّ محلّهما كلمتا مأساة وملهاة.

ومن ذلك استعمالهم لمصطلح الصواريخ البالِسْتيّة؛ فيخبرونك، مثلًا، عن إطلاق الهند لصاروخ بالِسْتيّ تجريبيّ قادر على حمل رأس نوويّ، وعن نجاح روسيا في إطلاق صاروخ بالِسْتيّ جديد بعيد المدى قادر على اختراق الدروع الصاروخيّة، وعن أنّ إيران طورت بنجاح نسخة جديدة للصاروخ البالِسْتيّ فاتح 110، وعن أنّ باكستان أطلقت بنجاح صاروخًا بالِسْتيًّا متوسّط المدى، إلخ. وتسمع تلك الأخبار ولا تكاد تفهم منها شيئًا. أنا شخصيًّا، على الأقل، لم أكن أفهمها، على معرفتي غير الرديئة لبعض اللّغات الأجنبيّة. وأعترفُ أنّني كنت أحسب أنّ للكلمة علاقة بمادّة البلاستيك الصناعيّة، وأنّني عانيت مدّة لا بأس بها في استكشاف طريقة كتابتها الأجنبيّة لأستطيع البحث عنها في المعاجم، ذلك لأنّه لم يقدَّر لي أن أقرأها في وسائل إعلام أجنبيّة، فأنا لا أكاد أقرأ من الصحف في هذه الأيام إلاّ الصحف العربيّة. وقد اكتشفت بعد لأي أنّ الكلمة منسوبة إلى (Baliste) (Ballista) ذات الأصل اللاتينيّ، وأنّ هذ ا الأصل مأخوذ من كلمة يونانيّة مشتقّة من فعلٍ يعني قَذَفَ، وأنّ تلك الكلمة اليونانيّة تدلّ على آلة حربيّة قديمة ثابتة تستعمل لقذف الحجارة الكبيرة والسهام لمسافات بعيدة نسبيًّا، وتشبه المَنْجَنيق عند العرب - والمنجنيق نفسه معرّب من لفظ Manganon اليونانيّ أيضًا -فالصاروخ الموصوف بالبالِسْتيّ هو الصاروخ المقذوف من منصّة لمسافة بعيدة، والمعتمِد في حركته على الجاذبيّة الأرضيّة، وهو يقابل صاروخ كروز (Cruise)، أي الجوّال، الصغير الحجم، والمعتمد على محرّك نفّاث. فما ضرّ الإعلاميّين لو ترجموا مصطلح Missile Balistique Ballistic Missile إلى «صاروخ مَقْذوف»، وجعلوا لما يسمّى صاروخ كروز ترجمة عربيّة أيضًا هي «الصاروخ النفّاث»؟ أوَلا يقرّبون المعنى بذلك إلى فهم المتلقّي، وربّما إلى أفهامهم كذلك؟

ومن ذلك أيضًا استعمالهم لصفة لوجِسْتيّ. فيخبرونك، مثلًا، أنّ تحويل مرفق قناة السويس إلى مركز لوجِسْتيّ عالميّ أصبح ضرورة قصوى؛ وأنّ الرئيس فلانًا اتّهم إحدى الدول بتقديم دعم لوجِسْتيّ للمعارضة المسلّحة، وأنّ دولة حليفة لذلك الرئيس طلبت من دولة أخرى دعم جيشه لوجِسْتيًّا وعسكريًّا في مواجهة تلك المعارضة؛ وأنّ وزير دفاع أوربيّ قد أعلن استعداد بلاده لتقديم دعم لوجِسْتيّ في حال تدخّل عسكريّ محتمل شماليّ إحدى الدول الإفريقيّة؛ وأنّ خبيرًا بالشئون الصهيونيّة اعتبر العمليّة النوعيّة التي قامت بها طائرة الاستطلاع أيّوب، حين اخترقت دفاعات العدوّ انطلاقًا من لبنان، اختراقًا لوجِسْتيًّا عسكريًّا لصلب قوّة العدوّ نفسه؛ وأنّ ولاية الخرطوم وافقت على توفير دعم لوجِسْتيّ لقطاع النقل العامّ والنظافة والمرور باستيراد أكثر من مئتي حافلة ومئة وخمسين آليّة مختلفة للنظافة، من الصين، إلخ.

ولا شكّ في أنّ أكثر الناس لا تدرك المعنى الذي لصفة لوجِسْتيّ، والّذين يدركونه ينقسمون بين مدركين له إدراكًا مبهما وإدراكًا واضحًا؛ والذين يستعملون تلك الصفة لا يستعملونها بطريقة واحدة وبصورة دقيقة دائمًا. ولذلك نجد على صفحات الإنترنت أسئلة عن معناها، أو تبرّعًا بشرح ذلك المعنى، واختلافًا كثيرًا أو قليلًا في ذلك الشرح. ويترجمها بعض المعاجم ودوائر المعارف بالسَّوْقيّ، لعلهم يعنون أنّها تتعلّق بالنقل على الدواب أو الآلات الحديثة السيّارة المَسُوقة.

والحقيقة أنّ أصل الكلمة يونانيّ بلفظ Logistikos، ويدلّ على من يفكر منطقيًّا، وصار يدلّ على فنّ الحساب أو المنطق الرياضيّ، واستُعمل في العصر الحديث بمعنى الفنّ العسكريّ الذي يُعنى بتنظيم النقل والتموين للجنود، أو ما يتّصل بهذا الفن، ثمّ تطوّر إلى معنى تجاريّ وصناعيّ هو الفنّ المنظِّم لمصلحةٍ أو مؤسّسة ما، ولاسيّما ما يتّصل بالموادّ التجاريّة أو الصناعيّة المتدفّقة التي يراد نقلها إلى المستهلك بأفضل الطرق، ثمّ صار لها معنىً شامل هو طُرق تنظيم العمليّات والسيرورات عامّة. وعند ترجمة مصطلح ما، يعاد إمّا إلى أصل معناه، أو إلى مفهومه المتداول. وفي حال المصطلح موضوع المقالة يمكن العودة إلى معنى التفكير المنطقيّ، أو إلى معنى النقل والتموين، أو إلى معنى تنظيم العمليّات، أو إلى ما يشمل أكثر هذه المعاني أو كلّها. وفي اللغة العربيّة أنّ تدبير الأمر هو النظر في ما يؤول إليه، ففيه معنى الفكر العاقل؛ وتنظيمُ النقل والتموين يدخل في التدبير، وكذلك تنظيم العمليّات؛ ولذلك يمكن ترجمة المصطلح بالتدبيريّة، والصفة منه بالتدبيريّ. وفي العربيّة أنّ تجهيز المقاتل هو تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في الحرب؛ فالتجهيز يشمل معنى النقل والتزويد بالمؤونة وشبهها، فهو قريب جدًا من المصطلح العسكريّ الذي نحن بصدده، فيمكن ترجمة ذلك المصطلح بالتجهيزيّة، والصفة منه بالتجهيزيّ. وهناك ألفاظ أخرى يمكن التفكير فيها هي التسيير والتزويد والتموين، لكنّها تؤدي معاني جزئيّة من المصطلح؛ فالخيار بين التدبيريّة والتجهيزيّة، لكنّ التدبيريّة توحي، في أيامنا، معنى الإجرائيّة، فيقال مثلًا تدبير احترازيّ أو تأمينيّ، وتدبير زجريّ. ولا يبقى، في رأينا، إلا التجهيزيّة، فيقال مثلًا: دعم تجهيزيّ.

قد يُعترض هنا بأنّ للّوجِسْتيّة معنى عسكريًّا غالبًا، ومعنى تجاريًّا أو صناعيًّا، كما سبق، فإذا ما قلنا مثلًا: قدّمت الدولة الفلانيّة دعمًا تجهيزيًّا لدولة أخرى، فلا يوحي الكلام المعنى العسكريّ ولا المعنى التجاريّ أو الصناعيّ. ومع أنّ سياق الكلام هو الذي يوحي المعنى عادة، لأنّ العبارة لا تكون مستقلّة عما يسبقها ويليها، فلا نرى بأسًا من زيادة إحدى تلك الصفات كأن نقول: دعم تجهيزيّ عسكريّ، أو صناعيّ أو تجاريّ، أو ما أشبه ذلك؛ فزيادة كلمة توضيحيّة خير من ترك المفهوم مبهمًا، علمًا بأنّ وسائل الإعلام الأوربيّة تستعمل مثل هذا التوضيح بسبب تشعّب المفهوم.

يبقى تعليل ترْكنا للسَّوْقية. السبب واضح هو أنّ هذا المصطلح مبهم جدًا، ويحتاج إلى جهد كبير لمعرفة مفهومه، فضلًا عن أنّ مفهومه جزئيّ، ولا يشمل ما يشمله مصطلح التجهيز.
----------------------
* أكاديمي من لبنان.