إلى أن نلتقي

  • إلى أن نلتقي
  • في مجلس البردوني

    لا أستطيع أن أنسى مجلساً جمعني مرة بالشاعر اليمني عبدالله البردوني في أحد المؤتمرات الأدبية العربية. دار الحديث في ذلك المجلس حول «الإبداع» و«الحداثة» و«السر الشعري» ، فأدلى البردوني بما عنده، فأيقنت في ضوء حديثه، أن بوصلة الشعراء من الجيل الماضي هي أسلم من بوصلة شعراء زماننا الراهن. فهذا الشاعر القادم من بلاد بلقيس وسيف بن ذي يزن والهمذاني صاحب الأكليل، كان رغم ابتلائه بالعمى أكثر بصراً بالشعر والعملية الشعرية وما يقتضي لهذه العملية من كثيرين من الشعراء الشباب الذين ينظِّرون ليلاً ونهاراً للإبداع والحداثة والسر الشعري دون أن يتمكنوا من الإمساك بزمام أحدها.

    توقفنا عند تعريف «الإبداع» فصال القوم وجالوا، ولكن البردوني حسم الصولات والجولات بعبارات يسيرة قبضت على سره، قال: الإبداع هو الدهشة لظاهرة غير مألوفة ومفاجئة، واستل البردوني من ذاكرته بيتين عجيبين لابن خفاجة الأندلسي:

    وألقى عصاه حيث تلعب بالحصى
    جنوب وتلهو بالغصون شمال
    فكأنما بين الغصون تنازع
    وكأنما بين المياه جدال

    يشرحهما: إنك لا تجد هذه الصورة المدهشة في نتاجنا الشعري القديم كله، تجد في الشعر المعاصر ما يمكن تسميته بأنسنة الأشياء.

    ولكن ابن خناجة قال هذين البيتين العجيبين في الماضي البعيد، جعل الكائنات تحس حساً إنسانياً وتصارع وتجادل تصارعاً وتجادلاً إنسانياً. لقد شبه حركة الغصون والمياه بأنها جدل ونزاع، كالذي يحصل في الحياة. لم يخطر هذا المعنى لمعاصر من معاصري ابن خفاجة. كان ابن خفاجة دائم التطلع إلى الطبيعة، ويحاول أن يقول غير التقليدي في وصفها. كان مضطرب النفس، كما عاش في عصر مضطرب، فلم يتصور إلا أن كل شيء مضطرب، ولكن كيف قدر أن يعبر عن هذا الاضطراب؟ هناك من يضطربون ولا يعبرون جيداً عن اضطرابهم.. إن السر الشعري هنا يعكس تجارب الحياة العامة يقول ما يمكن أن يسمى شعرا ويعطي صورة غير الصورة المألوفة.

    لقد كنت تقدر من الذي يصف لك الماء والغصون، أن يتحدث عن الجمال والصفاء والبهاء والطهارة وجمال الطبيعة، وهذا هو الوارد في وصف الشعر القديم.

    ولكنك ما كنت تتوقع أن يقول إن بين الغصون جدالاً، وبين المياه نزاعًا، وإن الريح تعبث كما يعبث الطفل بالغصون.

    يقدم البردوني في حديثه هذا لا مجرد فهم لنظريات حول الشعر والحداثة والإبداع، وإنما يلفت النظر إلى ما يضمه شعرنا القديم من كنوز لم يتمكن الزمن من طمسها، وإلى أن شعرنا الحديث أو المعاصر لا يجُبُّ أبداً هذا الشعر القديم بدليل أن بيتين فقط لا غير من هذا القديم صالا على الدهر ووصلا إلى زماننا الراهن وهما بأتم الصحة والعافية والنضارة.

    ولكن هذا الشعر القديم على أهميته بحاجة إلى من يخدمه، بحاجة إلى نقاد وباحثين خبراء بالشعر، متذوقين له على نحو راقٍ.

    هذا الشاعر اليمني القادم من بردون إلى صنعاء، والذي كان فاقد البصر، كان بصيراً بالشعر كما كان شاعراً كبيراً، وقد قدم لنا في ذلك المجلس البغدادي الجميل في ليلة من ليالي المربدة، رؤية سليمة للشعر جديرة بأن تتابع نفعاً لتراثنا القديم وللقارئ الحديث في آن!.

  •  
  • جهاد فاضل