قراءة نقدية .. في مدن بلا نخيل محمود الربيعي
رواية من تأليف طارق الطيب
يسود السرد المبسط رواية طارق الطيب: "مدن بلا نخيل" فتصل الرسالة الأدبية (وقل أيضا: والاجتماعية، والسياسية، والإنسانية) التي تحملها إلى قارئها من أيسر السبل وأعمقها، وتتهاوى- أمام هذا الأسلوب المبسط - دعاوى الروائيين المتحذلقين (الكبار الصغار) الذين يستعرضون أساليبهم المصنوعة المفتعلة أمام القارئ.
ها هو ذا طارق الطيب (الذي لم أسمع باسمه من قبل، وجاءتني روايته بالبريد) يقدم عمله الأدبي مباشراً، سهلا، يكاد يواجه قارئه عارياً من الحلي الأسلوبية، يحكي قصة الإنسان المطحون الذي يعيش على هامش الحياة (ويموت على هامش الحياة!) في لغة رائقة غير مزوقة، تكاد توهمك لفرط صفاتها، وخلوها من الزواق، بأنها تأخذ من الحياة اليومية رأسا، ولكنك إذا أصغيت إليها مليا أدركت أنها مرت بمصفاة ضيقة الثقوب هي من صنع يد طارق الطيب.
إن حنين الجنوب إلى الشمال حنين قديم، أقدم بزمان طويل من "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، ومن "جنوبي" أمل دنقل. إنه لب رحلة رفاعة الطهطاوي في "تخليص الإبريز.."، ومغزى رائعة يحيى حقي "قنديل أم هاشم"، والسراب الذي يطارده الحكيم في "عصفور من الشرق" و "سجن العمر"، ثم إنه طائر الوهم الجميل الذي حملناه - نحن جماعات الأزهريين وتلاميذ المدارس- حين خرجنا من كل فج عميق في قرى الصعيد نحو "الشمال"، فألقت بكل منا سفينته في مرساها المتواضع، أو تحطمت به على صخور الواقع الأليم.
انطلاق إلى المجهول
ليست قرية "حمزة" (الراوي الذي لم يجد عليه طارق الطيب باسمه إلا بعد خمس عشرة صفحة من السرد الجميل) سوى نقطة الانطلاق من المجهول التي هي- في قوتها الرامزة- نقطة انطلاق كل إنسان. إنها بداية الحياة، أو قل إنها البديل الأدبي لرحم الأم. ليكن اسمها ما يكون، وطارق الطيب يعطيها متراخيا في روايته اليس قبل مضي خمس وعشرين صفحة من عمله القصير) اسم "ود النار". ويبدو إطار الرواية الخارجي محكما، فهي مقسمة إلى أقسام واضحة، تأخذ عناوين محددة هي : "من القرية"، "إلى المدينة"، " إلى مدينة أخرى"، "إلى مدن أخرى"، "إلى القرية"، ولكن هذا الإحكام ظاهري فحسب، وهو سرعان ما يتهاوى في مجرى العمل، فتفيض عناصره بعضها في بعض، وتكون بدايته هي نهايته. وقد يجعلنا هذا نتساءل حول هذه العناوين، فما دام الراوي يحمل قريته داخل جلده منذ البداية، وينجذب عائداً إليها بإحساس شبه قدري في النهاية، فما معنى التقسيم، وإقامة الحواجز والحدود؟
من الماضي- إذن- نبدأ، وإليه نرتد، وهذه هي القصة المتكررة لكل منا، وكل واحد يرويها لنفسه، أو للناس، بطريقته الخاصة، و "حمزة" يرويها بطريقته التي أراها من أكثر الطرق نفاذاً وتأثيراً. ولا بد لكل عمل أدبي روائي من "حدث"، ولا بد لكل "حدث روائي" من "عنصر فعال". سمه- إن شئت- "خميرة"، أو "حجر زاوية"، أو "جوهراً"، أو "لبا". والعنصر الفعال في رواية "مدن بلا نخيل" هو "الفقر" ولا شك. وهو ظاهرة مظهرها مادي، ولكن لها - بالطبع - أصولاً، وفروعاً، وظلالاً، وآثاراً، نفسية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية، تمتد بحجم الحياة ذاتها. في القول المأثور: "لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته"، ولكن "حمزة" يدرك - لقلة حيلته البادية- أن "القتل" محتاج إلى "الاحتيال"، وأن هذا الاحتيال قد يبلغ حد الهرب مما تريد أن تقتل، وهذا هو ما فعله بالفعل حين ولى هارباً منه. وهو- في هروبه- يدخل في تجارب، بعضها صغير وبعضها كبير، وستعلو به تلال الحياة، وتنحط وديانها، وحين يعود- في النهاية - منجذباً إلى نقطة الصفر، يجد أن الموقف الذي كان صعبا قد تحول إلى موقف مستحيل. لقد سحق الفقر قريته سحقا، وأزالها عن الوجود، وأصبح- بذلك- ميدان المعركة خاليا حتى من العدو. والمحارب ذو الأسلحة المتواضعة لم يجد سرابا يطارده فضلا عن عدو يحاربه. لقد حسمت المعركة لصالح الآخر: "ماتت كريمة أختك وبعدها حليمة.. وتماسكت أمك حتى تراك.. ولما طال انتظارها استسلمت لقدرها، وتركت لك دعواتها قبل أن تموت بأن يحفظك الله من كل سوء.." (ص 103).
قرية أكثر بؤساً
تبدأ الرواية بجو القرية السودانية الخاملة المعزولة التي قرأنا عن مثيلاتها من قبل عند "الطيب صالح" في "موسم الهجرة إلى الشمال"، و "عرس الزين"، و "دومه ود حامد". لكن قرية "طارق الطيب" أكثر بؤسا، وأكثر- من ثم- واقعية، وتحريكا للمشاعر. نحن هنا نواجه الحياة في أبشع صورة، ولا نتوارى حتى وراء عاطفة المحبة ( التي نسلم بها تسليما صامتا ولا نناقشها) نحو الآباء والمعلمين، "فحمزة" يحمل كراهية صريحة لأبيه، الذي تزوج غير أمه وتركه معها وأختيه دون أي حماية: " إني أكرهه كرها لا حد له.." (ص 7)، بل إنه يطور هذه الكراهية الباطنية إلى لعنة معلنة: " ألعن أبي مرة أخرى، فقد علمني قبل أن يتركنا أن البكاء للنساء فقط، وعلى الرجل ألا يبكي مهما حدث له. لعنة عليك أيها الحكيم الجبان، كان من الأذكى أن تحتفظ بهذه الحكم لنفسك " (ص 8). وهذه الكراهية المعلنة تمتد لتصل إلى معلم القرية الشيخ " على الفكي "، ذلك المخلوق الذي يحلو له أن يشتكي " حمزة " لأبيه كلما التقاه، وكأنه يتلذذ بما يوقعه الأب من عقاب قاس لا يتخلف بابنه. على أن العلاقة بين هذين المخلوقين - الأب والمعلم - يكتنفها نوع من النفاق الغريب، فحين يواجه الأب المعلم يقول له: " أنت شيخنا وعالمنا. بارك الله فيك" (ص 11)، وحين يخلو إلى بيته يصفه بأنه " نمرود متخف في زي الشيوخ " (ص 11)، وهو- في جميع الأحوال- يترضاه بطاعته في إيقاع العقاب القاسي "بحمزة " في كل مرة يشكو إليه منه، وهو يشكو منه في كل مرة يلقاه فيها.
يدخر "حمزة" مشاعره الحانية الرحيمة لأمه الصابرة، المضحية، المظلومة، ولأختيه الصغيرتين "حليمة " و " وكريمة "، ويبدو هؤلاء الأربعة كتلة واحدة، وكأن قسوة الأب (التي هي جزء من قسوة الطبيعة وتجسيد لها) قد صهرتهم أربعتهم في أتون واحد فحولتهم إلى عنصر واحد متماسك (وإن لم يغن هذا التماسك عن أحد منهم شيئا!). ها هو ذا " حمزة " في جانبه الحاني، الذي يتدفق حناناً مع فيض الذكريات: " أتذكر صباح كل يوم أذهب فيه إلى الدكان لأشتري بعض الدقيق أو السكر أو الشاي، وأعود لتخبز أمي الكسرة، وأنا جالس خلفها أتابعها وأتابع أختي الصغيرة حليمة التي تتقافز بجوارها، ثم تلعب بأصابعها في العجين، فتضحك أمي معها تارة، وتنهرها تارة أخرى حين تبالغ في عبثها. تنتظر حليمة نضج الكسرة لتسحب واحدة منها وتضعها في فمها، تحاول أن تدسها كلها مرة واحدة في فمها الصغير لتسد جوعها فأقوم أحمل حليمة ضاحكاً معها، وأضع لها في فمها لقيمات صغيرة تلتهمها كلها في لحظات، وأحضر لها أخرى وأخرى، وحين أجدها تعبث بالكسرة ولا تأكلها آخذها منها وآكلها. ثم تأتيني أمي ببعض منها فآكل أنا وأختي كريمة، وأقول لأمي: " ألا تأكلين شيئا؟ " فتقول: لا.. ليست لي شهية الآن. سآكل فيما بعد ". أعرف أنها لم تأكل شيئا من الصباح، وتدخر من طعامها لنا. أقوم متحايلا عليها. ترفض. أظل أتحايل عليها حتى تأكل القليل على مضض" (ص 15،16).
الرجولة والحاجة إلى الحنان
هذا الحنان الذي طبع عليه "حمزة" هو الذي يجعل منه رجلا قبل الأوان. رجولته رجولة بحق، وليست رجولة زائفة كالتي يريدها له أبوه. كانت الرجولة التي يريدها له أبوه هي القسوة بعينها، تلك " الرجولة " التي لا تسمح لصاحبها بالبكاء، ولكنها تسمح له- كما هي الحال مع الأب- بترك أطفاله وأمهم دون عائل. أما الرجولة التي صنعها " حمزة " لنفسه فهي رجولة الاكتراث الإنساني العميق الذي يدفع به إلى الانحياز إلى البؤس الإنساني في كل مظهر من مظاهر بيئته القاسية. ويتجلى هذا الانحياز في مفتتح الرواية، إذ نرى " حمزة " يمسك بعود جاف ينكت به الأرض (لا بد أن يكون العود جافا!) التي هي بدورها- ولفرط جفافها- شقوق متقاطعة " كنسيج العنكبوت". إنه يبدي تعاطفا شفيفاً مع الأرض الجدباء في محاولة يائسة لردم شقوقها:".. أحاول أن أدفنها، مزيحا بقدمي التراب بين شقوقها، ولكن ماذا تفعل قدمان صغيرتان لقرية بأكملها " (ص 8).
إن الحنان- الذي أفضى إلى الانحياز- يتحول في مجرى الحديث إلى "ولاء" كامل يصنع" توحداً" بين الراوي والمشهد الذي يصوره، فعلى سبيل التضاد أحياناً، وعلى سبيل الاطراد أحياناً أخرى، يستدعي الحاضر صوراً من الماضي، ولكن "الواقعية" القاسية سرعان ما تفرض نفسها على الموقف، فيطغى مشهد الحاضر بتفاصيله الجارحة، مستوعبا مجال الرؤية كله، وتبرز وحشية الحياة، متمثلة خاصة في اغتيال الأطفال، إذ يصورون عاجزين عن الحركة، ومحرومين من الفعل الطبيعي البسيط بمشاركة أقرانهم "حق" اللعب، وعندئذ تتفتق أذهانهم الطرية عن اختراع "آليات" مستحدثة للعب، أبرزها اللعب بالصراخ (لا اللعب بالحركة! ) ، وهذا يجعل إطار الصورة كلها مشمولا بأكثر المشاعر إدراراً للدموع. هكذا يفيض أسلوب السرد البسيط مؤديا أقرب المعاني وأبعدها، وراسما الصور المتعاورة من القدرة والعجز، والحياة والموت (ورموزهما هنا اللبن المضيع الشحيح المسفوح، والدم المضيع المسفوح عن طريق الذباب والبعوض) : "أدير نظري نحو الأطفال وهم يلعبون. أين هم أطفال اليوم من أطفال أيامي وأتراب طفولتي. أرى خيالات أطفال. أرى أشباحا صغيرة تتراقص أمامي. هزمهم الجوع وأبرزت نحولة أجسامهم عظامهم الحية. ضلوعهم وركبهم مسكوة بجلد أجرب في لون التراب. بعضهم يجري هنا والبعض يجري هناك. البعض يصيح، والبعض يجلس على الأرض لا يستطيع الحراك من الهزال والوهن، ويشارك من يلعبون من بعيد بالصياح، فقط بالصياح. إنها لعبة جديدة في قريتنا لم يكن لي عهد بها. وإذا شعر الواحد منهم أنهم انتقلوا يلعبون بعيداً عنه، يعرف أنهم يحرمونه من اللعب معهم، حتى بالصياح، فيصيح أكثر وأكثر إلى أن ينقطع صوته، يبكي مبحوحاً، تأتي إليه أمه وتحمله لترضعه من ثدي أشبه بكيس نقود أمي الخالي. أنظر إلى الطفل فلا أرى في وجهه إلا عينين كبيرتين تنتظران. إحدى عينيه تتعلق بثدي أمه والأخرى بضفائرها، والذباب يحتفل حول عينيه، وحول بثوره وإصابات هيكله المتداعي، ثم ينتقل ليشاركه لبن أمه، فإن لم يجد، يعود ليهاجم جسده النحيل، ليقع على كل جرح في جسده، فإن لم يكن لبنا فليكن دما. إن الذباب مصرّ على البقاء حتى ولو ماتت القرية جميعها، إنه يمتص دماء الأطفال نهاراً إلى أن يأتي البعوض ليلاً ويأخذ حصته، حصة البقاء من الدماء" (ص9).
الموت يحوم
ليس بعد الفقر المدقع سوى الموت، وهذا الموت - الذي يحوّم أحياناً - يجثم في الصورة دائما غير بعيد، ورمزه المجسد الدائم هو المقابر. ويبدو أننا نخاف العدم، ولكننا نألفه، وأحياناً نطمئن إليه، بل أحيانا نلوذ به من فرط قسوة الحياة، وكأن لا ملجأ من العدم إلا الاحتماء به. وهذا هو التفسير المقبول عندي لما تمثله المقابر في الرواية من عنصر جذب دائم للراوي : "إن لي مع المقابر ألفة وحبا لم أشعر بها نحو أبي، بل إني أحبها أكثر منه، فقد كانت تحميني قبل أن يبطش بي. كنت أجلس فيها الساعات أغني أغنيات أنا مؤلفها وملحنها ومؤديها وسامعها الوحيد. كنت أستمع إلى حكايات العفاريات والجن الذي يسكن المقابر، ولكني لم أخف أبداً . فقد كان هروبي إليها يمنحني الشعور بالأمان، فكيف يراودني في مكان أشعر فيه بالأمان خوف" ص17).
هكذا تزخر الأحاسيس، وتتزاحم الأفكار، تحت القشرة الرقيقة للغة البسيطة، والسرد البسيط، في رواية "طارق الطيب". وهذا يسمح بانفجار عبارات مركّزة بين الحين والحين، تعبر عن الحكمة المختزلة، أو عن النقد الاجتماعي أو السياسي، أو تسخر سخرية لاذعة من تناقض مواقف البشر. كل ذلك في إطار الرقة العاطفية، والحنو الإنساني، وهما عاطفتان تدرّان بلا حدود في اتجاه من ينبغي أن تتجها إليه، وهم البشر الضعفاء- أحق الناس بالتعاطف والاكتراث. تسجل ذاكرة الراوي رؤيته في طفولته " فيلما تسجيليا" تعرضه الحكومة في القرية المجاورة عن برامج للتنمية، وسدود وزراعات، لا يرى لها الراوي ظلا ولا أثراً في واقع حياته، مما يعني أن المسألة كلها كانت نوعا من الدعاية الفارغة، والأكاذيب. هذه واحدة، وفي سوق "أم درمان" يعمل الراوي أجيراً لدى تاجر فظ مزواج، لا يظهر عاطفة نحو زوجته- التي هي في سن ابنته- إلا تلك العاطفة المزيفة المفتعلة حين يجرها جرا إلى الفراش (وانظر ما ترتب على هذا من العلاقة المحرمة بين الراوي وتلك الشابة) - هذه ثانية. وفي غابة الحياة تضيق أبواب الرزق الحلال، ولا يبقى مفتوحا لسد الرمق سوى أبواب الرزق الحرام- هذه ثالثة. كل هذه الألوان القاسية من بطش الحياة تغلفها رقة عاطفية مركزة تتجه من قلب الراوي إلى أمه وأختيه، فيشعر دائما بوخز الضمير كلما أكل شيئا يعلم أنهم لا يأكلونه. على أن الواقعية أمر لا يمكن تفاديه، فهذه الطاقة المكبوتة الهائلة تتحول في مجرى اليأس إلى زوجة التاجر. الشابة، ويتم هذا التحول في لغة مكثفة الدلالة (وإن تزيت بزي السرد المباشر الذي هو أسلوب الكاتب المفضل). في بداية الطريق ها هي ذي صورة المرأة الشابة وهي صورة تقترب به من الهاوية: "هي في السادسة والعشرين، رقيقة القد، ذات وجه جميل تزينه عينان واسعتان وثغر صغير موشوم، ملساء الوجه، حلوة الصوت واللهجة، زكية الرائحة واسمها "حياة" (ص 5)، وفي منتصف الطريق ها هي ذي صورة مشاعره التي تجعله على حافة الهاوية: "وتصير أحلامي مملوءة "بحياة". أحس بنظراتها تربكني بعد أن بدأت تهتم بي أكثر من المعتاد. أحبها. أجرب الحب لأول مرة. أجرب هزة القلب، ورعشة النبض، وهدجة الصوت. أجرب التنهيدة اليائسة المنتظرة والنظرة الحنونة. أشعر بشبابي وبقوتي وبضعفي... أحبتني وهذا ما تمنيته وخفته. حبي لها لا يخيفني. أحاول أن أبتلع مشاعري كلما خرجت إلى حلقي. أخاف أن تلمس لساني فلا يقوى ويبوح، ولكن تصرح هي بهذا فلن يبقى عندي غير أن أخرج ما في قلبي دفعة واحدة، كالعطسة تستثيرها ذرة غبار " (ص 53- 54). وفي النهاية، ووسط الأنقاض، ها هي ذي صورة الموقف الذي يبدو مدفوعا بصورة حتمية إلى غايته في عمق الهاوية، بحيث لا يبدأ التساؤل- وصراع القلب والعقل- إلا بعد أن يكون الأمر قد تجاوز خط الرجعة بالفعل.
أعماق النفس
هذا هو الزلزال الكبير الذي يتعرض له الراوي، ومن الواضح أنه لم يبد حياله مقاومة تذكر. أما الهزات الفرعية الناشئة عن هذه الهزة الكبرى فيعبر عنها بأسئلة شبه فلسفية لا يمكن أن تعطل استمرار "الفعل" الواقعي في كثير أو قليل. وهذه الأسئلة تقوده إلى أعماق النفس، ودهاليزها المظلمة، فتنفجر الأحلام الراقدة هناك، وكأنها البراكين النشطة القاذفة بالحمم. هنا تحتل صورة الأم مركز الفعل، ملحة بنداء العودة، ولكن صوت الحاضر المتمثل في "هسهسة حياة" يطغى، فيبذل الراوي محاولة أخيرة، يعبر عنها بانتفاض قلبه كالسمكة خارج الماء، غير أن هذه المحاولة تطوى بتيار مكتسح مضاد، يعبر عنه استمرار الأيام والأسابيع (والتعليقات الواردة بين الأقواس من عملي): "معاناة حياة ومعاناتي يعيشان بين الخضر والفاكهة. الحب الحلال الحرام يعيش بين الأقفاص على مصباح كيروسين ألاحظ الشد والجذب في عبارة "الحلال الحرام"، ولاحظ السياج الشبيه بقضبان السجن المتمثل في قضبان أقفاص الخضر والفاكهة، ولاحظ خفوت الضوء الدال على عدم وضوح الرؤية) ونهمس في الظلام خشية إقلاق الضمير ألاحظ سيادة الظلام وهزيمته للضوء الذي هو-خافت، ولاحظ اتخاذ الاحتياطات اللازمة لإسكات قلق الضمير، مما يمهد لغوص عميق في المشاعر يسمح بظهور صورة الأم من عمق الماضي ولكن على نحو غير حاسم ومؤثر).
السرد البسيط
يترقرق أسلوب "السرد البسيط" في الرواية، حافلاً بالإيحاءات الباطنية، والإرهاصات الخفية، والاحتمالات غير المباشرة، وهذا كله يجعل منه - وهو السرد البسيط- فنا جميلا. حين يتحول الحدث شمالا، وفي أول نقطة على الحدود، يستغل صاحب المقهى زبائنه في صورة مليئة بالشد والجذب، فيها حيوية وقسوة، وفيها سخرية مبطنة تستخرج الضحك من مرارة الحياة: "الساعة ماتزال الحادية عشرة، والقطار سيأتي في الثانية بعد الظهر. أعتدل في جلستي وأحتسي كوبي في بطء شديد، والنادل يتابع انخفاض المشروب في الكوب، منتهزاً الفرصة لينقض بكوب آخر لا بد من دفع ثمنه. ولكني أتلاءم. أظل أرشف من الكوب كالطفل الرضيع ولا أعيره اهتماما. يبدأ يحوم بالقرب منى كالحدأة، ويغني بعض الأغنيات التي لا أفهمها تماما، ولكن معناها يوحى بتهكم علي وعدم ارتياح لي " (ص 62). ونلاحظ أنه في المواقف الحاسمة تبرز اللوازم الأساسية التي تكون أركان الرواية، صورة الأم والأختين، وساعة عبد المالك، وهي لوازم تقوم بإحكام الربط بين ما كان، وما هو كائن، وما يمكن أن يكون. هذا والأحاسيس تلتقط من الحاضر، والذاكرة تلتقط من الماضي، والخيال يتكفل بتوقعات المستقبل: "أتجول في المكان كطفل برىء يدرك العالم لأول مرة. فضول في عيني، فضول في أذني، فضول في أنفي، فضول في إحساسي. أتذكر أمي والصغيرتين. ترى كيف حالهن الآن؟ وكيف حال القرية؟ أنظر في ساعة عبد المالك لأرى الوقت. أحزن لأنني لم ألتق به كما تمنيت في المدينة" (ص 63).
عند هذا الحد، وبحكم قانون التداعي، يصبح الزمن (والساعة رمزه) عنصراً مهيمناً. وغني عن البيان أن الزمن هو جوهر الفرق بين الجنوب والشمال، وهو لذلك لب الحد الفاصل بين التخلف والتقدم، أو بين الفقر- الذي هو مشكلة الرواية كلها- وبين الغنى: " أستهلك وقتي في اللعبة الصامتة، وتشير الساعة إلى الواحدة، في الثالثة والنصف يتحرك القطار، أكثر من خمس عشرة ساعة أقضيها من السد العالي حتى القاهرة. الساعة الرابعة فجراً أصل إلى القاهرة.. العمران يزيد كلما اتجهت شمالا" (ص 46).
بين القاهرة وبورسعيد يتحول "الهارب" إلى مهرّب، ويلفت نظره تغير هوية المدينة الصامدة، فبعد أن كانت تستقطب الغزاة أصبحت تستقطب البضائع، لكن وعيه مركّز بصفة أصلية على المقارنة بين الحرب التي خاضتها تلك المدينة، والحرب التي خاضتها وتخوضها قريته الصغيرة المهملة المنسية في أقصى الجنوب، وهو إذ يبلغ به التوتر- أمام المقارنة- أقصاه يتحسس تميمته كما يفعل دائما في مثل تلك الحالات، وحين يغوص وعيه، أو لا وعيه، إلى عمق بعيد، يوفر لكريمة وحليمة دميتين من بورسعيد، هما البديل العصري، والمعادل "الاستمراري"، لتميمته العتيقة. وهكذا يتصل الحاضر بالماضي في نسق أسطوري ونسق عضوي: "أسير إلى قدري بجسد بلا رأس، وأبقى مع أمي برأس بلا جسد" (ص 77).
انكسار الحلم
ويكون ضياع ساعة عبد المالك-بسرقتها من الراوي -هو الدال على فقدان العنصر الثاني من عناصر قوة الاندفاع، ومن ثم انكسار الحلم. وهذا يضع الراوي في حالة يأس نستدل عليه بعودة عادة البصق على الأرض واللعن مهيمنة، تلك العادة التي كانت- ولاتزال- تعتري الراوي في حالات التوتر القصوى: "أبحث عن ساعة عبد المالك ويجن جنوني. أخذها هي الأخرى. هذا الحقير الشاذ. أبصق على الأرض. ألعنه ألف مرة، وألعن هذا البيت الملعون. أغلى الذكريات التي لم أفرط فيها تضيع في لحظة" (ص 95). ولقد أصاب هذا إرادته في الصميم، وأصبح الآن متجها إلى العودة على نحو واضح: "أريد العودة إلى بلادي، ويكفيني ما رأيت وما حدث" (ص 96). "يعلق بذهني ضياع شنطتي السعفية وساعة عبد المالك. أتألم لضياعهما أكثر من ضياع أيامي في الغربة" (ص 97). لكن العنصر الباقي- الذي ليست له قيمة مادية كالعنصرين الآخرين ومع ذلك يحرص عليه الراوي حرصه على حياته- وهو التميمة: "أستسلم للنوم ويدي قابضة على تميمتي فهي آخر ما تبقى لي من "ود النار" (ص 97).
نقطة النهاية هي نقطة البداية، والراوي يعود مهزوماً إلى "ود النار". وإذا كانت نقطة البداية هذه تمثل رحم الأم، من حيث هي بداية، فإنها من حيث هي نهاية، تمثل الموت، وكونها الآن مجموعة من القبور أبلغ شاهد على هذا التمثيل.