بيت للعابرين سعيد الكفراوي
"رن" التليفون "آخر الليل، فرفعت السماعة، وسمعتُ صوتاً نسوياً:
- آلو...
- نعم
- منزل الأستاذ "صبري" ؟..
صبري سالم..؟.
- نعم
- أنت متأكد؟
- طبعا..
أنا "صبري" بنفسه.
تهلل الصوت:
- "صبري" ابن العم "سالم". المولود في "كفر الغنايم" مركز "سمنود"؟.
- بالضبط. معلوماتك صحيحة.
لكن أنت من يا أفندم؟
- أنا "سمّة " يا "صبري".. "سمية فيض الله".. المنصورة.. فاكر.. سنة 1957.. فاكر...
هتفتُ مأخوذاً:
- "سميّة"!
برق الشعاع ضارباً أقصى تجاويف الدماغ فضوّت الذاكرة، وتبدد ظلام النسيان، فيما تجمعت صورتها جزءاً، جزءاً. الصبية الصغيرة التي كانت على عتبة الشباب، بضفيرتها الوحيدة، وقلادة الذهب، والبسمة المنوّرة، والغمازتين.
صحتُ بلا وعي:
- " سميّة "..
والله زمان.. والله زمان يا "سميّة" كيف أحوالك؟.
قالت بعدم تصديق:
- بخير..
نفسي أشوفك.. أصل أنا شفت صورتك في الجورنال.
.. أخذني الشك، ولم أصدق نفسي..
- أصلك تغيرت خالص.. اتصلت بالمسئولين فأعطوني رقم تليفونك.. نفسي أشوفك.. ياريت تحضر.
وأعطتني العنوان، ثم وضعت السماعة.
خرجت إلى شرفة البيت، كنتُ أتطلع إلى الليل، وأنا أقف وحيداً أقاوم ما أنا فيه "سبعة وثلاثون عاماً منقضية تنهض فجأة، وكأنها كانت محبوسة في كهف". شعرتُ كأنني غير قادر على مواجهة الحنين، وبأنني لا أستطيع أن أقاوم ذلك الماضي الذي لا يخص أحداً غيري.
"المنصورة".. سنة 1957.. أول الشباب.. زمن هؤلاء الذين يأتون من القرى محتشدين بقلة تجاربهم، وخجلهم، يتخبطون في شوارع المدن تائهين، حتى إذا ما وجدوا الملجأ كان لهم العزاء.
وبيت " سميّة " كان عزائي، مأواي، عندما سكنت حجرة على سطح بيتهم.
الآن.. ماذا في الآن؟.
هي هرمة تقترب من الستين. كانت أكبر مني بسنوات ثلاث. ربما هي الآن جدة، أو أرملة ودعت زوجها ووارته التراب، وتعيش وحدتها بلا آمال، منتظرة مثلي حسن الختام.
تذهب؟.
إلى أين تروح؟.
لتتفرج على مشيبك، أم لتتعرف آخر المطاف على ماصنعه بك زمنك الخاص؟.
خيل إلىّ في هذه اللحظة أنني أعدو من غير حسبان، متجاوراً سنينى، عائداً لتلك المنطقة السرية من ذلك الزمن البعيد، لأطل على لحظة من ألق، حيث كانت تأخذ بيدي- أنا القروي- ونحن نسير على كورنيش المدينة نتطلع إلى الضوء، والقوارب المركونة، والصور المعلقة، والناس على "الكازينو"، وكنت أنظر في عينيها فأعثر على الفرح، وأتأمل الغمازتين، وأطمئن نفسي بسؤالها: "بأن كانت تحبني؟ " فتزوغ مني ضاحكة "حاذر يافلاح النبي لا أحد يأخذ كل شيء".
في الصباح بدري ملأتُ صندوق السيارة فاكهة، وحلوى، وقطعاً من قماش، ومزهرية من زمن الخريف، وتوكلتُ.
دخلت "المنصورة" في الضحى. المدينة التي لم أرها من سنين. "المنصورة".. لؤلؤة من ذكريات تسكن في القلب.. حكايات من الزمن القديم تنهض من النسيان حزمة من شرايين حيّة.
رأيت قاعدة الرخام، والكازينو العتيق، والنادي "اليوناني"، و "منيرفا" قائما على الكورنيش تلحس المياه قواعده الأسمنية، بينما يجلس "مراكبي" عجوز على مؤخرة قاربه يتأمل الماء. قلت: ربما هو من كان شاباً ينقلنا على النهر ساعين في ذلك الزمن الذي كان. طرز البناء، وسينما "عدن"، والأزقة الصغيرة التي تحبس روائح البيوت انتفضت حيّة بملامحها وكأنني تركتها بالأمس.
كان البيت يقع بعد ضاحية "توريل" بالقرب من شاطئ النهر، تحوطه أشجار الكافور التي تفرش فروعها العصافير.
ركنت السيارة، وحملتُ هداياي، وضغطت على جرس البوابة الخارجية للبيت، ففتحت لي فتاة لها ملامح قروية سمراء، ونظرات تلمع في النور.
خطوت إلى حديقة مزهرة على غير أوان، ورأيتُ نافورة مسوّرة بحجر من رخام، تفوح من الحديقة روائح معطرة بذكريات تضرب خاصرتي من غير رحمة.
ليس هو البيت القديم، الذي كنتُ أسير بصالته، وأطل من نوافذه، وأسمع غناء الجارة الست "هدى" منطلقاً بأغنيات الحنين.
انتابني قدر من الخوف، وأحسست برعشة الذاهب ليلتقي بحياة كان قد عاشها من زمان.
صعدتُ درجات السلم الرخامية وانتظرتُ.
بعد قليل رأيتها تخرج، ترتدي فستاناً من الحرير الأحمر، موشى ذيله بقطيفة حمراء، ومطرزاً بوردات زهرية. كانت أمامي بشكلها القديم، وصباها الذي أعرفه.
شهقتُ، وصحتُ:
- "سميّة" كأنني فُتك البارح.
توجست قليلاً، ووشت ملامحها بالاضطراب، في كنتُ أهوي أنا مصعوقاً كلما تأكدت أن الزمن لم يمر بها.. نفس الملامح، والقامة، وخفة الروح.
مددتُ يدي فقبضت عليها:
- أهلا يا "صبري".
خُيّل إلي أنني أهوي من مكان عال، وخفتُ أن أصرخ من ضربة المفاجأة. نظرتُ إليها بقلبي، وتأملتها بحواسي الخمس في سطوع النور، يشع منها ضياء الشباب، وعبير له رائحة الياسمين. هتفتُ في نفسي" شابة بنت الحلال، كأنها لم تتجاوز الثلاثين، تقف أمامي وكأنني غادرتها بالأمس".
خفت من اختلاط الأمر عليّ، وحاولتُ بقدر ما أستطيع السيطرة على مشاعري.
دخلت أمامي مرحبة، تفرش الأرض بالتحايا، والضحكات فيما تستولي على البيت رائحة البخور الهندي، وشذى الياسمين.
- والله زمان يا "سميّة".
ضحكت، فيما أتأملها متشككا وكأنني في حضرة أخرى.
هتفتُ لنفسي " ممكن؟ كيف تستطيع أجساد أن تقاوم الفناء بهذه الكيفية المرعبة ؟ ".
جلستُ أتأمل
بشرتها التي تضيء في النور الذي يسطع من النافذة: فاجأتني:
- والله
وكبرت يا "صبري".. شاب شعرك وعجزت.
- الغريب إنك عكس ذلك تماما.
ابتسمت، واستأذنت لحظة، ولكي انتزع نفسي مما أنا فيه، تأملت صالة البيت الواسعة. كانت كبيرة وعلى قدر رفيع من الذوق، والغنى. ستائر القطيفة على النوافذ. صالون مذهب يستقر بطرازه الفرنسي. تحف، وصور على الحائط لمستنسخات من القرن الماضي، لحوريات، وملائكة مجنحين، وسجادة فارسية على الأرض موشومة بزخارف نباتية. صورة شخصية لها من ذلك الزمان، صبيّة في إطار من خشب بني اللون، وذي رصانة وُضعت في مكان ظاهر عمداً، وسبق إصرار.
أعرفها تلك الصورة غير الملونة، وأتذكر دقائق زمانها حينما استعرتها لأيام لأضعها في ألبوم صوري، حتى طلبتها مني مبتسمة "مالك.. الأصل معك".
عادت ببهائها، ووجهها المنور تطلق ابتسامات طيبة، ويجلجل صوتها بكلمات الترحيب.
قلت:
- فاكرة هذه الصورة؟
- وهل هذه أشياء تنسى. كنت تحبها كثيراً.
أطلتْ من الباب الموارب يد تحمل صينية عليها فاكهة، وطقم شاي من البورسلين، ولمحت ظلاً لسيدة تكتسي بالسواد، وسمعتها وهي ترحب بي:
- أهلا وسهلا.
- أهلا بك.
سألت "سمية":
- من هذه؟
- قريبة.
واكتفت.
بعد ذلك كنت أسمع خطوات السيدة تطرق سمعي دائرة في البيت بإيقاع رتيب، وصوت تنهداتها يأتيني مضمخا برائحة البخور والياسمين.
صمتُ راحلا إلى بعيد.
حينما كنت فيما مضى ألبدُ على "البحر الصغير" تحت "البونسيانا" ذات الأزهار الحمراء، متظاهراً بقراءة كتاب بالقرب من المدرسة "اليونانية" التي تتوسط الطريق لمدرستها ومعهدي، وأراها قادمة بمريلتها الزرقاء، وضفيرة شعرها المشبوكة بشريط أحمر، تضم حقيبة كتبها لصدرها، تعرف أنني أكمن عند الشجرة أنتظر رؤيتها في الخارج، إلا أنها آخر النهار كانت تعنفني "بطل تلصص"، وتكون فردت شعرها فانطلق في كثافة الليل، وأكون أنا قد أحببتها أكثر، وطويت جوانحي على الحلم، وتكون قد اقتربت مني قائلة "يالله يافلاح دعنا نذاكر".
قلت:
- شيء غريب.
ردت
- ما هو الغريب؟
لم أرد، لأنني شاهدتُ السيدة المسنة من الباب المفتوح على الحديقة تشذب بمقص في يدها أشجار الزهور. كانت ترتدي فستاناً أسود بكمين طويلين، تطل من تحت طرحتها ذوائب من شعر في لون الفضة، وعندما رأيت جانب وجهها كانت تلبس نظارة سميكة، تستقر على وجه محتقن يشيع منه- الأسى والحزن.
سمعتها تطلق غناء كالعديد تدفع به نسمات. الخريف محملا شجنا.
قلت:
- غريبة.
- خيراً.
- كأنني أعرف هذه السيدة.
ارتعش صوتها عندما قالت:
- أبدا.. هذه قريبة من بعيد.
ثم قالت مغيرة الموضوع:
- فاكر "بريسكا" ؟
"حكاية من زمان" قلت:
- تقصدين "كوثر حجازي" - البنت التي كانت تمثل معكم مسرحية "أهل الكهف". كنت عامل دور "مرنوش" الرجل الذي عاد من نومه بعد 300 سنة، يبحث عن امرأته وابنه.
- فاكر طبعا.. حتى أنت أيامها فكرت أنني أحبها.
ضحكت قائلة:
- كانت أياما حلوة يا "صبري".. كانت أيام. خُيّل إليّ أنني أسمع صوت بكاء يأتي من تحت النافذة، وأن هناك من يتنصت علينا. وانشغلت بالسيدة العجوز الغريبة. سألتها: إن كانت سمعت صوت بكاء؟ فردت عليّ:
- أبداً.
تناولنا الغداء، ولم تكف عن الحديث. كلمتني عن نفسها، وبأنها تزوجت بعد أن سافرت أنا ولم أعد، وكلمتها عن نفسي حتى خف بنا الزمن فعدنا لسطوح الدار القديمة، وشوارع المدينة.
راحت الشمس.
وعزمت على الرحيل.
نهضت، ونهضت معي. قالت:
- ما بدري.
هل ستعود؟
- ضروري.
هبطت معي الدرج.
وقفنا تحت شجرة في الحديقة. لمحت نفس السيدة المسنة تجلس تحت النافذة التي كنا نجلس بجوارها.
تأملتها هذه المرة. كانت كهلة، شبه عمياء، مضروبة بالشيب والسمنة المفرطة.
انتابني إحساس غريب بأنني أعرفها، ربما قابلتها من قبل. سألت "سمية":
- أنت متأكدة أنني لم أرها من قبل؟
قالت وقد هربت من مواجهتي:
- طبعا. هذه قريبة لنا تأتي أحيانا.
- غريبة.
سمعت العجوز تصيح بي، رافعة يدها:
- مع السلامة.
- الله يسلمك.
ورأيتها تدخل إلى البيت، ولا أعرف لماذا شعرت أنها تجهش بالبكاء.
خرجت للشارع خائفا من هبوط الظلام الوشيك، وأحسست بأنني تأخرت. تعثرتُ في حيرتي، واختلط علي الأمر، وكل تلك الأسئلة تمور بداخلي.
عندما استدرت رأيت السيدة العجوز تلصق وجهها بحديد النافذة وتطل عليّ. كانت تقبض على الحديد بأصابع كالمخالب.
أسرعت من خطاي في اتجاه السيارة أخاف من النظر خلفي.