جمال العربية

جمال العربية
        

عندما يصبح الجبار طفلا

         شعر العقاد وحده - من بين كل آثاره القلمية - هو الذي يكشف لنا في العديد من نماذجه عن ضعفه الإنساني، وحقيقة ما يجيش في وجدانه، ويجعلنا ننسى صورة الإنسان الخارق، شديد القدرة والسيطرة التي نخرج بها من سائر كتاباته، وهي صورة تتشكّل من عناصر العناد والإصرار والكبرياء، وألوان التـحدي والاستعلاء، والشعور بالزهو والتفوّق على الآخرين.

          أما العقاد في شعره - خاصة العاطفي منه - فكائن شديد الهشاشة لفرط حساسيته واتقاد مشاعره، ورهافة وجدانه، تنوشه الظنون، ويقلق كما يقلق الناس، ويبكي بكاء الطفل الذليل، ويغصّ بالماء الذي أعدّه للري، ويتقلب في نيران الجحيم، ويتمنى لو باع حظه كله بساعة واحدة ينسى بها عمره فكأنه لم يولد.

يقول العقاد في قصيدته يوم الظنون:

يوم الظنون صدعْت فيك تجلّدي

 

وحملت فيك الضيْم مغلول اليد

وبكيت كالطفل الذليل، أنا الذي

 

ما لان في صعب الحوادث مقْودي

وغصصت بالماء الذي أعددْته

 

للريّ في قفر الحياة المُجهد

لاقيت أهوال الشدائد كلها

 

حتى طغت فلقيت مالم أعهد

نار الجحيم إليّ(3) غير ذميمة

 

وخذي إليك مصارعي في مرقدي

حيران أنظر في السماء، وفي الثرى

 

وأذوق طعم الموت غير مصرّد

أروى وأظمأ، عذب ما أنا شارب

 

في حالتي نقيع سُمّ الأسود

          ثمة خزان للدموع يمتلئ به وجدان العقاد، وينهمر في بكائياته شاعرية دامعة، ومشاركة أسيانة، وضعفاً إنسانياً مرتطماً بالقدر، ومتصلّباً في مواجهته وتحدّيه.

          وهي الثنائية التي مثلها العقاد دوماً باعتباره تجسيداً لحوار الصخر والنهر في مهاد نشأته الأولى: أسوان، حيث يشمخ الجرانيت والصوان في عناق النهر المتدفق الممتلئ بالجنادل والصخور، هذه الثنائية التي نطالعها في تجليات شعره انسياب رقة ووعورة خشونة، نزق طفولة وحكمة هرولة، اندفاع عاطفة ورؤية عقل وفكر، رضاً يتسع فيحتوي العالم، وغضباً معلناً عن رغبة في تدمير الكون، هي التي أودعت شعره هذه الفصول المختلفة من الطقس النفسي والفني، وأغنت عالمه الشعري بحصاد من التجارب المتميزة والأصداء النادرة والمعالم الفريدة.

          في قصيدة يوم الظنون للعقاد، تتكشّف تجليات العربية وجمالها الأخاذ من خلال تعبيره عن صبوات القلب وتسلط الظنون والشكوك، وجموح الريشة المصوّرة، فالقصيدة نموذج لما ألفناه في شعر شعراء العاطفة والرومانسية من شكوى وعاطفة وخيال وتدفق شعري. وهو الشعر الذي تهزّنا حرارته عند شعراء أبولو: إبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وأبي القاسم الشابي، كما نجده غزيراً في شعر المهجريين من أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة الذي يعدّ أقربهم إلى روح العقاد الشعرية.

          العقاد الجبار - كما نطالعه في دراساته وأبحاثه وتراجمه وعبقرياته وتأملاته - يعترف في هذه القصيدة بانهيار تجلّده وتحمّله، وببكائه كالطفل الذليل، وبإيثاره لنار الجحيم التي يناديها ويتعجّلها لعلها تنقذه من هول ما هو فيه، وبحيرته تائهاً بين السماء والثرى، وبسمّ الأفاعي الذي يتجرّعه في كل ما يروي به ظمأه، وبوقوعه في هوّة التردد التي ستلاحقه في غده، بعد أن ضاع منه يومه وأمسه، وأصبح يعذّبه ويشقيه ما كان يسعده ويزيد من تنعمّه.

          وما أصدق الناقد سيد قطب - في بصيرته الصائبة وحسّه الأدبي المرهف، وقدرته على التأمل والتحليل - وهو يقول عن شعر العقاد في طابعه العام، وسماته الغالبة:

          في وضح النهار يعيش العقاد، صاحي الحسّ، واعي الذهن، حيّ الطبع، لا يهوّم إلا نادراً، ولا يتوه وراء الوعي أبداً.

          ومعالم الإحساس والتصوّر عند العقاد واضحة، وعلى رحابتها وانفساحها، وعلى عمقها ودقتها يحدّها إطار من الوعي المتيقظ، فلا تهيم في وديان مسحورة، ولا تنطلق في متاهات مجهولة.

          على أن للمجهول حسابه في نفس العقاد، ولكن هذا المجـهول نفسه فكرة يحيط بها الوعي، ويدعو إلى فرضها العقل، وليس الإيمان بهذا المجهول توهاناً روحياً ولا صوفية غامضة، إنما هـو رحابة نفسية وفكرية.

          من هذه الينابيع، يتفجّر شعر العقاد، فيكثر فيه تصوير الحالات النفسية، وتسجيل الخواطر الفكرية، وإثبات التأملات المنطقية - إذا صحّ هذا التعبير - بقدر ما تقل فيه السبحات الهائمة والانطلاقات التائهة، والظلال الشائعة، فكل شيء واضح، وكل شيء له حدود.

          ثم يقول سيد قطب: ويعوض شعر العقاد الجيد عن الرفرفة الطليقة، تلك الحيوية المتدفقة، وعن الايقاع المتموّج تلك الحبكة الرصينة، وعن الانطلاق الهائم، ذلك العمق الدقيق، وعن سبحات الصوفية التائهة صدق الحالات النفسية الواضحة. ويبلغ العقاد قمته حين تبلغ الحيوية تدفقها، فتجرف المنطق الواعي وتغطي عليه، فأما حين يضعف هذا التدفق، فيتجرد الشعر من اللحم والدم، ويخيل إليك أن مكانه ليس في قصائده، ولكن هناك في كتبه بين التأملات الفكرية والقضايا المنطقية.

          قصيدة (يوم الظنون) إذن، واحدة من قصائد العقاد البديعة التي فيها من شعره لحمه ودمه، وصهد أعصابه وحميّا قلبه ومشاعره ومعاناته، الشعر فيها ينتصر على التأمل، ووقد الشعور والإحساس يطغى على الفكر والتساؤل، ذلك أن الشكوك قاتلة، والظنون ساحرة ومُدببة، وخيانة المحبّين - الذين لا نتوقع منهم دوماً إلا الوفاء وصون العهود - أشدّ وقعاً وأعظم إيلاماً وأفظع إيذاء وتحطيماً، وهو ما جعل العقاد يتحوّل - على حد تعبيره - إلى طفل ذليل، بكل ما تحويه الطفولة وتمثّله ظلالها وإيحاءاتها من احتياج ورعاية وأمومة، وما يعبـر عنه الذل من قسـوة الغدر ولذع المعاناة وهوان النـفس علـى صاحبها، وهو المعروف بالتعالي المشـهود له بالترفّع والكبرياء.

          وأسعفت العقاد لغة طيعة، أشربت ماء الشعر وقدرة صاحبها على التخييل والتصوير والتجسيد، واكتست معـجماً شعرياً ينثر في ثناياها روح الشكوى وضراعة المهزوم وحسّ الأسيان، ويخلع عليها نداوة تمتزج بالحدّ المسنون، وغضباً متفجّراً يحد من طغيانه أمل مستتر في غد قد يُبشّر به عندما ينطوي يوم العذاب والألم.

          هذا الأمل مستتر في يوم قادم موعود، يهتز له وجدان العقاد شوقاً وحفاوة وهو يقول:

يا يوم موعدها البعيد، ألا ترى

 

شوقي إليك، وما أشاق لمغنم

شوقي إليك يكاد يجذب لي غداً

 

من وكره، ويكاد يطفر من دمي

أسرعْ بأجنحة السماء جميعها

 

إن لم يُطعك جناح هذه الأنجم

ودع الشموس تسير في داراتها

 

وتخطّها قبل الأوان المُبرم

ما ضرّ دهرك إن تقدم واحد

 

يا يوم من جيش لديه عرمرم

لي جنة يا يوم أجمع في يدي

 

ما شئت من زهر بها مُتبسم

وأذوق من ثمراتها ما أشتهي

 

لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي

وتطوف من حولي نوافر عُصْمها

 

ليست بمُحجمة ولست بمُحْجم

وتلذ لي منها الوهاد لذاذتي

 

بتصعّد في نجدها وتسنّم

لم آس بين كرومها وظلالها

 

إلا على ثمر هناك مُحرّم

فكأنما هي جنة في طيّها

 

ركن تسلل من صميم جهنّم

أبدا يذكُرني النعيم بقربها

 

حرمان مزءود وعُسرة مُعدم

وأبيت في الفردوس أنعُم بالمنى

 

وكأنني من حسرة لم أنعم

         وهو لون من تجليات العربية، وجمالها الأخاذ، يقدمه لنا هذان النموذجان من شعر العقاد.

 

فاروق شوشة