الشباب العربي: كيف يفكِّر؟ ولماذا يثور؟: د. سليمان إبراهيم العسكري
الشباب العربي: كيف يفكِّر؟ ولماذا يثور؟: د. سليمان إبراهيم العسكري
بعد عام مضى كان شاهده الأكبر «التغيير» الذي قدم وقوده الشباب، حين قاموا بإذكاء ناره، وتقدموا الصفوف المليونية للمطالبة به، بل وفدوه بأرواحهم، ارتفعت آراء كثيرة تصف، وتحلل، وتقارن، وتستنتج. وسط ذلك جاء «التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية» ليضيء جوانب كثيرة من زوايا ذلك المشهد الدرامي، خاصة أن هذا التقرير، الذي تعده سنويًا «مؤسسة الفكر العربي»، يرصد لمرحلة المخاض التي سبقت الثورات العربية، ويركز على حضور الشباب في القضايا الساخنة منذ أواخر 2010 وبامتداد العام المنصرم، ولذلك فنحن نقرأ ونحلل هذا التقرير وكأننا نستعرض مقدمة ما حدث، ونفسر ما جرى، بل، وعلى الأغلب، نتنبأ بما سيأتي، خاصة أن الشباب العربي الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و33 عاما يشكلون نسبة 66% من إجمالي سكان العالم العربي، أي ما يعادل ثلثي السكان. إذا كنا قد ألمحنا مرارًا إلى أهمية التعليم- مكوناته ومخرجاته - في أحاديث سابقة، فإننا ننظر بعين الاعتبار إلى القضية الأساسية في ملف قدمه التقرير ويعرض لخطورة قضية التعليم الجامعي حين نربطها بسوق العمل، وكيف تتنامى الاختلالات بين الجانبين، وكيف أثرت هذه الاختلالات في المشهد حتى انفجر إلى ما رأيناه، حيث كانت البطالة محركا أساسيا للاحتجاجات الشبابية. التعليم والبطالة.. مواطن الخلل يستعرض التقرير في بداية ملف (التعليم الجامعي وسوق العمل) التنامي المخيف للجامعات الخاصة بمصر - نموذجًا - مقارنة بالمؤسسات التعليمية العليا، ففي عقد كامل، من 1999 إلى 2010 ارتفع عدد الجامعات الخاصة بنسبة 375% مقارنة بارتفاع نظيرتها الحكومية بنسبة 58 % فقط. كما أن ذلك التعليم الجامعي - خاصًا وحكوميًا - لا يتمتع بأي استقلال مقارنة بجامعات أوربية وأمريكية وآسيوية فرضت نفسها على جدول التقدم العلمي، لنجد أنه لا يوجد استقلال للجامعات المصرية لا في وضع الهياكل الأكاديمية، ولا بمحتويات المقررات، ولا بتعيين الأكاديميين، ولا بالإنفاق من الميزانية لتحقيق الأهداف، ولا بتحديد المرتبات، بل إن مكافآت أعضاء هيئة التدريس لا تمثل سوى 39% من جملة المرتبات والأجور بينما تجاوزت أجور ومرتبات الجهاز الإداري والخدمات المعاونة 61%! يضاف لهذا الخلل ما تقدمه الجامعات الخاصة من فرص للالتحاق بها ممن حصلوا على درجات متدنية لا تمكنهم من الالتحاق بكليات القمة الرسمية، كالطب والصيدلة والهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية والحاسبات والمعلومات، مما يعني اختلالا موازيا في كفاءة الخريجين الذين سينضمون لاحقا إلى سوق العمل، أو ربما سوق البطالة! كما حدث بالمثل اختلال كبير في نسب المقيدين في الجامعات الحكومية بين التخصصات النظرية والعلمية، ففي مقابل 1.49% للعلوم الاجتماعية، و1.20% للثقافية والأدبية، هناك 3.10% فقط للعلوم الهندسية، و2.7% للعلوم الطبية، ونسب ضئيلة أخرى لما سوى ذلك. كما شكل الالتحاق بالتعليم الفني الفرصة الوحيدة لاستكمال التعليم الثانوي لدى الأغلبية العظمى من أبناء الأسر الفقيرة وهو تعليم لا يقود غالبًا إلى التعليم العالي، ولا ينهي سوى 5.0% فقط من الطلاب بتلك الأسر الفقيرة تعليمهم الثانوي بنجاح. ولهذه الأسباب جميعها أصبح تدني جودة التعليم أحد أشكال الخلل الرئيسي المؤثر في علاقة هذا التعليم بسوق العمل، وأفرزت البطالة مشكلات عدة، وأسفرت عن وجهها لتكشف في الوقت نفسه عن الخلل الاقتصادي في سوق العمل. هذا الأمر لا يخص مصر وحدها، بل يطول الحالة التونسية كذلك، لأنه حين احتفلت الجامعة التونسية باليوبيل الذهبي لإنشائها قبل عامين (تأسست 1959) فإن معضلتين رئيسيتين تعرض لهما التقرير أفسدتا نشوة تلك المناسبة، وهما: بطالة خريجي التعليم العالي، والجودة المتدنية التي بدأت تصيب ذلك التعليم العالي منذ عقدين من الزمن، وخلص التقرير إلى أن اندلاع الثورة التونسية خلال ديسمبر 2010 كان دليلا على أن بطالة أصحاب الشهادات الجامعية كانت أحد أهم عوامل الانفجار الاجتماعي الذي أمد الثورة بتلك القوة الاحتجاجية الشبابية العارمة. وكان من مشاهد البطالة المستترة والحادة التي عصفت بخريجي الجامعات التونسية وتحول الدراسة في المرحلة الثالثة أو حتى الدكتوراه إلى باب للتحايل على البطالة وظروف المعيشة القاسية وليست لمواصلة البحث العلمي. وهكذا أصبحت الدراسة الجامعية وما بعدها بمنزلة استراتيجية تتأقلم بأن تلوذ بمقاعد الدراسة دون كفاءة نتائج مرجوة، خاصة حين ارتفعت نسب النجاح في السنوات الأخيرة ضمن ما بات يعرف بسياسة بيداجوجيا النجاح تجاوزًا لما عرفته الجامعة التونسية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من ارتفاع غير مسبوق لنسب الإخفاق الجامعي، وقد بلغ عدد العاطلين عن العمل، ممن تقدموا بطلبات تشغيل للوزارات التونسية المختلفة 508 آلاف (2007)، ارتفعوا إلى 740 ألف عاطل في شهر مايو الماضي، بعد 5 أشهر من اندلاع الثورة التونسية، وسجلت مناطق الجنوب والشمال الغربيين في تونس نسبًا قياسية للبطالة بلغت 28% من المجموع العام، ولاشك في أن حال التعليم الجامعي بمصر وتونس إنما هو دليل على حاله في بقية الدول العربية وجامعاتها. الكتابة والإبداع.. ملامح الرصد لكننا نتساءل: هل كانت تلك المشكلة الأم لمشكلات كثيرة تفرخها البطالة حاضرة في إبداعات وكتابات الشباب الأدبية والفنية؟ هذا ما نحاول أن نقرأه في ملامح حركة التأليف والنشر، التي خصها تقرير (كتابات الشباب العرب) بدراساته الميدانية والإحصائية. وقد عد التقرير كتابات الشباب من روائيين وشعراء وباحثين - كشريحة نخبوية - بمنزلة ترمومتر قياس درجة حرارة الجسد العربي في توتره وإرهاقه. نلاحظ، بداية، التفاوت الكبير بين كتابات الشباب العربي، من دولة لأخرى، ففي مصر بدت كتابات الشباب - في السنوات الأخيرة - تحمل نذر الثورة جهرًا وصراحة، ربما لاتساع مساحة حرية الرأي والتعبير التي شهدها المجتمع، بينما بدا المشهد الاحتجاجي خافتا وخجولا في بلدان عربية أخرى. وبصفة عامة بدت كتابات الشباب في العام 2010 محكومة بالتعبير عن الهامشية التي تسحق هذه الفئة، والانفصام الكبير بين طموح هذه الأجيال الشابة والواقع العربي، مع تفاوت الحدة. ففي لبنان الذي ولد معظم كتابه الشباب، وترعرع، في ظل أوضاع سياسية وأمنية سمتها الاضطراب وعدم الاستقرار والصراعات السياسية والمذهبية والطائفية، حيث ولد معظمهم بعد العام 1975؛ التاريخ الرسمي لاندلاع الحرب الأهلية، تلك الحرب التي كرست لهذه القضايا التي عصفت بالمجتمع ولا تزال عواملها؛ كما يقول التقرير، تجرجر نفسها في صيغة حرب أهلية باردة، وخطاب طائفي شاحن للنفوس، في حين تعبر كتابات الشباب السوري ـ المحكومة بحدود صارمة ضد التعبير الحر ـ عن تقييد هذه الحريات، في مقابل ما كان الحديث بمرحلة سابقة عن مرحلة الصعود القومي والتحولات الاجتماعية وسيادة أفكار التغيير الجذري، التي طبعت كتابات شباب جيلي الستينيات والسبعينيات، إثر انخراطهم - آنذاك - بالعمل السياسي للتعبير عن قضايا الشعب وهموم الأمة. إن هذا الملمح الأخير يضيء لنا الفريضة الغائبة في الإبداع الشبابي للجيل الحالي، حيث تَخفف هذا الجيل من أعباء ناء بها سابقوه، ولم يعد يعبر عن خيبات آبائه، ولا يعني ذلك أن الحال أصبح أفضل، وأن المشكلات حلت، وأن الجراح التأمت، فتقارير الفقر والفساد والبطالة تنهش كيانات مجتمعات عربية عدة، ولكن الظاهر هو أن بُعد هذا الجيل الشاب عن الانتماءات الحزبية - مباشرة وغير مباشرة - هو ما يجعل كتاباتهم بعيدة عن سابقيهم، وبعض مجايليهم، ممن يكاد إبداعهم - بسبب صيغته الحزبية - يظهر بمنزلة منشور حزبي أكثر من كونه نتاجًا شعريًا أو أدبيًا. وحاول مرصد التقرير البحث في الاهتمامات النوعية، بين الشابات والشبان، حيث رأى تقدم الحب في أدب الشابات، ليس كما في أدب جيل الستينيات - حيث كان نموذج الحب الرومانسي الهادف إلى الذوبان في الحبيب والموصل إلى النهاية السعيدة بالزواج هو السائد- بل يبدو الحب المعاصر مصابًا بالقلق والاضطراب، ويصعب وصوله إلى الزواج، مع استحالة ديمومته وثباته لفترة طويلة، فضلا عن تأثر الشابات بالثقافة التقليدية الداعية للانضباط، بحيث تتناقض وتصطدم مع الرغبة في التحرر. كما تعكس الكتابات التباين والمفارقة بين الشباب الذي يريد العيش حرا، غير مقيد بالتزامات، ومأسور بالحديث عن الجسد الذي يحتل مكانة مركزية تؤكد وتصور المضمر والمستبطن والتقلب والتنافر بالعطاء والتلقي، فضلا عن اللغة العامية أو الأقرب لها التي تشرخ جسد الكتابات. لكن الكتابات ليست كتبًا تنشر، ودواوين تصدر، وحسب، بل عرف الشباب مدخلاً لنشر الإبداع الخاص به عبر شبكة الإنترنت. لقد قفز عدد الشباب المستخدمين للإنترنت في مصر من مليون عام 2000 إلى 12 مليونا عام 2008، وبعد ظهور المدونات عام 2003 أصبح عدد المدونين في مصر مليونا عام 2010، وقد أظهرت هذه المدونات تأثر جيل الشباب (المبدع) بشخصيات ثائرة مثل أحمد فؤاد نجم، وصلاح جاهين ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين، وهو تلاقح بين جيل جديد وأجيال الستينيات التي حملت أحلامها القومية الكبرى على كاهلها. والمثير أن أبرز مؤلفي الكتب بالحياة الثقافية في مصر - وبينهم شباب - هم ممن يقدمون برامج تلفزيونية، أو يطغى حضورهم التلفزيوني على مجايليهم من الكتاب. الشباب والفنون.. إرهاصات الثورة إذا كانت الأبحاث والدراسات تكاد تُجمع على تراجع مكانة القراءة بوصفها ممارسة ثقافية، وهي لا تقتصر على جيل الشباب، لذلك يمكن أن نولي البصر نحو أطياف تعبيرية أخرى، كالمسرح، والسينما، والموسيقى، وهي ساحات وجد الشباب فيها ضالته للتعبير عن همومه وقلقه، والتعبير عن احتجاجه وثورته. فظهور السينما المستقلة في العام 2010 ونشوء مؤسسات سينمائية عربية داعمة للفن السابع وجرأة الفيلم التي لا تضاهى يمكن أن تقودنا مباشرة إلى دور إيجابي قامت به الحركة الفنية في تثوير الشباب، بل إن معظم الذين اشتغلوا بالأفلام المصرية الجديدة لسنة 2010 ـ كتابة وإخراجًا وتمثيلاً - كانوا في طليعة الشبان المصريين الذين بدأوا ثورة 25 يناير، سواء بالتعبير على الفيس بوك أو بالحضور المباشر في ميدان التحرير. لكن المشهد كان مغايرًا في تونس حين بدا مهرجان قرطاج العريق في خريف 2010 مثل مرآة فارغة، ولم يقدم الحقل السينمائي سوى فيلمين تونسيين، حيث كان المشهد يعاني انكسارًا منذ سنوات تحت ظل اليأس والبلادة حين شاخ جيل، ورحل آخر، وهاجر ثالث، مما يستدعي أن يقوم تغيير على بنية الفن - مع جيل شاب وثائر - لتونس الحرية. وجاء إنتاج السينما اللبنانية الجديد ليقدم بادرة تفاؤل على نجاح الفنانين في تجاوز الحرب الأهلية وذكرياتها، بعد أن أخافت نذر جديدة من تكرار مأساتها، وهو ما يحكيه فيلم نادين لبكي - الذي صور في 2010 وعرض العام الماضي ـ كإشارة إلى حساسية جديدة لسينمائية شابة التقطت الخطر، وهو ما يلتقي كذلك مع أفلام عديدة ظهرت تباعا خلال 2010، وارتبطت بالعرض في مهرجانات أبو ظبي ودبي والدوحة، حتى لقب عام 2010 بعام السينما اللبنانية. وفي وسط تألق السينما، في مصر ولبنان والمغرب، بل وفي سورية بالرغم من عدده القليل، لكنه قياسي مقارنة بسنوات سابقة، دخل المسرحيون العرب نفقًا مظلمًا، وبدا أن الزمن لم يخدم المسرح بعد تراجع أدواته، ويبدو أن ظاهرة الترييف التي طالت المدن العربية التاريخية هي التي أضرت بالمسرح، حيث لا يقوم مسرح دون مدينة، كما عمم المسرحي العربي ثقافة الصورة التلفزيونية، كما هي تجربة المسرح في الإمارات، التي عرض لها التقرير بكثير من التفصيل. أما في لبنان فقد غابت الأحاديث عن المسرحيات المليئة بالحس الشعبي، وهو حس يصفه التقرير بالميل إلى الاسفاف، إذ لم يعد المسرح اللبناني يحمل المتلقي إلى عالم آخر، ويحظى بالوقت ذاته بمستواه الخاص والمتميز، وخسر اللبنانيون جرأة العمل في المسرح، بعد ما خسر المسرح كنوز دهائه، وفصاحته الإغرائية، حتى أضحت المسرحيات الكثيرة مسرحية واحدة، كما فقد المسرح السوري أجيال الموهبة والإبداع والحرفية، فلا روح معملية، ولا ملحمية، ولا صرامة، وبات استمرار المسرح الفلسطيني معجزة تعتمد على قوة اليأس، كما أسفرت قراءة التقرير للحياة اليومية في مسرح القطاعين العام والخاص بمصر إلى نتيجة صاعقة، وهي انقراض المسرح الخاص، وفوضى القطاع العام، التي باتت غارقة في فوضى المهرجانات، فلم يعد المسرح المصري منسجمًا مع تاريخه، وانطفأت تجارب بسبب الشح الاقتصادي، بل ودخلت السفارات على خط الإنتاجات المسرحية السياسية والفرق المصرية! أما في الموسيقى، حيث تستقطب القنوات الغنائية قطاعًا كبيرًا من الشباب المشاهدين، فكانت ظاهرة فيديو الأغنية المصورة قد برزت لتغطي ثغرات الأداء الغنائي للمطربين والمطربات، والضعف الموسيقي في اللحن والتوزيع، وهشاشة الكلمات، مما نقل الثقافة الغربية للموسيقى الاستهلاكية إلى الثقافة الموسيقية العربية شكلا ومضمونا، كما تكفي المقارنة بين الأغاني الوطنية - التي لا تحتل المرتبة الأولى بتفضيلات الشباب - لدى جيل الستينيات والسبعينيات مع الأغاني الوطنية التي أذيعت عام 2010 لندرك تحول تلك الأخيرة إلى مجرد أغنيات احتفالية وتمجيدات مواكبة لمناسبات بعينها. لكن الغناء في مصر وتونس، قبل الثورة، كما رصد التقرير، شهد كثيرًا من إرهاصاتها، هكذا نسمع في أغنية (علمونا) التونسية: علمونا كيف نصنع من ظلام الليل شعلة، علمونا كيف نخبئ من جراح القلب فلة، وكذلك أغنية محمد منير (إزاي) التي رفض التلفزيون المصري إذاعتها عام 2010، وهي تحكي عن إحباط المواطن من وطنه: «أنا طفل اتعلق بيكي، في نص السكة توهتيه، إزاي أنا رافع راسك، وانت بتحني في راسي ازاي؟» لتصبح اليوم أيقونة موسيقية تكرر بكل المحطات. الشباب والمعلوماتية.. مستقبل الثورة عبر كثيرون من محللي الثورتين التونسية والمصرية عن قوة المعلوماتية التي فرضت نفسها كأدوات في التثوير والتغيير، ولكن التقرير يضيف بعدًا ثالثًا وهو كيف عبرت هذه المعلوماتية، بأدواتها وبواباتها، عن فكر الشباب في مساراته المختلفة، وكيف يمكن أن تحدد هي أيضًا المستقبل، فالتدوينات تستقطب جمهورها الكبير، وقد جاءت الاستجابة الأكبر لمدوني مصر والسعودية والكويت، مما يعني قدرة هذه المدونات على التأثير في قطاع جماهيري أعرض عبر بوابات الشبكات الاجتماعية. وقد وازن التقرير بين المشاركات المرفوعة للإنترنت وبين التعليقات عليها، فكان هناك توازن بين المشاركات والتعليقات في قطاع كالتعليم، وارتفعت جماهيرية القضايا المثارة عبر الفيس بوك، كما عكس تفوق التدوين النسائي في تسع دول مقارنة بنظرائهم الذكور الفرصة التي يتيحها الإنترنت للتخفي خلف قناع إلكتروني في المجتمعات الذكورية، وعن الراحة السردية للمرأة من وراء ستار تخيلي افتراضي قد لا تظهر فيه بشخصيتها الحقيقية، كما أظهرت التحليلات أن التدوينات تختلف بين الجنسين، وأن الخواطر فيها نبوغ للإناث، بينما احتلت السينما والموضوعات الدينية أولويتها عند الذكور. كما كشف تحليل العينة أن الأغلبية الساحقة من المدونين لا تميل إلى الكشف بوضوح عن مهنتها، فلم يذكر المهنة 85% من أصحاب المدوّنات، بينما يقبل على التدوين، بين أصحاب المهن، وعلى مستوى الوطن العربي كله، الصحافيون والكتاب والطلاب، ثم المدرسون ورجال التعليم، بينما يأتي في ذيل القائمة الدعاة وأصحاب المهن الدينية ورجال الأعمال. وقادت مقاييس بصمة الجغرافيا للمدونات، إلى تحديد القضايا التي تناولتها، حيث جاءت القضايا الدينية بالمقدمة، في جميع الدول العربية، عدا السعودية والسودان والكويت وجيبوتي ولبنان ومصر، التي تراجعت فيها للمرتبة الثانية، واحتلت قضايا السينما المراكز بين الأول إلى الرابع والعشرين، فهي الأولى بالسعودية، والثانية بالجزائر، والثالثة في مصر، والخامسة في جيبوتي، والتالية في الكويت والبحرين، والتاسعة بالعراق وسورية، بينما كانت القضية الحادية عشرة في فلسطين. المهم أن التقرير كشف كيف كانت الحركة في الفضاء الرقمي موازية للحركة في الشارع، وهو ما يدعونا إلى إعادة التفكير مرة أخرى في أدوات قياس الرأي، ومتابعة القضايا المثارة على شبكات التواصل ومدونات الشباب. إن هذه الآراء والأفكار ـ دون شك ـ تقدم ما يشبه الإنذار المبكر للمستقبل. لقد مثل الفضاء الرقمي التفاعلي العربي عام 2010 ساحة تبارى فيها الشأن العام مع الخاص، وتصارع الشأنان على اهتمامات الفرد والجماعة معًا، وتنبئنا الأرقام أن عنفوان الصراع بلغ حدا من الحيوية يفوق الواقع الفعلي. فالإنسان العربي - والشاب تحديدًا - لم ينغلق على اهتماماته الشخصية الضيقة، بل تلفت حوله، فسمع ورأى وشارك فيما ينقله، وما كان ذلك إلا عقب خوضه بحرًا من التيارات المتلاطمة لبيانات ومعلومات متباينة المسارات. وكأننا نقول إن الحركة داخل ذلك المحيط المتخيل هي التي أثارت الإعصار الكبير الذي انطلق من الإنترنت إلى الواقع. هكذا كانت الثورات على الإنترنت سابقة للثورات في الميادين. وهكذا فكر الشباب وانفعل فأبدع وخرج حاملاً للآراء والأفكار بعد أن أخذت زخمًا هائلاً، ليتحول الهمس عبر الشاشات المضيئة للهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر إلى بحر هادر، لانزال نتلمّس آثاره اليوم، وربما لسنوات طويلة قادمة.