إرهاصات قصيدة النثر العربية وتحوّلاتها

إرهاصات قصيدة النثر العربية وتحوّلاتها

لا يهدف هذا المقال إلى ملامسة الأفق الذي يمكن أن تبلغه جماليات الكتابة «النثرية prosaics» (أو «البروزيقا» بلغة ميخائيل باختين)، فحسب، بل يسعى إلى تحليل الخصائص النوعية الفارقة التي تنضوي عليها أيضا، وذلك عبر تحليل بعض مقولات الشعرية العربية الراهنة وتنظيراتها التي تتناول جنسًا إبداعيًا ينتسب، شكلا (من حيث الغلاف والعنوان) ومضمونا (من حيث الوعي بحدود النوع)، إلى ما يُعرف باسم «قصيدة النثر».

لكن ذلك لا يعني مطلقا أن صدور أي مجموعة شعرية جديدة تنتسب إلى جنس قصيدة النثر هي شعر جيد، فتلك قضية أخرى تحتاج إلى الكثير من الاشتغال النقدي والدرس الجاد غير المثقل بإرث معرفي غارق في الأيديولوجيا التي كانت تنظر إلى الأنواع الأدبية، حتى وقت قريب جدا، بوصفها جزرا منعزلة لا يمكن أن تتلاقى عند نقطة (شعر/ نثر/ دراما، قصة/ رواية/ سيرة ذاتية/ ملح). بادئ ذي بدء، يمكن القول إن قصيدة النثرية كتابة مراوغة لا تقنع بقصدية الشاعر فحسب إلى أن يكتب شعرا نثريا، أو يحدد ذلك على غلاف كتابه، بل تطالبه بأن يكون ذا وعي حادّ بجماليات (ويمكن القول مع الكثير من الاحتراز «حدود» أو «قوانين») ذلك النوع الشعري الذي ينهض - دون رغبة استباقية منا في التنظير لكتابة متمردة بطبعها - على «التكثيف» (أو الاختزال) و«المجانية» (أو اللازمنية) و«التوهّج» (أو الإشراق)، فضلا عن مظاهر وتقنيات وأساليب أخرى سوف يكشف عن بعضها هذا المقال.

مسارات الأدب العربي

لقد عرف الأدب العربي الحديث، بصفة عامة، ونظرية الشعر خاصة، عدة مسارات انعكست في عدد من الدراسات الأدبية والنقدية التي يجب أن تستوقف القارئ العام أو الباحث المدقّق الذي يسعى وراء المعرفة والفهم، بعيدا عن طبقات الأيديولوجيا؛ لأن هذه الدراسات كانت بمنزلة الصدمة المعرفية التي أحدثت عاصفة شديدة هزّت تيار الشعر العربي خاصة، والنظرية الشعرية عامة. ففي بداية العشرينيات، كان كتاب «الديوان» للعقاد والمازني (1921) واحدا من هذه العلامات، بما انطوى عليه من نقد لاذع مارسه المؤلفان على أقطاب الكلاسيكية، فأولهما قد صبّ انتقاداته على رأس أحمد شوقي، بينما انفرد ثانيهما بتقريع كل من المنفلوطي وعبد الرحمن شكري. وبعد خمس سنوات، ظهر كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين (1926) الذي قامت عليه الدنيا ولم تقعد، إلى أن انتهى الأمر بمحاكمة مؤلفه وتبرئته، ثم عدوله عن بعض الأفكار وإعادة طبع الكتاب مرة أخرى تحت عنوان «في الأدب الجاهلي» (1927). والحادثة معروفة تاريخيا وموثقة في الكثير من المصادر. وفي الخمسينيات، كان كتاب «في الثقافة المصرية» (1955) لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس الذي أحدث ثورة بالغة الحدة على التيار الرومانسي، وتحديدا على العقاد وطه حسين؛ إذ اتخذ مؤلفاه موقفا نقديا حادا - قائما على فهم جديد للأدب الواقعي يشتبك مع الكثير من النصوص العربية التي كان يصدرها كبار الكتاب آنذاك كالعقاد ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي، وغيرهم. وفي السبعينيات، خرج على القراء كتاب أدونيس «الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب» (1974) وما أحدثه من لغط وجدل استمر طويلا.

وخلال حقبة الثمانينيات انشغل الواقع الثقافي العربي بترجمة الفكر البنيوي ومحاولات تطبيقه عربيا، وهو أمر يتجلّى بوضوح لمن يتصفح أعداد مجلة «فصول» وحدها منذ بداية ظهورها، تحت رئاسة عز الدين إسماعيل، وتحرير كل من جابر عصفور وصلاح فضل، وغيرهما، وهو أمر جدير بدراسة تقع في دائرة نقد النقد، بحيث تطرح سؤالا محوريا يقوم على مساءلة الدراسات النقدية التطبيقية العربية (في مجالات الشعر، والقصة، والرواية، والسرد القديم، وغيرها) ومدى نجاحها أو إخفاقها، من حيث الإنصات لطبيعة النص الأدبي العربي أو محاولة الالتفاف على النصوص وتحويلها إلى معادلات وإحصاءات رياضية أفقدت الأدب والنقد العربي الكثير من جمهوره. وفي أواخر التسعينيات، يمكن وضع كتابي «المرايا المحدّبة» و«المرايا المقعّرة» لعبد العزيز حمودة في هذا المسار المحتدم منذ بداية القرن، حيث اشتبك مع كتابي المرايا، وتحديدا الأول منهما، الكثيرون من أقطاب الحداثة العربية - على رأسهم جابر عصفور - فكانت المعركة الشهيرة التي فتحت لها جريدة «أخبار الأدب» المصرية صفحاتها ونفخت عليها، وذلك في الفترة من ديسمبر 1998 إلى يناير 1999م.

الأصول الكلاسيكية

لا يهمنا في هذا السياق تتبّع جميع التحولات المفصلية في مسار النقد العربي الحديث، بقدر ما يشغلنا التأكيد على ما حاول أن يؤكّده العقاد في «الديوان» من سقطات امتاز بها شعر شوقي وشعر الكلاسيكيين جميعا، واختزلها في أربعة مآخذ، هي على الترتيب كما وردت في كتابه: «التفكّك»، و«الإحالة» (فساد المعنى)، و«التقليد»، و«الولوع بالأعراض دون الجواهر». إن الأصول التي كان يبني عليها العقاد رؤيته لمفهوم الشعر ترتبط بجوانب ثلاثة: أولها إيمانه بأن الشعر ليس صنعة ولا لهوا أو زخرفا، وإنما هو لباب اللباب، وأداة معرفية لمعرفة الذات والآخرين والكون. وثاني هذه الأصول هو مفهوم الوحدة العضوية، حيث نراه يقول:

«إن القصيدة ينبغي أن تكون عملا فنيا تاما يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخلّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها. فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة» (ص 11).

وثالث هذه الأصول أن هدف الشعر هو الوصول إلى الحقيقة الجوهرية وعدم الوقوف عند ظواهر الأشياء. وفي ذلك، نراه يقول مخاطبا شوقي:

«اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعدها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به». (ص 11-12)

جنس شعري إشكالي

منذ لحظة المخاض الأولى، وُسِمت قصيدة النثر Prose Poem بأنها جنس إشكالي بزغ إلى المشهد الشعري العربي في حقبة الخمسينيات على يد جماعة مجلة «شعر» اللبنانية، ثم انطلقت شرارة المعرفة البروميثية، أو موجة السندباد الطموح، وأخذت في الاتساع والتنامي شيئا فشيئا، على المستويين الأفقي (من حيث امتداد الجغرافيا العربية: لبنان، سورية، مصر، العراق)، والرأسي (من حيث التجريب النوعي والجمالي المتعلق بطرائق الكتابة الشعرية وأساليبها). لقد أخذ ذلك التنامي في الاستمرارية عبر موجات تتابعت حتى هذه اللحظة، بحيث يمكن للباحث، إجمالا، اختزالها في ثلاث موجات مفصلية على الأقل:

أولاها: تزامنت مع حقبة الخمسينيات، وامتدّ تأثيرها إلى تحولات الستينيات العربية، بما انطوت عليه من أحلام قومية و«سرديات كبرى» ارتبطت بالتحرير والتنوير والعدل، على أيدي أعضاء مجلة «شعر» يوسف الخال (1917-1987) وأنسي الحاج (1937) وأدونيس (1930) ومحمد الماغوط (1934-2006). لقد كانت حركة مجلة «شعر»، وقتذاك، بمنزلة الحصاة الثانية التي تمّ إلقاؤها في مياه الشعر العربي، بعد ثورة التفعيلة التي تزعمها صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهما. ولا مفرّ من أن نفرق هنا بين الشعر الحر وقصيدة النثر. فالشعر الحر جاء، في أغلبه، تطورا طبيعيا لاتجاهات الشعر العربي، وربما يكون ذلك التطور قد تأخّر هنا بالمقارنة مع الشعر في اللغات الأخرى. ولا نستطيع أن ننسى هنا أيضا أن الشعر الحر - رغم خروجه على القافية ظل محتفظا بجوهر الشعرية بما تتضمنه من موسيقى وخيال وصور. ولابد أن نلمّح أيضا إلى القصة التي يعرفها الجميع فيما يتعلق بالمساجلة التاريخية التي دارت بين العقاد وعبد المعطي حجازي، حينما اتهم العقاد كتّاب الشعر الحر بأنهم أناس لم يتجهوا إلى هذا اللون من الشعر إلا بسبب عجزهم التام عن إبداع قصيدة عربية تقليدية. ويومها كان ردّ حجازي هو نشر قصيدة عمودية التزم فيها بأوزان الشعر التقليدية، ليقول للعقاد إنه لا يقدر على الجديد إلا من هضم القديم وعرفه حق المعرفة.

كما ذكرنا آنفا، فقد انطوت الموجة الأولى من تيار قصيدة النثر على حلم قومي وسردية عربية كبرى تدور في فلك التحرّر من الاستعمار وتنوير أو تثقيف الجماهير العربية العريضة Mass Culture. ولا يعني مصطلح «السردية»، هنا، القصص بمعناها «المتخيّل» Fiction المسوَّر بحدود الأدب وأجناسه وأنواعه فحسب، وهذا أحد معانيه المتداولة بالطبع، وإنما يعني - في سياق الحديث عن «السرديات» من منظور ثقافي شامل- ما تستند إليه أي فئة من الفئات، أو جماعة من الجماعات الإنسانية، استناداً ضمنياً في بناء مقولاتها وتصوراتها الكبرى، سواء استندت في ذلك إلى متن شعري أو محكيّ واقعي أو متخيّل أو أسطوري أو رمزي أو سرد حجاجي أو فولكلور أو تاريخ شفاهي. فلكل فئة سردية مرجعيتها الهيكلية التي تنهض عليها أقانيم فكرها وأيديولوجياتها وتصوراتها عن الأنا والآخر والهو.

ثانيتها: بلغت ذروتها في حقبتي السبعينيات والثمانينيات (لدى كل من: أمجد ناصر، سيف الرحبي، بول شاؤول، سركون بولس، عباس بيضون، حلمي سالم، عبد المنعم رمضان، رفعت سلام، حسن طلب، عدنان الصائغ، إسكندر حبش، عابد إسماعيل، ... إلخ).

لقد ارتبط شعر السبعينيات، بصفة عامة، بجماعتي «إضاءة 77» و«أصوات» اللتين خرجتا إلى الساحة الشعرية المصرية والعربية في أواخر العقد السابع من القرن العشرين. وكان تأسيس هاتين الجماعتين بمنزلة إعلان عن انفصال هؤلاء الشعراء عن التيارات الشعرية السائدة، وعن المؤسسة الثقافية المصرية في ذلك الوقت.

لقد أثار مصطلح «شعراء السبعينيات» آنذاك صخبا عارما حول مدى تمايز الإنتاج الشعري لهؤلاء الشعراء عن أسلافهم، ومدى مغايرة رؤاهم النظرية أيضا القائمة على جِدّة «مفهوم الشعر» (سواء من حيث الماهية أو الأداة أو الوظيفة). فضلا عن ذلك، فقد أثار المصطلح مشكلات عدة ارتبطت بما يمكن طرحه حول مسألة «الجماعة الشعرية» التي تزامن ظهورها مع تدهور المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي في عقد السبعينيات؛ الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى الربط بين ظهور «إضاءة 77» وتاريخي 18 و19 يناير من العام نفسه، الذي حدثت فيه موجة الانتفاضة الشعبية التي وسمتها السلطة آنذاك بانتفاضة الحرامية، ووصفها المثقفون بانتفاضة الخبز. وهو العام نفسه الذي اختُتِم بزيارة السادات لإسرائيل وتوقيع معاهدة السلام (كامب ديفيد).

ثمة سؤال يفرض نفسه هنا: هل يمكن اعتبار هؤلاء الشعراء الذين أُطلِق عليهم اسم شعراء السبعينيات - وكان أغلبهم يكتب قصيدة التفعيلة في البداية قبل التحول إلى الكتابة النثرية لاحقا بمنزلة حركة فنية جديدة (طليعية) تخالف من سبقهم من كتّاب الخمسينيات والستينيات؟ بمعنى: هل كانوا بمنزلة جيل شعري له خصائص فنية وخلفيات أيديولوجية مشتركة، متقاطعة أو متوازية، في ما بينهم؟ أم كانوا امتدادا لـ (وربما: انحرافا عن) حركات شعرية سابقة وجدت رمزيتها الفنية والجمالية في أمثال محمود درويش وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي (وأمل دنقل لاحقا) وحركة مجلة «شعر» اللبنانية (يوسف الخال، أنسي الحاج، أدونيس، محمد الماغوط)؟

إن طرح مثل هذه التساؤلات، الآن، سوف يكشف للباحث عن طبيعة تحولات الشعرية العربية المتسارعة وطبيعة المسار الذي رسمته، أو حفرته، قصيدة النثر لنفسها أيضا، دون أن يلحق بها قطار النقد العربي المتباطئ و/أو المتواطئ.

ثالثتها: مع استمرار تصاعد الكتابة النثرية، تشكّلت الموجة الثالثة في كتابة القصيدة الجديدة مع بلوغ العقد الأخير من القرن العشرين (نذكر من بينهم من المصريين على سبيل المثال، لا الحصر: عماد أبو صالح، كريم عبد السلام، جرجس شكري، فاطمة قنديل، إيمان مرسال، وغيرهم.. ). ثم تبعهم الكثير من الأصوات الشعرية التي ظهرت نصوصها مع الألفية الجديدة، التي لايزال بعضها يعزف على الوتر ذاته، في الوقت الذي يسعى بعضها الآخر إلى تلمّس مكامن المغايرة ومواطن الاختلاف.
---------------------------------
* ناقد وأكاديمي من مصر.

 

محمد الشحات*