تعقيب على مقال الحوار المفقود

في الصفحة الأخيرة من مجلة العربي العدد 650 - يناير 2013م، قرأت مقالا للدكتور لطيف زيتوني، وقد راقني أسلوب تناول موضوع «الحوار المفقود»، إذ كان المقال مركزا تركيزا جعله يقف على علاقة الحوار - إن وجد - وطبيعة المشاكل التي نتخبط فيها، واعتبر الحوار في مفهومه السامي والعميق تفاعلا يجري بين الناس، ويترك في طرف شيئا من الطرف الآخر، والمعضلة الكبرى وفق المقال أن في الحوار التربوي أزمة سببها استبدادية المعلم، وانفراده بالكلام، بل إن ندواتنا واجتماعاتنا وطاولاتنا المستديرة واللقاءات الموسعة بمنزلة مقبرة للحوار.... وفي الحوار التفاوضي أزمة سببها سعي كل طرف إلى تحقيق التسوية الموافقة لرغبته. ولقد ختم الكاتب مقاله باعتبار الحوار ممكنا دائما شرط توافر الرغبة في الحل. أما غياب الرغبة عند بعض الناس فهو موقف ضد من لا يوافقهم الرأي وليس نقصا في استعداد الآخرين.

لن يختلف اثنان على أهمية الحوار في توطيد العلاقات وربط جسور التواصل بين الجماعات الكبيرة والصغيرة بين المجتمعات وبين الدول، الحوار ضرورة إنسانية وحضارية، الحوار أساس توحيد الجهود والرؤى، وأساس تصحيح المسارات والأفكار، فلا يمكن الاستغناء عن الحوار بأي حال من الأحوال، ولذا فالحوار مطلوب مطلوب، وقد حفلت آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالكثير من النصوص والأمثلة التي تبين بحكمة وعمق جدوى وأهمية الحوار في توطيد العلاقة بين الناس، وقد سجل القرآن الكريم تحاور كثير من أنبياء الله مع قومهم، وللمسلمين أن يتعلموا كيفية التحاور في ما بينهم وفي ما بين غيرهم من الأمم الأخرى. ومن شأن ذلك أن يجنبنا الكثير من الويلات والمستنقعات التي مازلنا نغوص فيها، ويكاد الكثير من الباحثين والمفكرين أن يجزموا بأن جل معضلاتنا منبعها انعدام الحوار الإيجابي المثمر بيننا.

لكن الحوار ليس دائما أهلا بأن يكون في مستوى الأدوار والغايات المذكورة، بل إنه إذا خرج عن معايير إفادته سار عاملا في الخصومات والقتل والإرهاب وسوء العواقب عامة.

وفي القرآن الكريم طريقة وشروط الحوار الهادف بكل أبعاده، شروط إذا احتُرمت بلغنا منه غايات جليلة تتصل بالتربية والإصلاح بين الناس، ونبذ الخصومات وتصحيح كل المسارات التي يتأسس عليها البناء الحضاري. وكل القضايا المتصلة بمصالح الناس وبدنياهم وآخرتهم وتماسكهم وتفرقهم وتفاهمهم وتعاديهم مفتاحها الحوار الهادف اللائق الذي بإمكانه رأب الصدع ومحو الشقاق وإعادة التعقل والحلم والتبصر والسماحة. إن الحوار هو الذي يقرب بين المتباعدين حين يحقق جسور التقاطعات للمصالح المشتركة، وبذلك يعتبر المنار والكاشف للمشترك المؤدي إلى توحيد الجهود لتنفيذه والحصول على ثماره بعيدا عن الحزازات والحواجز السياسية التي تغلب عليها الأيديولوجيات الضيقة... وحتى نجنب أبناءنا الكثير من الهنات والعقبات التي سقطنا فيها علينا أن نجعل التربية على الحوار ضمن البرامج التعليمية بكل امتداداتها، فليس هناك ديمقراطية ولا شورى ولا إنصاف دون التمسك بالحوار المقرب لوجهات النظر بالشكل المفضي إلى التفاهمات الممكنة. ولا يمكن إدارة شئوننا، وتجاوز معضلاتنا سوى بحوار موضوعي يستبعد الذاتية والأنانية الضيقة.

ومما يؤسف له أن المسلمين بجماعاتهم وطوائفهم مازالوا يضعون الجدران السميكة بينهم، مستبعدين أي حوار يناقش قضاياهم المشتركة. والمتأمل للثورات العربية يجد أن التخبطات التي تعتري مسيرتها ليس لها سوى حل واحد يتعلق بالحوار الإيجابي، وكل التراشقات والشتائم والاتهامات والتمادي في التجاهل للمشترك الوطني والديني والاجتماعي منبعه غياب الحوار المحمود الذي يُشفي ولا يُشقي، يهدئ ويصفي الأجواء العلائقية بدل أن يلوثها، إنه الحوار الذي يغذي التدافع والتآزر، ويمنع الصراع المدمر للوحدة والرؤية المشتركة.

إن تغييب الحوار يعني إحضار الصراع الذي يستنفد الطاقات والسنوات دون نفع ولا إثمار. فالصراع المبني على التعنت والأنفة الفارغة يدمر التواصل والتقارب، ويذكي نار الفتنة والاقتتال، والضحية شعوب تبحث عن لقمة عيش تتناولها في جو هادئ مريح.

نحتاج إلى حوار مؤسس على فهم دقيق للمُتحَاور معه باعتباره إنسانا يصيب ويخطئ مثلنا، وفي كل حوار إيجابي تظهر القواسم الإنسانية المشتركة بين كل البشر. إن التعصب، وتجاهل حق الاختلاف، ومرض الشعور بالعصمة والعظمة، وادعاء الاستفراد بالصواب، والترفع عن الاعتراف بالخطأ واستحكام الأهواء والعواطف... أمور تسيء إلى الحوار، ليصير هادما وناسفا لكل ما يمكن التشبث به من أجل تحقيق الحدود الدنيا للوحدة مع الاحتفاظ بالخصوصيات.

إن الحوار يجب أن يُنظر إليه كأي نشاط إنساني يمكن أن يهدم، كما يمكنه أن يساهم في البناء بفعالية ونجاعة، فالحوار من أهم عناصر الحياة الاجتماعية، عبره نبلغ الآخرين مشاعرنا ورؤانا وأهدافنا وطموحاتنا ورغباتنا الآنية والآتية، ولا نتصور أي أداة للتواصل والتفاعل الاجتماعي وحتى السياسي أفضل من الحوار. وكل عائق أمام الحوار الإيجابي نعده عائقا يجعل الحوار كائنا شائها عديم الفائدة للأفراد والجماعات على السواء، وكل محاور لا يؤمن بالتعددية في الرأي والنظر مآل حواره الانسداد والتقوقع المظلم المفضي إلى المصائب، وإلى الإيمان الأعمى بالأحقية، والحوار العربي الآن هو الذي أدخلهم في مآزق لا ندري منتهاها. حوارنا منزو في الحديث عن أمور ثانوية جانبية لا تقدم ولا تؤخر، وإنما هي مضيعة للوقت ومضيعة للجهود بلا نتيجة تنتظر منها. الحوار ينبغي أن يؤسس على أسس من الموضوعية تبعده عن ساحات المعارك التي لن يفوز فيها أي طرف من المتحاورين، فكل منهم يحاول نسف الآخر عبر الاتهامات المتبادلة، وعبر الابتعاد عن المطلوبات الواضحة والضرورية لاستمرار التعايش السلمي المفيد لكل الأطراف، الحوار بين العرب حوار مغلق يزيد الأزمة تأزما ويزيد في كهربة العلاقات بين الناس. إن الوجود البشري مبني على الاختلاف كما البيئة التي يعيش عليها، والاختلاف يكسب وجودنا التدافع والتنوع المحفز نحو مراتب السمو، ومن هنا يستقي الحوار أهميته وجدواه، بالاختلاف نستنبت الجديد من الأفكار والإبداع... بالحوار تتضافر الجهود من أجل فك المشكلات والأزمات المسيئة إلى انسجامنا وتآزرنا من أجل الرقي المعرفي والعمراني والسلوكي.

علينا إيلاء الحوار ما يستحقه من العناية في المدرسة والمسجد والإدارة والشارع ، فهو من الأمور المفضية إلى الانسجام الممكن بين الأطراف المختلفة. فكل طرف يحمل من الاختلاف بقدر ما يحمله من ائتلاف. وحتى نبلغ مرامينا من الحوار ينبغي تحري أدبياته وأخلاقياته التي تستوجبها الإنسانية الرابطة بيننا قبل أي شيء آخر. وإلاَّ فإن أزمة الحوار بيننا سينجم عنها مزيد من العزلة والفردانية القاتلة للإبداع والحس الإنساني الذي يمدنا بالتضامن ويحدو بنا نحو الرقي والانعتاق.

لحسن ملواني
المغرب