قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص?

-------------------------------------------

توصلت في إطار مسابقة «قصص على الهواء»، لما مجموعه ثمانية عشرة مساهمة «قصصية»، لكتاب ينتمون لمجموعة من البلدان العربية: من مصر والمغرب وسورية والسودان وتونس والسعودية واليمن والأردن والعراق؛ مساهمات يتفاوت شكلها وحجمها بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا والخاطرة والنص المفتوح، وهو ما يشي بحدوث اهتمام مواز ولافت بالكتابة داخل هذه الأشكال السردية، في تنوعها وفي تباينها، وفي انتماء كتابها إلى أقطار عربية مختلفة.

وبعد قراءة في مجموع هذا التراكم من المساهمات والنصوص، توصلت، في مرحلة أولى، إلى وضع لائحة أولى، تشتمل على سبع مساهمات من مجموع المساهمات المتوصل بها، فيما استبعدت مساهمات أخرى من المسابقة لأسباب مختلفة، أذكر من بينها: كون بعض نصوص هذه المساهمات لا تتوافر - أصلا - على أي حس إبداعي قصصي، وبعيدة كليًا عن مجال الكتابة القصصية، فضلا أيضا عن خلو بعضها من عنصر التخييل والبناء، وافتقادها لمقومات السرد القصصي. كما نحس بنصوص أخرى وكأنها بمنزلة محاولات أولية للتمرن على «التعبير» و«الكتابة»، حتى لا أقول على الكتابة القصصية، لكون بعض كتابها يفتقدون للموهبة الأدبية اللازمة لكتابة القصة، فيما يستسهل البعض الآخر لعبة الكتابة، حيث يهيمن الأسلوب التقريري المباشر على نصوصهم، مما يبعدها كليًا عن الأسلوب القصصي، إذ جاءت طافحة فقط بكثرة الأحاسيس المبالغ فيها وبالانطباعات الزائدة والمباشرة.

ومع ذلك، فإن بعض كتاب هذه المساهمات المستبعدة من المسابقة، وخاصة منهم أولئك الذين نحس بامتلاكهم، إلى حد ما، لأبجدية الكتابة، يحتاجون فقط إلى صقل موهبتهم، وتعميقها، عبر الإكثار من قراءة الموروث القصصي العربي والعالمي، بغاية إدراك مقومات الإبداع القصصي، وتملك شروط الكتابة والتخييل والصنعة. وبالعودة إلى قراءة النصوص السبعة المختارة، توصلت، في مرحلة ثانية، إلى حصر لائحة القصص المرشحة للفوز بمسابقة هذه الدورة في خمس قصص فقط، وجدت أنها تتوافر على حس إبداعي مشجع وعلى مقومات كتابة القصة، موازاة مع امتلاك كتابها للغة الكتابة والتعبير القصصيين وهذه القصص المختارة هي:

  • «قصص قصيرة» لهبة عصام الدين - مصر:

«قصص قصيرة» تقتنص لحظات إنسانية منفلتة، عبر رؤية للذات والعالم، من منظور جزئي، شذري وليس كليًا، كما أنها قصص مغلفة بسريالية تجعلنا أمام قص تجريبي، وتمكننا من التقاط مشاعر وسلوكيات وعلاقات إنسانية ظلت تتأرجح بين ثنائيات: الجرأة والخوف، والحلم والحقيقة، والفناء والبقاء... فمثلا، تبدو ثنائية «الجرأة والخوف» بشكل جلي في قصة «جيسيكا»، الشخصية المهزوزة، القلقة، الحزينة، التي تتوق إلى لحظة لا تجيء، وإلى موعد حتما ستخلفه لخوفها وهشاشتها. أما في قصة «عزلة»، فتهيمن ثنائية «الحلم والحقيقة»، إذ تنسج الكاتبة رؤية عميقة للعالم، الذي يبدو أعقد من بساطة الإنسان وعفويته، والذي لا يمكن أن نهزمه سوى بالحلم، أسئلة تتناسل ولا تفنى، فضلا عن كونها قصصًا تستحضر هواجس الإنسان وقلقه وانتظاراته وخيباته وعجزه، بلغة شفيفة مكثفة، مشحونة بالانفعالات، وخالية من الحشو والإطناب الزائدين، ومسرودة عبر جمل رشيقة وشاعرية لم تلفظ النصوص خارج دائرة القص، بل منحتها تأشيرة ولوج عالم القص بامتياز.

  • قصة «السيارة» لياسين أبو الهيتم - المغرب:

هي اشتغال فني على المدينة، تحديدا «مراكش»، باعتبارها فضاء دلاليا مغريا وذاكرة يحاول الكاتب أن يعيد إليها الاعتبار؛ اشتغال يتراوح بين نوستالجيا التذكر والرؤية الواقعية للمكان وصموده أمام تحولات الزمان، وإرغاماته، بما يتهدد المكان من محاولة مسخ ومحو وعرقلة لكل عملية ترميم وحفاظ على الذاكرة. ويتم رصد ذلك من خلال «سيارة» أجنبي سحرته مراكش بغرائبيتها، فأقام بها، وكانت السيارة هي السبب في عرقلة عملية ترميم أحد المباني التاريخية، كقدر وقضاء حالا دون إتمام عملية الترميم، مستحضرا رموزا تاريخية وفلسفية، ومراحل تاريخية مهمة من تاريخ المغرب، عبر توظيف الحكاية والتفاصيل، موازاة مع اعتماد القصة للغة رصينة، ودقة في الوصف، بشكل يجعل هذه القصة قابلة للاستطالة، وقابلة أيضا لأن تتخذ شكل رواية.

  • «شفاه مقفلة» لمحمد رشيد - العراق:

قصة تبدو أشبه بأضغاث أحلام، تحمل رؤية فلسفية، بما يجعل منها قصة شبه سريالية، تحمل ملامح التجديد والحداثة، من خلال لغتها وصورها الشاعرية التي تعمق الطابع الدرامي في بنيتها، ربما أحداثها مأخوذة من ويلات الحرب، وهو ما يجعل منها محكيا لمعاناة جماعية إنسانية، تعرضت لكل أنواع القهر والتعذيب، من خلال معاناة امرأة تعرضت للتعذيب والاضطهاد من طرف جلاد، ربما تكون هذه المرأة رمزًا للوطن ككل، فالنص، اعتبارا لغناه، يحتمل أكثر من تأويل ومفتوح على عديد القراءات.

يوظف الكاتب في هذه القصة لغة سليمة، شفيفة، وحكيا سلسا، ولغة تمارس انزياحاتها لتكسر معيارية اللغة، فضلا عن توظيفها لقاموس لغوي مأخوذ من ساحة الحرب ومن عالمي الرعب والعنف، هي إذن لغة بملامح عدوانية وعنيفة.

  • قصص «حضن» لحنان بيروتي - الأردن:

ثمة اهتمام بتفاصيل صغيرة وحميمة من خلال طالبة تحضن محفظتها، فأثارت فضول معلمتها، التي سرعان ما حاولت أن تنتزعها منها، لتكتشف أن تعلقها بمحفظتها هو تعلق بهدية ستحملها لأمها التي لم ترها منذ ولادتها. وفي قصة «دمعة» تحوم الكاتبة في نفس العوالم، من خلال نزاع بين طفل وأخته، يحاول أن يتقمص فيه دور الرقيب، شاكا في رسالة تحملها أخته، ليكتشف في الأخير أنها رسالة موجهة له، كتبتها أخته بمناسبة عيد ميلاده. ويتم التعبير والحكي عن هذه الحالات بأسلوب بسيط وشفيف وصادق، وبدقة في الوصف، وعبر تكسير الزمن، بحيث تبدو القصة عبارة عن ومضة أو توقف عند لحظة واحدة ستشكل قصة بأكملها. وما يربط القصتين معا ويشكل لحمتهما، هو اشتغالهما على شخصية الطفل، وإرغاماته النفسية والشعورية، في ارتباط هذه الشخصية بعالمها الأسري وبالمتغيرات والأحداث المتضافرة، إذ يتم التعبير عن ذلك كله بحس إبداعي مرهف وطافح بالحنان والدفء والألفة.

  • قصة «خسوف» لهناء جودة - مصر:

تمكنت الكاتبة بتلقائية أن تشيد من ظاهرة الخسوف بناء قصصيًا متينًا ومتماسكًا إلى حد ما، من خلال شخصية طفل أرعبه هذا المشهد حين استبد به الخوف من عدم عودة بزوغ القمر، كي يرى فيه وجه أمه التي ماتت منذ زمان، وهنا تتناسل أسئلة طفولية لكنها تبدو وجودية، تجول في ذهن الطفل أمام هذا المشهد «الصادم» بالنسبة له. لقد بنت الكاتبة عالمها القصصي بسلاسة وبأسلوب بسيط خال من أية تعقيدات، مما يخلق لنا من بساطتها حالة من الدهشة والانبهار الطفوليين، حيث بدت القصة متماسكة وواقعية، حتى من خلال لغتها الجامعة بين اللغة العامية واللغة الفصيحة.

----------------------------
قصص قصيرة
هبة عصام الدين- مصر

1- جيسكا

تصطك البراري داخلها، توغل في دمها، تدمنها روحها التي ضاقت بالأمكنة، والتي تثقب السقف والجدران بوخزٍ دءوب، في كل يوم تتقن خلخلة جديدة، حتى إبر التريكو تجيد الهدم إذا وُضعت في أيدٍ برية!

تشفق على ذلك العائد من سراديب السنين، كيف ستخبره أن لا جدوى من صحوة الفارين من قبورهم عندما يفعلها ويأتيها منكسرًا على حصانه الخشبي، كيف تواجه إنسانًا بحقيقة أنه ميت فينتبه أن جلده يتساقط ولحمه يتآكل أمام اللحظة الآنية، تصرخ: «آه يا أشباحي التي هزمتني يومًا، يتعبني أن أراك مهزومة أمامي.. يتعبني جدًا!..».

الصدفة العاهرة.. هذه الدنيا التي تضج من حولها وتهرب من ضجيجها، تصمت فجأة وفي مصادفة غريبة عندما تحتاج إلى شيء منها، لا تجد سوى نفسها فقط، ويتمها الفجائي، وحزنها الانفرادي!

لو يعرف البحر كمّ مخاوفها لتعجب كيف تكسر صدفتها وتسكن الموج.

ليت لجيسكا روحًا أقوى، وجسدًا واثقًا يلعب الجمباز ولا يخشى السباحة وركوب الدراجات، ولا يخاف عبور الطريق، ولم يخجله نموه المفاجئ، جسدًا لم يرضع أن يخاف الناس والحياة والرجال الأوغاد، ولم يُساق شبقه إلى المقصلة.. تصرخ في وجه الحياة على طريقة الروك آند رول، لكنها تخشى أصحاب العيون الكبيرة، والأنوف المدببة؛ فترجع من حيث أتت، لا درب يكتمل.. مصابة بفوبيا مفترق الطرق، ومفترق الحياة، ومفترق الحب، لا تملك شجاعة الاختيار، ولا المغامرة.. تقذفها جرأته في ركن ضيق تنكمش فيه كفأر مرتعب، تخبئ وجهها الذي تتملكه تعبيرات الارتباك والخجل والشهوة الخرساء..

تهمس: «أعطني نصف جرأتك وخذ أغنياتي، ستحملني إليك الأولى وتشعلك الثانية!..».

تتهيأ كعروسٍ لموعدٍ ستخلفه!

لكن الريح سئمت مراوغتها وأدارت الشراع لجهةٍ أخرى..

وتسلل القمر بين شعرها الذي استطالت خصلاته في انتظار لحظة لا تجيء!

تضم نعاس الوسادة، تنام طويلا!

2- عزلة

ترهقك الشمس والكراسي الخشبية، وأخشى نقيق الليل وافتراش العشب، لذا.. لا نلتقي هناك.

ولأننا أغبياء، ونحترف اللقاءات المؤجلة.. لا نلتقي أبدًا. فقط الحلم المباغت والمنامات الغجرية تسمح بذلك، فنصحو منتشين بتلك الهدية، ونكتب عبر الأثير:

«البارحة كنت حلمي»

يرسلها أحدنا، ويبتسم الآخر..

كلانا صورة لا ينقصها سوى ضغطة الفلاش، حتى إذا التقينا، تصرفنا بافتعال كي لا نقل جمالاً عنها، فقط عندما تغادر، أبدأ في استيعابك، فترتعش يداي، وتتخدر روحي.. وحيدة!

وأعود من جديد

جدران أربعة، وشاشة زرقاء أبصر من خلالها العالم، هكذا أشعر بالأمان كقنفذٍ صغير.

أما القلب فطاقة زجاجية تطل على مثلث برمودا.. أرى الكون أعقد من بساطتنا، وتراه أصغر من تصوراتنا، تقسم أن تلوكه يوما كي أصدق أني بلهاء، تدعي أنك أكثر جنونًا من نيرون، وأتظاهر بتصديقك.. وحدي أتفهم مكابرتك!

بالأمس أغمضت عيني، فكنت معي نتجول فوق بناية عالية، وحدثتك عن فكرة أن نصعد الأهرامات سويا، وقتها فقط تبينت أنك أعرج وأنني بكماء!

غير أني استيقظت سعيدة، وكتبت لك:

«البارحة كنت حلمي»...

3- لعبة القط

الفتاة الطيبة أذهلها الصمت الموحش حين علت فوق جسدها بضعة سنتيمترات، حاولت أن تُحفز أطرافها لتستيقظ، أن تصرخ، فلم يسعفها الجسد المسجى، عبثًا قاومت شللها المؤقت، حتى دبت الحياة بخطوات أمها الحميمة، فتملصت فجأة!.. لكن اللغز المبهم ظل على موعد.

أهو الموت يُجري عليها تجاربه الأولى؟ لعله يختبر مواطن الضعف فيها، أو لعلها لعبة القط الشهيرة قبل الانقضاض الحتمي.

... مرت سنوات ولم يأتها ذلك الزائر الغامض.. هل ملّ العبث بخلخلة روحها، أم تراه ينتظر زيارته الأخيرة؟!

الفتاة الطيبة تضحك، فتمطر السماء، كان لها، وببساطة شديدة أشعل النيران في معطفها الصغير، ومضى للبحر، لم تجد ثمة ما يستحق الانتظار، أو الحب، لكنها بقيت هناك، صامتةً كالموت!.. أيقظها صوتٌ آخر، علَّمها لغة الـ«لا»، فمضت يسكنها الرفض المكمم!

الفتاة الطيبة، تذكر مَن أحبت، وتعاند مَن اشتهت، وتعانق مَن يظللها بسماواتٍ قريبة، سكنت إليه، فأدمنت تعاطيه مع مفردات وجودها الهش.

لا شيء يُشعرها بالعجز أكثر مِن خطوتها المقيدة تجاه ما تحلم، تُحدثها المرآة أنها لا تعي ما تريد، تُذكرها بالجسد الصامت دومًا في حَضْرَةِ روحٍ ثرثارة، المرآة تُغريها بثورة عادلة.

الفتاة الطيبة تتشبث بتابوهاتها، وتجادل الأصدقاء حول ماهية الحب، أهو وجبة شهية، أم حاجة ملحة للروح؟.. فقط صديقتها البعيدة تطمئنها أن ما يراه البعض مثالية مضحكة، ليس إلا حقيقة كبرى بالرغم من أنف فرويد.

الفتاة الطيبة تنتظر دبيب خطوات أمها في غرفتها الصغيرة..!.

----------------------------
قصة «السيارة»
ياسين أبو الهيتم - المغرب

القَدر: وهو الحكم المرتبط بالزمان والسّبب...

هذا السور المحيط بالمدينة العتيقة بُني في العهد المرابطي، أشار ابن رشد على الخليفة علي بن يوسف ببنائه لما استفحل خطر الدولة الموحدية. صمد السور طويلاً بعد زوال الدولة المرابطية والموحدية ودول أخرى. يقاوم الزمن ماانفك يحيط بأكبر مدينة مُسوّرة بدول الحوض المتوسطي. الانبراء للناس وأحداثهم، والوقوف بانتصاب في وجه الزمن ممكن، لكن حكم القضاء أمكن. قد لا يظهر هذا السور من القمر، غير أنه والقمر أقرب من الجيران.

انطلقت سيارة رباعية الدفع من قبالة باب تاغزوت بالزاوية العباسية.

تهدم ظاهر جانب السور المحاذي لباب دكالة. ويتهدّد كلّ أسفل السور رشاش البول، فيما يتهدد أعلاه بُزاق الطيور كما أفادت دراسة علمية حديثة. كُوّاته ملجأ الحمائم والسّنونو، وأعشاشه الدائمة الضخمة دار هجرة اللقالق، لكن أتهاجر اللقالق حقا؟ إنها هنا دوماً، لا تبرح الأعشاش. وساحة باب دكالة موقِف عشرات العمال يوميا، والذين يخيب أمل معظمهم غالباً، لا تحوي مرحاضاً عموميا بالرغم من أن أسلافنا -على حدّ تعبير المقررات الدراسية- كانوا أول من أنشأ الحمامات العمومية بالأندلس!

يسوق السيارة أحد أولئك الأجانب المتقاعدين الذين سحرتهم مراكش بعجائبيتها وإيقاعها البطيء. ابتاع رياضاً متهالكاً على مقربة من ضريح سيدي أبي العباس السبتي، فرممه لتنطلق من جديد ألف ليلاه وليلاه.

ما كاد العاملان المساعدان يبلّغان مُرمّم المباني التاريخية في مرقاة خشبية إلى منتصف ارتفاع السور حتى أمرهما بالتوقف، كانا لا يجذبان الحبلين النافذين من البكرتين في آنٍ واحد. نهرهما المرمّم في تهديد: «لا تنجحان في مسعاكما بالرغم من أنّا أقلّ رقمٍ تتحقق به الجماعة! نسّقا النّتر، فهذا العمل ينجزه أيّ عاملان من الموقِف».

لما بلغ الأجنبي بسيارته حومة "رياض العروس" كان مستمتعاً بسماع أغنية la vie en rose.

وحين استقرّت المرقاة إزاء صَدْعٍ بالسور أمر المرمّم مساعديه بتثبيت الحبلين ومدّه بعجين الجير والآجر الأحمر.

قبالة دار الباشا اضطرّ الأجنبيّ أن يتلبّث ريثما تعبر زُفّة تتصاعد منها الزغاريد والفرح حاملة -بلا شك- هدية عروس؛ استبطأهم كثيراً.

انحلّت عقدة أحد الحبلين فخرّ المرمّم على الأرض فجأة كمثل ما تسقط آجُرّة حمراء من السور. هرع المساعدان إليه. لحس حظّهم لم يصب بسوء، أو بالأحرى بكبير سوء.

في هذه الأثناء، انتهت السيارة إلى عرصة الحامض تسبقها أغنية مُتصاعدة لإديث بياف.

تلحّح المساعدان على المرمّم حتى مضى لشراء قنينة مشروبات غازية، نَخْب نجاته.

القضاء: وهو الحكم الكلّي الذي لا يتغير منذ الأزل، كالحكم بأنّ كلّ ما في الوجود لا محالة إلى عدم

مارقاً كالسهم من باب دكالة تحت تأثير الإيقاع المتسارع لأغنية boulevard du crime، صدم الأجنبيُّ بسيارته مُرمّمَ المباني التاريخية. وهو متمدّد على الإسفلت، مُستعجل جدًّا، أطلق المرمّم رشقاتٍ من عينيه الخاملتين متواترة وكأنه يأبى إلاّ أن يستنفد ذخيرته: رمى ببصره جانبًا يتهدّم من السور في تناسل فتذكر حكاية ابن رشد مع ابن يوسف؛ رنا إلى الأجنبيّ يترجّل من سيارته فحضرته قصة سنمار مع النعمان بن المنذر؛ سها إلى الشراب المتسلسل فطفق يبحث عبثاً بين وجوه عمال الموقِف المتعبة عن بطليْ "نخب النجاة"، لم يعثر عليهما. وحتى وجوه العمّال توهّمت تدريجيا إلى أن استأثر البياض الساطع اللامتناهي بكلّ شيء. عندئذ حملتهُ اللقالق على بساطٍ، عرفها من مناقيرها، لقد خلّت أعشاشها أخيراً.

فرضيَ المرمّم في تسليم بالقدر والقضاء..

----------------------------
«شفاه مقفلة»
محمد رشيد - العراق

لا أدري كيف وجدتني واقفاً في نفس الزقاق الذي راح يزورني بين الحين والآخر في عصور متفاوتة ... بصعقة منحت ناظريّ حرية التحليق في هذا الفضاء اللامتناهي وغمامة سوداء تربعت على صدري مما زرعت خيفة مميتة بين شهيقي وزفيري اللذين صحبهما صوتا مشروخا ... أمتد نظري نحو ذلك الباب العملاق والنسوة والرجال واقفين طابوراً طويلاً يتطلعون إليه بمرارة لعدم استجابته لمطالبهم، بدأت قدميّ تلتهم تلك المسافة للوصول ... خطوة راح الطابور ينفتح .. خطوة ثانية أنسل منه طابور صغير ... خطوة أخرى راح يحبو ... تلتها خطوة بدء يكبر .. خطوتان بدءا يتناسلان .. أخرتين أصبحن طوابيراً عديدة ... خطوة أخيرة أبتلعت المسافة بالكامل ... أصبحت واقفاً بالقرب منه... تسمر نظري نحوه رافعاً رأسي إلى أعلاه لضخامته ... شاهدت نهوداً تدلت من حِلماتها .. شفاها مطبقة بأقفال صدئة .. ألسنة ثبتت بمسامير على صليب .. طيوراً زوجوها الرحيل .. عناكب تسرح وتمرح وشراك خيوطها اللزجة توزعت هنا .. وهناك ترتقب وليمة أخرى .. أرهفت أذني لسماع لغط من الخلف شابه استياء صدر من أفواههم المزدحمة ليستقر فيها عنوة .. بخطى واثبة حاولت فتح الباب بقوة فلم أستطع .. حاولت ثانية فلم أفلح ومرة أخرى حتى انزلقت قطرات ساخنة من جبيني لتشمل عيني بنصيب من الحرقة ( تذكرت تلك العين الخضراء حينما يصطدم شعاعها بجسدي تقوم بفتح ذراعين شفافتين مؤطرتين بلون فضي ) فتحته على مصراعيه وزعيقه راح يطرد ما تبقى من لغطهم القابع في أذني ليحل محله .. بعد عناء مرير أسقطته أرضاً .. دلفت البيت حيث الظلام يجثو، روائح كريهة اختلطت برائحة الدم الذي راح يصب بغزارة من الحنفيات ... أصوات ... فحيح ... عواء ... نعيق ... هديل.. تصطدم ببعضها مع الجدران لتنبعث من هذا الدهليز الدبق، واصلت سيري حتى شاهدتها ممدة على الأرض ورأسها يحجب فوهة تنور مشتعل ...جمرات من الفحم الحمر موزعة لتطرز ( العصابة ) التي إعتمرتها ... هالات من الدمل المتقيحة حول عينها اليمنى ... غصن من الحنظل تدلت منه عشرات الكريات تبرعم وهو يفقأ عينها الأخرى .. زغب أبيض وأخضر معششا على محياها كأنه عفن خبز مما صادر ملامحها دون تصريحة جمركية .. أخاديد موزعة على جسدها الرخامي يسكنها أغراب من القراد والعقارب بلا أقامة أو تأشيرة دخول .. براحتي الاثنتين وبكفين من نور تحسستهما توا بالقرب مني كسحنا هذا الزغب الذي هيمن عليها دهوراً وهو يحجب عنها ضوء لشمس.

اقتلعت الغصن من جذوره حيث راح يقطر دماً أسوداً ... أزحت رأسها بعيداً عن التنور حتى راحت تشرق بملامحها العربية، أذهلني بريق عينيها وهو يصعق الغمامة السوداء بدواخلي التي بدأت تنقشع رويداً رويدا إلى أن استحالت دموعاً ساخنة تتلألأ من عيني لتنير الدرب .... وأنا أودع ذلك البيت والزقاق شاهدت أرغفة الخبز والقرنفل تنهمر على الطوابير الواقفة كالمطر وما هي إلا دقائق حتى غادر الجميع كل لهدفه.

----------------------------
قصص «حضن»
حنان بيروتي - الأردن

تجلس في الصّف في مكانها المُحدد على المقعد الخشبي، بدتْ هادئة على غير عادتها، لا حظتُ انها تضع حقيبتها المدرسية في حضنها وتلف ذراعيها حولها كأنّها طفل وليد، ليس من طبعها الهدوء والفرح، هذه الطالبة تعسِة وشقية تستمرّ بإثارة الشغب وتختلق المشاكل، لا بد انها تعاني من مشكلة لا أملك الوقت ولا النيّة للخوض بمشاكل الطالبات ألا يكفيني ما عندي من هموم؟!

رأيتها تقبّل الحقيبة وتضمها لصدرها، لا هذا كثير وكاف ليثير فضولي، لا بد من التّدخل، ضميري يأمرني بالتحرّك نحوها فهي تظل في سن حرجة على أعتاب المراهقة أخشى أن يتلاعبَ بعواطفها أحد، حرام! ربما هي رسالة غارقة بكلام معسول علي أن ارشدها، بلا مقدمات أقول لها بصيغة آمرة :إفتحي الحقيبة الآن!

لكنها تظل متشبثة بها، أقول لها بصوت أعلى: لماذا لا تضعينها على الأرض مثل زميلاتك في الصف؟ماذا تخبئين فيها؟!

عمّ الهدوء وتنبهت الطالبات، ظهر عليها الاضطراب، تهيأتُ لانتزاعها بالقوة لكني تراجعتُ وأنا أرى تلك الشقية تتنقلب إلى باكية مستنجدة :لا يا مس! يا مس فيها هدية لأمي، اليوم بابا وعدني يوخدني أشوفها!

بلحظة تذكرت ما سمعتُه عن طالبة مُتعَبة ومُتعِبة لم تر أمها منذ ولادتها، راقبتها تمسح دموعها وتعاود إحتضان حقيبتها!

دمعة!

تلكأتْ حين طلب منها بصيغة آمرة أن تعطيه الدفتر الجديد ليرى ما كتبتْ، استمرتْ أصابعها مطبقة عليه، كرّر الطلب لكن بلهجة من لم يعد يطيق الانتظار.

كنت وصلت للتو لزارة صديقتي لأجالسها في غرفتها المشتركة مع اخواتها فهي ليست البنت الوحيدة في العائلة لكنه الوحيد المؤتمن كما يفهم على شرف وسُمعة البنات، وياله من حِمل ثقيل!

عدتُ أرقب تطورالموقف وعدم اكتراثه بوجودي، أحسستُ بحرجها و استغربتُ إصرارها على عدم تنفيذ ما يطلب،" ماذا في الدفتر؟!"

انطلقَ صوته مشبهاً صرير باب عتيق، فهو في مرحلة المراهقة وصوته يتأرجح بين نعومة الطفولة وخشونة الرجال،"أهي رسالة؟! أنا شككتُ بالأمر حين خرجتِ بلا مناسبة اليوم للمكتبة !"

بدا ولضحا تعجلها لانهاء المشكلة، قالتْ بلهجة ودية:إنتظر ليومين وسترى ما معي!

بلحظة رأيتُه يهجم على أخته وقلبي يقرع بعنف، ظلتْ ممسكة ومتمسكة بالدّفتر اللعين، أوراقه المثبتة بسلك على شكل حلقات انغرستْ حافتها بلحم كفها وهو يجذبه بقوة، تفتق الدم، أرخت قبضتها ونفرتْ دمعة من عينيها هو لم يتراجع، أخذَ يقلّب الصفحات، انحسر غضبه فجأة ألقى الدفتر على السرير ةغادر مسرعاً.

لم أفهم ما حدث، رأيتُها تبكي بحرقة والدم يسيل بريئا من يدها،قرأت في الصفحة الأولى إهداء لأخيها بمناسبة عيد ميلاده بعد يومين!

----------------------------
قصة «خسوف»
هناء جودة - مصر

كنت اجلس بالفراش صامتة متأمله إذ دخل الى مسرعا تاركا أصدقائه الذين يلعبون امام المنزل و تاركا لعبته المفضله. جاءنى صوته متحشرجا بالبكاء المر

وقد. احمرَّت عيناه و ازداد أنينا - ذرف دموعاً ساخنه بطعم الخوف الذي ينهش أعماقه بقسوة .. لم تفلح محاولاتى لتهدئته .. ضممت طفولته الى صدرى كعصفور صغير لعلىّ أمتص عنه آلام الرعب ومرارة البكاء .. تتلعثم الحروف على شفتيه متقافزة - مرعوبه .. تئن و ترتجف معها اطرافه.سيموت سنموت -- سـ ... سـ.....سـ ..........

الصلااااة جامعه نداء تطلقه كل مآذن القرية فى آن واحد

ترتفع اصوات المشايخ و الائمة بالصلوات و الادعيه.

ما ان بدأ الصغير فى الاستكانة اذا بضوضاء قوية تأتينى عبر النافذة المفتوحة وأصوات لاطفال القرية يطوفون و يدقون الطبول و يغنون

يا بنات الحور سيبوا القمر يدور

يا بنات الجنة سيبو القمر يتهنى

يا غفور يا غفور رجع القمر يدور

فرفع الصغير بصره الى و قال هل سيموت القمر؟

هل تخنقه الذنوب و الشياطين حقا؟

هل ممكن ان نعيش بلا قمر؟

ساصلى - وأعطى السائل على باب المدرسة جزءا من مصروفى - ساطعم قِط الجيران - ولم اُعذب العصافير ثانية لم أعد لاَكذب لانى ُاحب القمر سأسمع كلام أبى - و اُحب اختى.

حاولت طمأنته بانها مجرد لحظات و يعود القمر الى مداره ثانيه لينير لنا الدنيا

ثم سالنى الصغير ذو الخمس سنوات - و الذى كنت اظن انه لا يعرف له اُم سواى:

هل سيعود القمر للحياة مرة اخرى و أرى فيه وجه اُمى التى ماتت من زمن؟
----------------------------
* كاتب من المغرب.

 

 

عبدالرحيم العلام*