الدفاع عن التراث

الدفاع عن التراث

الدفاع عن التراث، خصوصًا الإبداعي والأدبي، له أشكال وأساليب متعددة: هناك الدفاع بإبراز القيم المتجددة من هذا التراث الذي لا ينحصر تأثيره في عصر واحد، انتهى منذ زمن يفصلنا عنه ويباعد بيننا وبينه، وإنما يجاوز عصره أو القرون الذي شهدته زمانًا ومكانًا إلى غيره من العصور والقرون والأمكنة التي تمتد بامتداد الإنسانية كلها.

إن الجانب الإبداعي الأصيل من التراث هو الجانب الذي يغوص في أعمق أعماق زمنه الخاص، فيصل إلى الجذر الإنساني الذي يجعله قادرًا على إثارة كل الأزمنة الإنسانية في كل مكان، يعرف معاني الحق والخير والجمال. ولذلك بقدر ما يتحدث نقاد الغرب عن «شكسبير معاصرنا» وعن هوميروس الذي تتجدد معاني إلياذته وأوديسته في كل العصور، بالرغم من اختلاف آليات تلقيها في كل زمن أو بيئة أو لغة، فإننا بالقدر نفسه، يمكن أن نتحدث عن العام الذي نجده في الأصيل من الخاص في التراث الأدبي، أو في القيمة الإنسانية التي نجدها في الإبداع المحلي لهذا الشاعر الجاهلي أو ذاك، أو هذا الناثر العباسي أو غيره من أهل المنثور أو المنظوم . ولهذا فالأبعاد الوجودية التي نجدها في شعر طرفة أو الصعاليك في العصر الجاهلي تتجاوب مع أبعاد مشابهة عند شعراء عصور لاحقة، إلى أن نصل إلى أبي العلاء المعري الذي كتب ضده المتزمتون وضيقوا العقول الذين هاجموه، وناصبوه العداء، ولم يكفوا عن اتهامه بالكفر، فرد عليهم بكتابه «زجر النابح». والأمر نفسه ينطبق على روائع المنظوم الموازية إلى جانب روائع المنثور، سواء كنا نتحدث عن تراثنا الصوفي أو العقلاني الكلامي، أو الفلسفي الخالص، أو غير ذلك من تيارات التراث التي تختلف وتتعارض أو تتناقض أو حتى تتصارع من منظور رؤى العالم، لكنها تتجاوب فيما تحت السطح الخارجي في جذر القيمة الجمالية التي تنطوي بالضرورة على أبعاد أخلاقية وسياسية واجتماعية، هي أوجه متعددة لجوهر التجربة أو التجارب الإنسانية المختلفة في المظهر، لكن المؤتلفة في أصل الجوهر.

هذا التراث الإبداعي الذي يباعد ما بيننا وبينه الزمن، فضلاً عن تغير آليات التلقي وتقنياته، هجره القراء المعاصرون وانصرفوا عنه إلى ما يرتبط بحياتهم النفعية والعملية، خصوصًا في عصر من التقدم العلمي المذهل وثورة كونية من الاتصالات أحالت العالم إلى قرية كونية صغيرة، وبالرغم من أن محبي التراث حاولوا استخدام هذه الثورة غير المسبوقة لصالح الحفاظ على التراث بعامة، والأدبي بخاصة، فأنشأوا مواقع له على شبكة النت، لعلها تغري بالاطلاع عليه، فتزيد من عدد المحبين له لكن التراث الأدبي لم يعد بالقدر نفسه، قادرًا على جذب مستخدمي «النت»، قياسًا على مباهج ومغريات مواقع «النت» الأخرى والعديدة. وزاد الأمر سوءًا انحدار التعليم العام والخاص الذي ساعد على تنفير الأجيال الجديدة من هذا التراث الذي صار موضعًا للتندر بسبب لغته الغريبة التي وصل الأمر ببعض ممثلي الكوميديا إلى الهزء منها، وتحويلها إلى مصدر للإضحاك. وهكذا أصبح التراث الأدبي كأنه يمكن تلخيصه هزلاً في:

مكر مفرّ مقبل مدبر معا
كجلمود صخرٍ حطّه السيل من عَلِ

أو

وليلة نحس يصطلي القوس ربها
وأقطعه باللاتي بها يتنبــــل

أو

دعست على غطش وبغش وصُحْبتي
سعار وإرْزيز ووجر وأَفكَـــلُ

وكأن التراث كله هو هذه الكلمات الصعبة الغريبة، فانصرفت الأجيال الجديدة عنه، وبحثت عما رأته أجدى وأنفع في عصرهم سريع الإيقاع، مذهل التغيرات، متدافع التقدم ووصل الأمر إلى أننا أصبحنا نسمع من يقول، منذ ستينيات القرن الماضي: «نحن جيل بلا أساتذة». وهي عبارة يمكن تفسيرها بأننا جيل بلا تراث، ووصل الأمر بكاتب شاب، لايزال في بداية الطريق إلى حد المباهاة بأنه لم يقرأ نجيب محفوظ وليس في حاجة إليه. وإذا كان شاب يجرؤ على أن يقول ذلك عن نجيب محفوظ، وهو تراثه القريب، فماذا يمكن أن نتخيله قائلاً عن تأبط شرا أو الشنفرى أو السليك بن السلكة أو غيرهم من المشاهير مثل بشار وأبي نواس وأبي تمام أو أبي العلاء؟ وماذا عن النثر القديم بسردياته الرمزية وغير الرمزية؟ وطبيعي، والأمر كذلك، أن تتجاهل وسائل الإعلام التراث إلا فيما ندر من الدراما السورية، وأن يغدو برنامج «لغتنا الجميلة» لصديقنا المبدع فاروق شوشة عملاً نادرًا وتراثيًا لا يهتم به الجيل الجديد الذي انصرف عن كل ما هو تراثي، كأن سلوكه تطبيق عملي لبيت أبي تمام:

فنفسَك قطُّ أصلحها
وَدَعْني من قديم أبِ

وهكذا لم يعد الدافع إلى هجر التراث هو الجهل به، والنفور من لغته الغريبة، وإنما أصبح فعل تمرد ينطوي على الدافع الأوديبي لقتل الآباء والأجداد على السواء.

الشعر الغربي مصدر للإلهام

وزاد من تفاقم الأزمة استبدال الغرب الحديث بالتراث القديم، والإقبال على الشعر الغربي المترجم الذي أصبح مصدر إلهام وتكوين لشعراء «قصيدة النثر»، الذين يعرفون عن رامبو أكثر مما يعرفون عن أبي نواس، وعن بودلير أكثر من أبي تمام، وعن سانت ون بيرس أكثر من المتنبي أو أبي العلاء، وذلك وضع حرج يثير السؤال: وما الذي يمنع من التأثر بهؤلاء وهؤلاء معًا، وكيف نعلم الشبان أن الأصالة التي هي الوجه الآخر من المعاصرة موجودة في كل زمان ومكان، وأن جوهر الإبداع أكثر عالمية من العولمة، وأن كل إبداع حقيقي، في كل مكان وزمان، ينتمي إلى جوهر واحد من القيم الجمالية التي تعبر حواجز المكان واللغة، وأن الذي بلا ماض بلا مستقبل؟ فالحياة لا تخلق من العدم، وإنجازات الحاضر كانت أحلامًا في الماضي، وستكون ماضيًا في يوم من الأيام.

وإذن فما يحتاج إليه التراث الأدبي للدفاع عنه، ليس المحاجة النظرية، وإنما الممارسة العملية بالتقديم الجديد له، وتقديمه بما تسيغه الأذواق المعاصرة، فترى أن المعضلة الوجودية التي كان يواجهها طرفة بن العبد لا تختلف، جوهريًا، عن المعضلة الجذرية التي واجهها نجيب محفوظ أو صلاح عبد الصبور، أو أي قارئ معاصر، فجوهر المعضلة باق متكرر، بالرغم من اختلاف تجلياته من عصر إلى عصر . وكل ما نحتاجه في التقريب بين القارئ المعاصر والتراث القديم، خاصة الأدبي منه، هو تمزيق الأكفان عن الثاني، ونفض الغبار الذي تحول إلى طبقات فوق طبقات بفضل تراكم العصور، والنظر إلى الجوهر الباقي بعدساتنا نحن، تلك العدسات التي ازدادت رهافة وقدرة على كشف ما لم تكشفه الأجيال السابقة، وتسليط أضواء جديدة على كل ما يظل في حاجة لقراءات جديدة، تجلو كنوزه للوعي المعاصر للقارئ، فلا يتقبله فحسب، بل يشعر بقيمته، ويدرك أن هذا التراث قريب منه وجدانيا مع بعده عنه في الزمان مكانيًا. هكذا نجعل التراث معاصرًا لنا، ونقرأ النواسي كأنه أحد الحداثيين، ونرى في أحداث ألف ليلة، جوهريًا، وبعيدًا عن هجمات المتزمتين، ما يوازي حياتنا المعاصرة، وما يدني بالشبيهين إلى حال من القرب الذي يدنو من الاتحاد، مدركين، بالطبع، أن كل جيل أدبي يقرأ تراثه حسب الصيغ المعرفية التي ينطوي عليها، والعدسات الكاشفة التي صنعها عصره، فيكون مايراه هذا الجيل الأدبي مختلفًا بالضرورة عما رآه جيل طه حسين، وذلك بالقدر الذي كان ما رآه طه حسين مختلفًا عما رآه جيل حسين أو سيد بن على المرصفي، وما رآه هذان المرصفيان يختلف عما رآه الأعلم الشنتمري أو المفضل الضبي أو الأصمعي، فكل جيل يصنع عدساته القرائية التي تمايزه، وذلك بالقدر الذي يصنع به كل قارئ عدستيه النوعيتين اللتين تتجانسان، في النهاية، مع الصيغة المعرفية العامة التي تقارب بين الجميع في نسق قرائي سائد، لا ينكر التفرد، أو يحول دونه، لأنه قائم على وحدة التنوع والتعدد التي لا تتعارض قواعدها العامة مع التطبيقات المتفردة والفردية في آن.

هكذا، يبدأ فعل الدفاع عن التراث الأدبي بالتعريف به، والتقريب بينه والقارئ المعاصر، سواء بتقديم تفسيرات عصرية له، تتجاوب وجوهره الإنساني في القيمة الإبداعية التي تعبر حواجز الزمان والمكان واللغة. ويكتمل التعريف بما يقود إليه، ويسبقه، من التقديم العلمي الذي يشمل التحقيق والتوثيق والكشف عن كل ما يظل في حاجة إلى كشف، وهو كثير، وإلقاء الضوء على مناطق معتمة ومهمشة من هذا التراث، أريد لها أن تبتعد عن بؤرة الاهتمام ومساقط الأضواء لأسباب عديدة يمكن حصرها ورصدها، سواء في أبعادها الدينية أو الطائفية، أو أبعادها الاجتماعية والسياسية والفكرية التي تلازمها نوازع ونواه ومحرمات متعددة . والأمر هنا، مجازًا، أشبه بما حدث في مكتبة الدير الذي وصفه أمبرتو إيكو في رائعته «اسم الوردة» التي تدور أحداثها في العصور الوسطى، حين قرر حارس المكتبة تحريم قراءة كتب بعينها، حتى لا تفسد عقيدة رهبان الدير، فتنحرف عقولهم، ويهتز تدينهم الذي يفترض فيه أن يكون راسخًا. ولذلك نثر سمًا قاتلاً على الصفحات الخاصة بالكوميديا والضحك من كتاب «البويطيقا» أو «فن الشعر» لأرسطو الذي وصل إلينا ناقصًا القسم الخاص بالكوميديا، بعد أن احتفظ بأقسام المحاكاة والتراجيديا. ولذلك كان الموت مصير المتسلل في ظلمة الليل البهيم ليشبع نهم فضوله المعرفي، فتوالت الجثث المكتشفة في الدير، وكان لابد للبطل من البحث عن سر موتها، كي يكتشف الجريمة الكامنة وراء هذا الموت الذي تحوّل إلى جريمة قتل، كانت نوعًا من القمع المعرفي الذي مارسه من تصور في نفسه الوصاية على عقل أقرانه، متوهمًا أنه يحميهم إلى الدرجة التي دفعه بها هوسه الدينى إلى قتلهم.

فعل إجرامي

وفي تراثنا العربي الإسلامي أشباه لهذا الفعل الإجرامي في مجال المعرفة، فهناك ما فعله المعتزلة بخصومهم الذين أطلقوا على أنفسهم أهل السنة والجماعة، وما فعله أهل السنة والجماعة، بدورهم، عندما تحالفوا مع الخليفة المتوكل لأسباب سياسية، فأخذوا بثأرهم من المعتزلة، فحرّموا كتب الاعتزال وطاردوا رجاله، وتصاعدت الأجيال المتأخرة منهم في عدائها للتيارات العقلانية الفلسفية والصوفية الإشراقية، فشاعت مقولة: «مَنْ تمنطق تزندق». وكان ذلك بعد عقود وعقود من إلقاء المنصور بن أبي عامر، في الأندلس، لكتب الفلسفة في الآبار ودفنها فيها، انتصارًا للفقهاء وتقربًا إليهم، في السياق نفسه الذي أدى إلى حرق كتب ابن رشد في قرطبة، في موازاة ما أحرق من كتب في ميادين المغرب والقاهرة، فضلا عن تعزير (عقاب) أصحابها والمعروفين بقراءتها. وقس على ذلك التصوف الذي طوردت كتبه إلى حد الإعدام الذي كان عقاب الحلاج في بغداد والسهروردي في دمشق وغيرهما. ولن تفترق عن ذلك أشكال الإبداع التي نفيت إلى المرتبة الأدنى بوصفها من أدب السفلة، كما حدث مع «ألف ليلة وليلة» وغيرها الذي يشبهها في المكانة والتهميش، فظلت «ألف ليلة وليلة» كالسير الشعبية ملقاة، مزدراة، في الهوامش الدنيا، حيث السفلة الذين يقرأون ما يليق بهم، والعوام الذين لا ينبغي أن يقرأوا إلا ما هو أدنى إلى مكانتهم في القاع الاجتماعي. ولذلك كان ابن المعتز الشاعر يرى أن أخلاق أبناء المجتمع تتباين بحسب مكانتهم أو مواضعهم في البناء الاجتماعي، أعلاهم من اختصه الله بالفضائل التي هي «عطية إلهية» للكرماء من الأحرار، وأدناهم من تشيع فيهم الرذائل كأنها عقاب إلهي قدَّره الله تعالى على السفلة من العوام الذين هم الأشبه بأدنى ما في الجسد. ولا يتردد الشاعر الخليفة ليوم وبعض يوم في أن يقول:

«ولو كانت المكارم تنال من غير مؤونة لاشترك فيها السِّفلة والأحرار، وتساهمها الوضعاء مع ذوي الأخطار، ولكن الله تعالى خصها الكرماء الذين جعلهم أهلها، فخفف عليهم حملها، وسوّغهم فضلها، وحظرها على السفلة لصغر أقدارهم عنها، وبُعد طباعهم منها، ونفورها عنهم، واقشعرارها منهم».

هذا الوعي الطبقي للعلم هو الذي ينفر في الأدب من كل «ما يلهج به العامة الحمقى» ويؤثر ما يستملح... ويروى بكل أرض عند الخواص» ولذلك جاء بعد ابن المعتز من روى عنهم الحصري القيرواني كلامًا من قبيل:

«بدئ الشعر بملك وختم بملكٍ ... لأن الكلام الصادر عن الأعيان والصدور أقر للعيون وأشفى للصدور، فشرف القلائد بمَنْ قُلدها، كما أن شرف العقائل بمَنْ ولدها:

وخير الشعر أكرمُه رجالا
وشر الشعر ما قال العبيد

هذه النظرة الطبقية أسقطت نفسها على الإبداع، كما أسقطت النظرة السلفية ضيق نظرتها على الفكر الملازم للإبداع، فتدنت منزلة «ألف ليلة وليلة» والسير الشعبية، مثل السيرة الهلالية، وعنترة، والزير سالم، والأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس، إلى حيث تتنزل السفلة من العامة، ونفيت قصائد الصوفية ورسائلهم الرمزية إلى مصير يشبه مصير من لم تنجهم التقية من الموت قمعًا، فلم نعرف «ألف ليلة وليلة» إلا بعد أن اكتشفها الغرب الأوربي وعرف قيمتها واستلهمها إبداعًا متعدد المجالات، وظل الكثير من الإبداعات الصوفية والسرديات الرمزية، فضلاً عما أسميته بلاغة المقموعين، مقبورًا إلى حيث لا يصل إليه إلا الذين يخرجون على حدود التراتب القمعي للتراث الأدبي.

تجديد التراث

وهنا يأتي دور التقييم الجديد للتراث بمنظور المكان وعلى سُنَّة الزمان، كما كان يقول الكندي الفيلسوف. وتكون وسائل هذا الدفاع بإبراز القيمة التي تبدأ بمحو الغبار الذي تراكم والنسيان عبر العصور، وإعادة الاعتبار لما يستحق التقدير المعاصر ويلتقي وإياه في الذوق الجمالي، إذا جاز لي أن أستخدم الرطان المعاصر، وتقريب المسافة وتسهيل التناول على القارئ بمعاونته على مجاوزة حواجز اللغة القديمة والتراكيب المهجورة، تقريبًا للمعاني الجزئية التي يسهم تذوقها السليم في إدراك المعاني الكلية والإنسانية. وقديما شبّه طه حسين الشعر الجاهلي بالحديقة المهجورة التي طال عليها الإهمال والنسيان، فكثر فيها العوسج والشوك والنباتات الطفيلية التي شوَّهت المشهد القديم، فإذا ما نفى كل ما هو تراكم بفعل الزمن والإهمال، عادت الحديقة القديمة إلى رونقها وبهائها وأصبحت بهجة للناظرين . ولذلك اصطحب طه حسين صاحبًا متخيلاً، منطلقين في خوض التجربة القرائية التي أثمرت «حديث الأربعاء» و«صوت أبي العلاء» وغيرهما من كتب. وقد مضى على درب طه حسين تلاميذه وأحفاده الذين تباروا في تقديم قراءات جديدة أو مغايرة، أو حداثية في قراءة التراث الجاهلي الذي يشدنا الحنين إليه أكثر من غيره، ربما لأنه الأصل أو المنبع الذي نشعر بالحاجة إلى العودة إليه لأسباب كثيرة.

ولكن الدفاع عن التراث لا يتوقف على ذلك فقط، فهناك حمايته من عدوان المعتدين، ودعاة التحريم، والذود عنه ضد مهاجميه من مدعي التجديد والحداثة أو ما بعدها، أو مهاجميه من المتزمتين القدامى والمحدثين وتصوروا مدى ما يمكن أن يضيع من كنوز التراث لو سمحنا لشيعي متعصب بتدمير تراث السنة أو الخوارج أو ما أشبه. وما يمكن أن يحدث لو كان الأمر بأيدي الأصولية الدينية المسلمة أو المسيحية، أو إذا استجبنا لمدّعي الحداثة أو ما بعدها باتهام التراث القديم بأنه عائق يحول بيننا وبين التقدم، فلو حدث ذلك حقا، كنا فقدنا كنوزًا من تراث امرئ القيس (قائد الشعراء إلى النار!) إلى بشار بن برد إلى أبي نواس إلى أبي العلاء المعري، فضلاً عن أبي الشمقمق وابن الحجاج وابن سكرة وأشباههم، وكذلك الكتب التي تتخذ الجنس موضوعًا، ابتداء من التيفاشي وليس انتهاء بالسيوطي، وأخيرًا الكثير من الرسائل الرمزية الموروثة التي كان يمكن تسميم صفحاتها كما حدث لصفحات الكوميديا المفقودة (أو المضيّعة) في كتاب أرسطو، وأخيرًا «بلاغة المقموعين» التي كتبت دراسة شهيرة في التعريف بها وبدوافعها وتقديم نماذج لها، بالإضافة إلى التعريف بقيمها ورد الاعتبار إليها (انظر الطبعة الأخيرة من كتابي «قراءة التراث النقدي»).

والحق أن عملية الدفاع عن التراث الإبداعي الأصيل ليست مقصورة على عصر دون غيره، فكل عصر يقوم أفراده، أغلبهم أو أقلهم، بهذه العملية حسب التحديات التي يواجهها إبداع التراث، فتتصدى كل قراءة لما أصبح تراثًا في زمنها، عارضة النماذج ذات القيمة، أو مختارة من روائعه ما يزداد جمالاً ونصوعًا عن طريق الكشف عن أبعاد لم تكشف في النصوص القديمة وتسليط الضوء عليها اختيارًا وشرحًا. ولذلك كان كل شاعر كبير يصنع مختاراته الخاصة، ليحمي بها ما يراه جديرًا بالبقاء والتعريف، وهو أمر يكشف، ضمنا، عن القيم التي يتبناها القارئ الجديد واعيًا أو غير واعٍ هكذا صنع المفضل الضبي مفضلياته، والأصمعي أصمعياته، وجمع أبو تمام حماسته، والبحتري كذلك، وغيرهما وحذا حذوهما البارودي في العصر الحديث، وعارضه من منظور مناقض أدونيس (علي أحمد سعيد) . وإذا كان اختيار المرء علامة على عقله، وقطعة من ذوقه، فإن كل اختيار حماية للأفضل من وجهة نظر القائم بالاختيار، ومقاومة به للنسيان، وإضفاء حيوية على وجوده في الذاكرة الجمعية أو الفردية.

كيف ندافع عن تراثنا؟

إن الدفاع عن التراث، في منظوري على الأقل، عملية متعددة الأبعاد، تبدأ - أولاً - بالصيانة والحماية والتوثيق، وتثني بالتعريف والتقييم بواسطة القراءة التي تتعدد مشاربها، ويتنوع ما يلازمها من عمليات تحليل وتفسير وتقييم، وتثلث برد الاعتبار إلى ما أهدر اعتباره لأسباب غير أدبية (دينية أو سياسية أو اجتماعية) ومن ثم إعادة التراتب القيمي على أساس من القيمة الجمالية التي تصل إلى العام من خلال الخاص، والإنساني من خلال المحلي، ويأتي رابعًا الذود عن حياض التراث، وحمايته من الذين يريدون الاعتداء عليه لأسباب دينية أو سياسية أو ثقافية أو اجتماعية. ولذلك تحتاج عملية الدفاع عن التراث إلى مؤرخ موضوعي، لا ينحاز إلى آراء مسبقة، أيًا كان مجالها، بما يعكر عليه هذه الموضوعية، فيفقد روح الإنصاف والأمانة. وتحتاج كذلك إلى محقق متمكن من علوم اللغة وأدوات التوثيق والتدقيق، فضلاً عن المقارنة التي تؤدي إلى ترجيح رواية على أخرى، ويأتي أخيرًا الناقد الذي يكون ما يحسنه من النقد النظري في وزن ما يحسنه من النقد التطبيقي، يشبه في ذلك شهرزاد ألف ليلة وليلة التي جمعت علوم العرب والعجم، ذو إحساس لا يخلو من الرهافة المفعمة بروح الدقة التي تجعله ينصت إلى أوهى النغمات، ويتمعن في كل الكلمات، ويتعمق في تأمل كل الاحتمالات الدلالية التي يؤدي إليها تقلب النص ما بين عينيه، ناظرًا إليه بعيني البصيرة والباصرة، الأذن الداخلية والخارجية، والاستجابة لوجدانية التلقائية والتبرير العقلي المقنع لهذه الاستجابة. وأتصور، ولعلي لا أكون مغاليًا، أن الدفاع عن تراثنا الأدبي، في هذا العصر يحتاج إلى قارئ متميز، ينطوي في إهابه على المؤرخ والمحقق والناقد الأدبي في آن.

هكذا تحولت متعتي بغواية التراث إلى ضرورة الدفاع عنه ضد الجهالة والتعصب والتمذهب والنفاق، فأضفت إلى مقالات الغواية المستمتعة بقراءة التراث مقالات للدفاع عن هذا التراث، والذود عن حياضه ضد الذين يسعون إلى غزوها، وتشويهها في أعين القراء باتهامات فجة مريضة، تبين عن عقولهم السقيمة ومواقفهم المتزمتة، فضلاً عن استغلال الدين لأسباب سياسية، على نحو ما رأيت وكتبت دفاعًا عن «ألف ليلة» التي جعلتها نموذجًا لما يحدث في هذا الزمان الرديء الذي لو أطعنا متزمتيه لحرقنا أغلب التراث، وفى الصدارة منه «ألف ليلة وليلة» كنزنا الأكبر الذي عرف قيمته الغرب الذي اكتشفه نيابة عنا، والعالم كله الذي لم يكف عن دراسته وإصدار الموسوعات عنه. ولهذا انتقلت من مرحلة المتعة القرائية للوقوع في «غواية التراث» إلى توضيح أهمية الدفاع عن التراث. وكلا الاهتمامين ينطوي على حب التراث، وهل يدافع عن شيء إلا محب له، وصلت غوايته به إلى المدى الذي حفزه على الكتابة عن غوايته والدفاع عنه ضد من يجهلون قيمته؟! والحق أنني أكتب - دائمًا - ضد الأصولية الدينية المعاصرة التي أفسدت الذوق الأدبي والفني للكثيرين، وكادت تعصف بكتب من أمثال «الفتوحات المكية» وصادرت «فقه اللغة العربية» للويس عوض، وكثير غيرهما من الأعمال الإبداعية التي كادت تحرق لولا يقظة الرأى العام المستنير الذي لايزال يصل بين حرية الإبداع والتعبير وقضايا الحرية في كل مجالاتها. وقد أسهم هذا الرأي المستنير في إنقاذ كنوز تراثية ومعاصرة عديدة، وأعاد الاعتبار إلى صوفية من أمثال الحلاج والسهروردي وبشر الحافي. ولايزال الرأي العام المستنير يواصل معركته ضد الجهال والجامدين الذين تكاثروا لعوامل معروفة، ليس هنا مجال التفصيل فيها.

وكل ما أرجوه أن يقنع دفاعي القارئ بأهمية حماية التراث من الأذواق السقيمة والعقول الجامدة والتعصب الأعمى، مؤكدًا أن في تراثنا بكل مجالاته من الكنوز ما يظل في حاجة إلى الكشف.

 

جابر عصفور