مسودة التكنولوجيا في الكائنات الدنيا سمير رضوان

لو أمعن المرء النظر في أسس الكثير من جوانب تقدمنا التكنولوجي لتبين مشابه بينها وبين أنشطة حيوية تقوم بها كائنات أدنى منا في رتبة الخلق - منذ مئات الملايين من السنين.

تأثر عنوان هذه المقالة بكلمات، مازالت حية للمفكر الفيلسوف عباس محمود العقاد- حيث يرى أن مفهومنا لخلق الإنسان - أرقى الأحياء- يمكن له أن يتعمق من خلال دراسة ما أسماه "مسودة الخلق في الكائنات الدنيا". وأهم ما أهدف إليه من هذه المقالة هو أن أنتهي إلى أن التقدم التكنولوجي الذي حققه الإنسان حتى اليوم إنما هو في بعض جوانبه- إن لم يكن في معظمها - محاكاة لأنشطة مخلوقات أخرى سبقتنا إلى الوجود بمئات الملايين من السنين. بهذا المقياس لا يمكن اعتبار تقدمنا التكنولوجي - أو على الأقل جانب كبير منه - ابتكاراً صرفا، إنما فيه أقدار متفاوتة من المحاكاة والتقليد. وليس القصد من ذلك بالطبع أن نهون من شأن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي بلغه إنسان من شأن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي بلغه إنسان القرن العشرين - أو أن نحط من قدره. فهذا التقدم - بشتى المقاييس - هو مدعاة لفخر الإنسانية، وإعجابها بإنجازاتها، وثقتها في نفسها. ويكف لا والعقل البشري قد حقق هذا الكم الهائل من المنجزات التي أصبحنا نعتمد عليها في حياتنا اليومية ونجني ثمارها؟ أضف إلى ذلك أن هذا التقدم هو في الواقع دعم قوي لجوانب لخير ضد جوانب الشر في الإنسان، ويوافق غريزة التدين والعبادة فيه. ألم تحض الأديان السماوية على الإخلاص في العمل وإتقانه؟ ألم يجعل القرآن الكريم منه فريضة على الإنسان؟ وهل التقدم التكنولوجي إلا نتيجة للعم الجاد الدءوب؟ على أن ذلك كله لا يحول دون الاعتقاد في أن الكثير من جوانب التقدم التكنولوجي في أسسه ليست ابتكاراً، ولكنه ضرب من محاكاة ما يحدث على الأرض فعلاً منذ مئات الملايين من السنين.

الابتكار والمحاكاة

وحتى لا يفهم أحد هذين اللفظين على غير ما أعنيه بهما في هذه المقالة أبادر بالقول إن مفهوم الابتكار هنا هو إقحام أمر أو فكرة على الوجود لا عهد للطبيعة بهما، وليس لهما أشباه بين مخلوقات الأرض.

أما المحاكاة فهي بالطبع على النقيض من ذلك. ولجلاء هذا الأمر أدعو القارئ للنظر إلى أكثر ما "أبتكره" التقدم التكنولوجي شيوعاً وانتشاراً، لنرى أنه ليس ابتكاراً صرفا. خذ مثلاً السيارة، أليست تجري على أربع كما تجري جميع الدواب؟ ولا يلغى التشابه هنا أنها تستخدم العجل بينما تستعمل الدواب أطرافها. أليست تحتاج إلى الطاقة من وقود تحرقه، كما تحتاج الدواب - لكي تتحرك - إلى الطاقة من طعام تحرقه؟ أليس الأساس التكنولوجي في الحالتين هو أن تتحول الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية؟ والتشابه بين الطائرة والطائر أكثر عمقاً. إذ بالإضافة إلى أوجه الشبه السابقة تتفق الطائرة مع الطائر في الشكل الانسيابي، أو بتعبير التكنولوجيا الإيروديناميكي، وفي القوانين الطبيعية التي يعتمدان عليها في حمل الهواء لهما، وفي الآلية الخاصة بالارتفاع والانخفاض والالتفاف. ويمكنني أن أسهب في ذكر أمثلة أخرى لأملأ صفحات عديدة، لكنني أكتفي بهذين المثالين العامين لأتطرق إلى شرح أمثلة أخرى من مجال اهتمامي المهني وهو " الأحياء والتكنولوجيا الحيوية ". وأحسب أن تناول ممثل هذه الأمثلة هو أقصر الطرق وأسرعها للوصول إلى هدف المقالة. كما أحاسب أن المختصين في المجالات التكنولوجية والعلمية الأخرى قادرون- إن هم أمعنوا النظر" على رؤية مشابه عديدة بين بعض أوجه التقدم في تلك المجالات وظواهر طبيعية قديمة على كوكب الأرض.

الثورة والطفرة

يميز المشتغلون بالسياسة بين الثورة والانقلاب فبينما يرون أن الانقلاب يقتصر على تغيير الهيئة الحاكمة، دون مساس يذكر بشتى نظم الدولة ومؤسساتها، يعتبرون أن الثورة تشمل تغييراً شاملاً لا يقتصر على الهيئة الحاكمة، بل يتجاوزها إلى أسلوب الحكم وشتى النظم السياسية والاجتماعية. والثورتان الفرنسية والبلشفية هما من أشهر ثورات القرنين الأخيرين حيث غيرتا شتى مناحي الحياة في فرنسا و"الاتحاد السوفييتي"، واشتعلت- متأثرة بهما- ثورات عديدة في دول العالم الثالث. وربما مازال البعض يتذكر الجدل الذي كان محتدماً عن صفحات الجرائد وفي الشارع المصري، في غضون الخمسينيات حول ما قام به الجيش المصري في 23 يوليو؟ 1952- أكان ثورة أم انقلاباً عسكرياً ؟ والواقع أن ما حدث كان انقلابا أطاح بالملك سرعان ما تحول إلى ثورة غيرت وجه مصر تغييراً شاملاً. ومبدأ التغيير الشامل الذي يقحم على الوجود واقعاً جديداً ليدوم - هذا المبدأ السياسي- هو في واقع الأمر مبدأ طبيعي بين الأحياء- خاصة الدنيا منها - منذ خلق الله، ويسميّه علماء الأحياء " الطفور". ويعرف الطفور علميا بأنه تغيير مفاجئ في مكونات الكائن المسئولة عن الوراثة مما يؤدي إلى تحور مفاجئ في صفات هذا الكائن، أي إلى تغيير طفري، كما أن مثل هذا التغيير الطفري يتوارث عبر الأجيال المتعاقبة. ويسمى الكائن المتحور "طفرة". والطفور أكثر شيوعاً بين الأحياء الدنيا- خاصة وحيدة الخلية- مقارنة بالأحياء الراقية كالإنسان.

يمكننا القول إذن إن الثورة هي في الواقع محاكاة للطفور. وتعلمنا الخبرة البيولوجية أن التغيير الطفري كثيراً ما يؤدي إلى سلالات أكثر جودة وقوة من السلالة الأم، على أن العكس وارد أيضاً. وحتى لو كانت الطفرة قوية وجيدة فهي في بيئتها الطبيعية غالبا ما تواجه مشاكل معقدة، إذ تفاجأ السلالة المحسنة بواقع بيئي من حولها لا ينتابه التغير إلا ببطء شديد، فتجد هذه السلالة نفسها غريبة عن البيئة التي نشأ فيها آباؤها وأجدادها. من أجل ذلك لا يندر أن تهلك السلالات الطفرية وتنقرض على الرغم مما طرأ على صفاتها من تحسن. ولو نظر كثير من الساسة أعلى مسودة الثورة في الأحياء الدنيا ربما اقتنعوا بأن التغيير الذي يحلو لهم وصفه بالثوري كثير ما تواكبه مشاكل جمة، قد تؤدي إلى نقيض ما يرتجى منه. ولربما اقتنعوا أيضا بأن التغيير الموجه البطيء في الاتجاه الصحيح، مع تقويم الجدوى من كل خطوة صغيرة هما الأسلوب الأمثل للتطور البشري، يصدق ذلك في علم الأحياء، وبالقياس قد يصدق في السياسة والاجتماع. ومن اللافت للنظر أن كلمة ثورة لا تكاد تتردد في الدول التي حققت أكبر نصيب من التقدم، بينما توشك أن تكون تعبيراً مبتذلا من فرط استعماله في العديد من دول العالم الثالث النامية.

إنتاج الكتل الحيوية

يزداد اعتماد الإنسان باطراد عن البيولوجيا الحيوية لإنتاج ما يسمى بالكتل الحيوية لأغراض غذائية وصناعية. والكتل الحيوية - كما هو واضح من اسمها - ليست سوى أعداد هائلة من بكتيريا أو خميرة أو فطريات أو طحالب، تحصد بعد أن تكون قد نمت في مصانع تعرف بالمفاعلات الحيوية. ولكي يكون انتهاجها اقتصاديا، كثيرا ما تستعمل مواد أولية رخيصة، أو حتى نفايات صناعية، كمواد غذائية لازمة لنمو الخلايا الميكروبية. وينتج المفاعل الحيوي الواحد من هذه الكتل كميات ضخمة تبعاً لطاقة المفاعل، قد تصل إلى عشرات الأطنان في المرة الواحدة. وتكمن قيمة الكتل الحيوية في أنها تحتوي على معظم المواد اللازمة لغذاء الإنسان والماشية. وتشمل هذه المواد البروتينات والدهون والكربوهيدرات إضافة إلى العديد من الفيتامينات والأملاح المعدنية. ويمكن إثراء الكتل الحيوية لأنواع من الميكروبات بمواد قيمة، إمّا ببرمجتها وراثيا (الهندسة الوراثية) أو بالتحكم في ظروف نموها، ثم استخدامها كمصدر لمثل تلك المواد القيمة. وكأمثلة للمواد القيمة التي أصبحت تنتج بالفعل من الكتل الحيوية نذكر بعض الستيرولات والصبغات والأحماض الدهنية غير المشبعة والإنزيمات والجلسرين. وهناك شركات تنتج من كتل طحلبية أقراضا تطرحها في السوق كمصادر للبروتينات والأحماض الدهنية وتعزى إليها قدرات علاجية لبعض الأمراض. ومن أوائل الدول التي حققت نجاحا في هذا النمط من التكنولوجيا الحيوية كل من "الاتحاد السوفييتي"سابقاً و"ألمانيا الشرقية" قبل الوحدة حيث نجحتا معاً على المستوى الصناعي في إنتاج كتل حيوية من الخميرة المزروعة على مكونات النفط الخام. وتستخدم هذه الكتل كأعلاف للماشية. ويعتقد الكثيرون أن هذه التكنولوجيا هي تكنولوجيا المستقبل القريب. إذ مع التزايد المتسارع لأعداد البشر على كوكب الأرض واقتران ذلك بمحدودية الرقعة الزراعية خاصة في العالم الثالث، لا سبيل أمام العالم لتوفير الغذاء غير الاعتماد على الكتل الحيوية، التي يمكن أن تستخدم أساساً كأعلاف للماشية والأسماك والدواجن. والمتوقع أيضا أن تسهم هذه التكنولوجيا في حل مشكلة تراكم بعض النفايات من خلال استخدامها كمواد أولية لزراعة الميكروبات. وأود أن أنبه هنا إلى أن لهذه التكنولوجيا الحديثة أيضا أصولاً بين الأحياء الدنيا التي ظهرت على الأرض قبل الإنسان بمئات الملايين من السنين. فهناك أنواع من النمل كانت قد ابتكرت هذه التكنولوجيا بالفعل لتنتج كتلاً حيوية لأنواع من الفطريات. ويتغذى سكان مستعمرة هذا النمل على هذه الكتل، وليس لها من طعام سواها، حتى أن نوع النمل هذا ونوع الفطر الذي يزرعه أصبحا متلازمين في الوجود، لا تصادف أحدهما دون أن تصادف الآخر معه. وتشبه تكنولوجيا النمل تكنولوجيا الإنسان في جميع أسسها، إذ يجمع أفراد النمل المواد الأولية اللازمة لنمو الفطر وهي عبارة عن أوراق نبات معين وأزهاره وشتى ما يسقط منه. ثم تعمل على تمزيق هذه البقايا إلى قطع صغيرة تجعل منها كومة في مفاعل حيوي داخل المستعمرة. والمفاعل الحيوي هو غرفة اختيرت بعناية داخل المستعمرة - درجة حرارتها ملائمة لنمو الفطر- ومصممة بحيث يصل الهواء والمطر إلى كومة الأوراق باستمرار وبيسر. ثم تعمل أفراد النحل على زراعة الفطر، أي حقنه في المادة الأولية كما يعبر عن ذلك في التكنولوجيا الحديثة، وذلك بنقل قطع صغيرة من الفطر المتوافر لديها من قبل إلى كومة الأوراق المبللة - جيدة التهوية - ثم تترك الفطر لينمو تحت أنسب الظروف، حتى تنشأ الكتلة الحيوية الجديدة، التي تستهلك معظمها غذاء وأقلها لحقن كومة جديدة من الأوراق في المفاعل الحيوي. لقد سبق النمل الإنسان إذن في واحد من أحدث مجالات التكنولوجيا الحيوية الذي يظنها الكثيرون ابتكاراً صرفاً من بنات أفكار العلماء في العصر الحديث.

تكنولوجيا الهندسة الوراثية

الهندسة الوراثية هي أكثر أساليب التكنولوجيا الحيوية إثارة للإعجاب والجدل في آن واحد. وهي تعتمد في أساسها على تحوير الجهاز الوراثي للكائنات الحية من خلال إدخال عوامل وراثية جديدة منها مما يفتح الباب لتطبيقات صناعية وبيولوجية لا حدود لها. ومبرر الإعجاب هنا يتعلق بإمكان برمجة ميكروب مثلاً وذلك الإنتاج مادة قيمة لا يستطيع إنتاجها أصلاً من خلال إدخال العامل الوراثي المتحكم في إنتاج هذه المادة إلى جهازه الوراثي. بذلك نضمن أن الميكروب سوف ينتج هذه المادة، وأنه سوف يتوارث مقدرته على إنتاجها على مدى الزمان. فإذا زرع الميكروب المبرمج في مفاعل حيوي أمكن عزل المادة المرغوبة من كتلتة الحيوية. ومن المواد التي أصبحت تنتج بالفعل بهذا الأسلوب هرمون الإنسلين- حيث بُرمج لإنتاجه نوع شائع من البكتيريا يقطن جهاز الإنسان الهضمي. وقد ابتدعت هذه الطريقة إحدى شركات الأدوية الألمانية الشهيرة، فتوافرت بذلك تكنولوجيا لصناعة إنسلين مشابه في تركيبه الكيميائي لإنسلين الإنسان، ما كان له ليصنع لولا الهندسة الوراثية. أما الجدل الذي تثيره الهندسة الوراثية فيتعلق بإمكان فتح الباب "للتلاعب" في الصفات الوراثية للكائنات الحية مما سوف يؤدي بالضرورة إلى إنتاج سلالات وأنواع وأجناس من الأحياء لا عهد لكوكب الأرض بها. فإذا فقد الإنسان قدرته للسيطرة على بعضها ربما انتهى ذلك بكوكب الأرض إلى كارثة، وهي مخاوف موضوعية رغم أنها تتسم من الوجهة العلمية بقدر كبير من المبالغة. وليس المجال هنا هو مناقشة هذا الموضوع المثير، لكن ما أريد أن أنبه إليه هو أن تكنولوجيا الهندسة الوراثية - كما وصفناها - لها هي الأخرى أصول في الكائنات الدنيا التي تقطن الأرض قبل الإنسان بمئات الملايين من السنين، وما زالت تتم في هذه الكائنات الدنيا بأسلوب مشابه للأسلوب الحديث. فقد بات معروفاً أن بكتيريا التربة كثيراً ما تصيبها فيروسات تكمن داخل الخلايا البكتيرية دون أن تسبب لها أضراراً بالمرة. غير أن هذه الفيروسات تلصق مادتها الوراثية بمادة الخلية البكتيرية الوراثية لزمن محدود. خلال ذلك يتوارث نتاج الخلية البكتيرية الفيروس، وكأنه جزء لا يتجزأ من جهاز الخلية الوراثي. ولكن سرعان ما تنفصل جزيئات الفيروس مصطحبة معها أجزاء صغيرة من المادة الوراثية الخاصة بالخلية البكتيرية قبل أن تغادرها. فإذا أصاب هذا الفيروس المتحور خلية بكتيرية جديدة، وألصق مادته الوراثية بمادتها، ثم هم بمغادرتها فهو عندئذ قد يترك الجزء الذي اقتطعه من الخلية التي استضافته من قبل، أو أكثر منه أو أقل. وعلى ذلك فمثل هذا الفيروس هو في الواقع "مهندس وراثي" يفعل فعل خبراء الهندسة الوراثية الحديثين وذلك منذ مئات الملايين من السنين. بل إن خبراء الهندسة الوراثية الحديثين جعلوا من مثل هذه الفيروسات واحدة من أهم وسائلهم لإدخالهم العوامل الوراثية المرغوبة في الخلايا البكتيرية المراد برمجتها وراثياً.

التخليد بالتجفيف والتثليج

في العديد من مجالات التكنولوجيا الحيوية كثيراً ما يتطلب الأمر الاحتفاظ بالسلالات الميكروبية القيمة، وخزنها لآمادة طويلة. ولا ينبغي أثناء الحفظ أن يطرأ أي تغيير على أجهزة الوراثة في الخلية قد يفضي إلى تنحي الصفة القيّمة المرغوبة في السلالة. ومن المعروف أن حفظ الخلايا الميكروبية تحت الظروف العادية - أو حتى المثابرة على زراعتها أسبوعياً في محاليل غذائية جديدة - هذه الأساليب لا تضمن أية حماية للخلايا من التغيرات الوراثية. لذلك كانت هناك بحوث مستفيضة في شتى دول العالم على هذه المشكلة، حتى اكتشف الباحثون إن إحدى أفضل الطرق هي تخليد الخلايا من خلال تجميد أنشطتها الحيوية بالتجفيف عند درجات حرارة تقل كثيراً عن نقطة تجمد الماء. والعبرة هنا هي بانتزاع الماء من الخلية دون الإخلال بمكوناتها وجزئياتها وترتيبها الفراغي داخلها. في هذه الحالة تظل الخلية حية بيولوجيا، ولكنها مجمدة النشاط لنقص الماء. فإذا ما زودت بالماء - ولو بعد قرون - استأنفت أنشطتها الحيوية كما كانت تماماً قبل انتزاع الماء منها. ويلزم التثليج هنا أولا لوقف أنشطة الخلية، وثانيا - وهذا هو الأهم - للإبقاء على الترتيب الفراغي لمكونات الخلية على ما هو عليه، حتى يتسنى لها استئناف أنشطتها فور توافر الماء لها مرة أخرى. أما إذا تركت الخلية لتجف في الهواء عند درجة حرارة الغرفة أو في الفرن فإن هذا يفضي إلى اختلال في ترتيب مكوناتها الفراغي، ومن ثم إلى موتها. ونشير هنا إلى وجود معاهد متخصصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم، طبقا لاتفاقات تعقدها مع بعض الناس وأغلبهم من الأثرياء بحفظ أجسامهم مثلجة عند درجة تحت نقطة التجمد بكثير. ومثل هؤلاء مصابون بأمراض لم يتوصل الطب بعد لعلاجها- مثل أنواع من السرطان والإيدز- وغيرهما - ومن ثم فهم يتعاقدون مع المعاهد المتخصصة على تجميد أجسادهم وحفظها مجمدة حتى يكتشف العلماء أساليب لعلاج أمراضهم، وذلك بالطبع لقاء مقابل مادي متفق عليه. والذي يعنينا هنا هو أن نؤكد أن تخليد الخلايا الحية بالتجفيف ليس أمراً جديداً، إنما هو واقع منذ مئات الملايين من السنين في أنواع من البكتيريا، إذا ما أن تبلغ الخلية مرحلة متقدمة من العمر حتى تفقد معظم ما بها من ماء، بلا حاجة حتى للتثليج. وتنكمش محتوياتها محتفظة بالترتيب الفراغي لجميع المكونات على ما هو عليه، وتحاط بأغلفة عديدة لتكون وحدات حية ولكنها بلا نشاط يذكر تسمى "الأبواغ". تبقى هذه الأبواغ مجمدة النشاط طوال سنين عديدة، وتكتسب قدرة عجيبة على تحمل ظروف قاسية لا تتحملها الخلية النشطة، مثال ذلك أنها تبقى حية حتى عند نقطة الغليان. وبمجرد امتصاصها الماء تستأنف الخلية نشاطها كما كانت قبل الجفاف، وعندئذ لا تتحمل الظروف القاسية كما كانت وهي جافة. يمكن القول إذن إن بعض أنواع البكتيريا سبقت التكنولوجيا الحيوية الحديثة بمئات الملايين من السنين في قضية التخليد من خلال التجفيف.

 

سمير رضوان