في اليوبيل الفضي لـ «مراسلين بلا حدود» في باريس

في اليوبيل الفضي لـ «مراسلين بلا حدود» في باريس

البحث عن ألكسندرا بولا
رحلة مصورة من أجل حرية الصحافة

رغم وجود مطر خريفي، و مظاهرات كانت قد بدأت تبزغ هنا وهناك، كانت قاعة «جاكو» بمتحف القصر الصغير بباريس عامرة بالزوار. هنا، في هذا القصر البديع، الذي تتخذه بلدية باريس متحفاً للفنون الجميلة منذ عام 1902، احتفلت منظمة «مراسلين بلا حدود» باليوبيل الفضي لتأسيسها، بإقامة معرض «100صورة لبيار وألكسندرا بولا من أجل حرية الصحافة». على مدار ستة أشهر، أعاد الزائر اكتشاف أعمال اثنين من أهم فرسان الصورة الصحفية العالمية، هما بيير بولا (1924-1998)، نجم مصوري مجلة «لايف» الأمريكية في أعوامها الذهبية، وابنته ألكسندرا بولا (1962-2007)، أكثر مصوري الحروب في جيلها موهبة وحساسية. المعرض، بما يتيحه من مساحات للمقارنة ومستويات للتأمل، يعد أشبه بحوار فوتوغرافي بين تجربتين فريدتين، بين زمنين متباينين، بين وجهتين للنظر إلى الحياة؛ إحداهما تتغنى بصنوف البهجة، وتقع في ميمنة قاعة العرض بالأبيض والأسود، والأخرى تغوص في أعماق الألم، وتحتل الميسرة، مع وجود خطوط تماس في مواضع، تدخل عندها أعمال الابنة في جدلية بصرية مع أعمال الأب.

الصور المعروضة بقدر ما تجذبك إلى عوالم البشر الذين وقفوا أمام العدسة، تدفعك لتقصي حكاية بيار وألكسندرا، اللذيْن أمسكا بالكاميرا وأجالا البصر في الكون. قصتهما معاً هي قصة الموهبة حين تنبت في كنف الخبرة، في مناخ يسوده حنين إلى شيء جمالي غائب مرموق، يستحق عناء البحث عنه، ويستحق أن يُخلّد داخل إطار.

لكنك ما إن تعبر البوابة، وتفتح الصفحة الأولى من سيرة آل بولا المشتركة، حتى يسوقك الفضول إلى تأمل حياة وممات ألكسندرا، وتجد نفسك مُساقاً في رحلة استقصاء لتحري قصة هذه الفتاة الجميلة الراحلة، التي كان من الممكن أن تكون عارضة أزياء شهيرة أو ربة بيت تنتظر الزوج وتنجب الأطفال، لكنها اختارت مجال إبداع قلّما استقطب النساء، فارتأت أن تكون مصورة حرب، تلتقط صور مآسي هذا الزمن الدامي في يوغوسلافيا، وفي العراق، و في أفغانستان، و في غزة، قبل أن تنزف داخل سيارة إسعاف فلسطينية عالقة أمام نقطة تفتيش إسرائيلية ، لترحل في الخامسة والأربعين.

في معرضها الباريسي هذا إذن ، كان غياب ألكسندرا حاضراً، حضوراً يوازي حضور نظرتها الإنسانية المتألقة في كل لقطاتها. غيابها كان بُعداً ثالثاً في كل صورة، وعمقاً لونياً مضافاً لتعانقِ الظل والنور.

***

إليكم القصة كما اختصتني بأطراف منها أمها. إن حاولت إتمامها بما توافر لي من وثائق:

في طفولتها، كانوا ينادونها «ساندرا»، فهي لم تبدأ في استخدام اسمها الكامل، «ألكسندرا»، إلا عندما ذهبتْ إلى يوغوسلافيا وصارت مصورةً محترفة، وكأن اكتمال الصفة استدعى اكتمال الاسم.

منذ نعومة أظافرها، حلمتْ بأن تكون مصورة، وفي بيت أهلها الريفي بفونتنبلو، كانت ترتدي هي وأختها أنطوانيت أبهى الثياب، لتظل هي تلتقط الصور بجدية طفولية وصبرٍ احترافي. ولا غرو، وهي من كانت دوما تقول ضاحكةً: «وُلدتُ في سائل تظهير الصور. فوالدتها هي آني بولا، رئيسة وكالة كوزموس الفرنسية للتصوير الصحفي، أما الوالد فهو بيار بولا، المصور الفرنسي الأشهر طوال خمسين عاما، الذي صنع مجده في مجلة لايف الأسطورية، ومن ثم على أغلفة مجلة تايم، فإلى عالم الريبورتاج الصحفي المصور في مجلة باري ماتش.

كان بيار المصور الفرنسي الوحيد الذي عمل بعقد ثابت مع مجلة لايف، وأول صحفي غربي تطأ قدماه الاتحاد السوفييتي، والصين، وحيثما كان له سبق في بلاد تركب الأفيال أو أخرى توقر العم سام، جاب العالم يوثق بالصورة أنباء الساعة من ثورة الجزائر إلى العدوان على مصر، فضلاً عن أخبار بياض المجتمع من نجوم فن وسياسة ورياضة، في حقبة ما بعد الحرب، حين كان الغرب يستعد للتعافي مما شهد من ويلات، ويستعيد بهجة التلذذ بالحياة، ويعيد إعمار المستقبل وسط أجواء تواقة للسلام.

وبطبيعة الحال، كانت ساندرا الصغيرة مأخوذة بأبيها، وبهالة النجومية التي تحيط به. وبالحكايات المدهشة التي كان يعود محملاً بها من أسفاره التي لا تنتهي، بل كان أحيانا ما يصحب أسرته الصغيرة في رحلات إلى بلدان بعيدة، تظل خلالها الصغيرة ترقب أباها وهو يمارس فن التصوير الصحفي، فيكتمل انبهارها به، وتزداد تعلقاً بالمهنة.

وكانت تلك الأسفار لا تخلو من لحظات سحرية، حفظتها ذاكرة الطفلة، واستعادتها في سنوات نضجها. ذات مرة، ركبوا جميعاً السيارة، وسافروا بها من فرنسا إلى المملكة العربية السعودية. مروا في رحلتهم بتركيا، وسوريا، وفي الأردن، عند أطلال مدينة البتراء، جلسوا معاً وقت الغسق، على صخرة مسطحة، وراح بيار يقص عليهم- رغم علمانيته المعلنة- قصة النبي عيسى عليه السلام...

كان بيار إنسانا رائعاً، وأباً صالحاً، لكنه كان شديد الصرامة، ودائم السعي إلى الكمال. كان إذا لم يعجبه شيء فيك يقوله لك في وجهك بغير ترفق، مثبتاً عينيه الثاقبتين في عينيك، وقد ينفجر فيك، من دون مقدمات، كلغم أرضي وطأته قدمٌ عاثرة.

لذلك حين أبدى بيار ممانعة في اشتغال ابنته بالتصوير الفوتوغرافي بعد حصولها على البكالوريا، متذرعا بأن تلك المهنة لا تصلح للبنات، أذعنت ساندرا صاغرةً. ففي قرارة نفسها كانت تخشى ألا تكون جديرة بتبعات حمل هذا الإرث المهني الكبير. لكن ذلك لم يمنعها من ترك منزل العائلة للاستقرار في باريس، ولدراسة الرسم في كلية الفنون الجميلة. ومن باريس، ما لبثت أن انتقلت إلى اليابان.

بقيت عامين في بلاد الشمس المشرقة تخالط أوساط المثقفين، وترسم اللوحات وتقيم معرضين، وتبيع القليل من أعمالها الفنية، فتضطر للظهور في إعلانات الصابون ومعجون الأسنان. وعندما حان موعد تجديد تأشيرة الإقامة، خرجت إلى هونج كونج، وهناك وجدت نفسها قريبة من الصين، ففردت أجنحتها مجدداً وطارت إلى أرض التنين الأحمر.

هكذا كانت هي، تتعلق بأجنحة الفكرة ما إن تعنّ لها، بشجاعة يسميها عموم الناس تهوراً. وكان لبيار يدُ في ذلك؛ إذ تكتب ألكس في مذكراتها: «أذكر أن أبي طلب مني ذات مرة أن أصعد إلى سطح المنزل الشاهق المائل. وكدت أموت خوفا، لكنه أمرني أن أفعل، كي أستطيع قهر الخوف».

وقد فعلَتْ، ووقفتْ على رأس البيت. قدماها ترتعشان على القرميد، وأبوها في الفناء يصفق لها مشجعاً، بينما الأم تخفي وجهها بكفيها، لا تجرؤ على النظر لأعلى، حيثما وقفت طفلتها تطالع الخوفَ وجهاً لوجه.

فيما بعد، في البوسنة، حين كانت ترى الوجه نفسه يلوح مع طلقات القناصة، أو يجتاح غرفتها بفندق «فلسطين» في بغداد، أو يهدد باختطافها في كابول، أو يرقص على أكوام الجثث في بيت حانون، كانت تكاد تموت رعباً، لا تهدأ حتى تعاودها ذكرى ذلك اليوم البعيد على سطح بيت أهلها، حين قاومت جنوناً بجنون.

وعودةً إلى الرسامة الصبية حيث تركناها في الصين، فقد بقيت هناك حتى نفاد نقودها، عندئذ اتصلت بوالديها من كانتون تطلب لجوءاً عائلياً. كانت في الثانية والعشرين حين عادت من رحلتها الآسيوية إلى باريس. ظلت ترسم لبضعة أعوام، مقدمة إنتاجاً غزيراً وناطقاً بالإبداع والجدية، ضمن مجموعة من شباب الفنانين الموهوبين. ثم كان يوم قررت فيه التوقف عن الرسم، إذ أدركت أن الرسم ليس حلمها، فقد ظلت الفوتوغرافيا تناديها.

عندها، أيقن بيار أنه لن يستطيع إثناءها، فأهداها كاميرا وعدستين، وأرسلها مرة أخرى إلى السطح. ولكن هذه المرة، لم يكن سطح المنزل وإنما سطح قصر الـ«أنفاليد»، حيث يقع المتحف الحربي، الذي كان العمل يتم فيه على قدم وساق، لإعادة تذهيب قبته المهيبة، بمناسبة الاحتفال بالمئوية الثانية للثورة الفرنسية. هكذا أعطاها بيار فكرة قصتها الصحفية الأولى، التي صورتها بامتياز، وباعتها آني بواسطة وكالة كوزموس لمجلة باري ماتش، التي أفردت ست صفحات للتحقيق.

وانطلق فرخ العنقاء، وتلقت ألكسندرا عرضاً من مؤسس ورئيس وكالة سيبا برس الشهيرة (SIPA press)، المصور التركي جويكسن سيبا أوغلو، للانضمام إلى فريق مصوريه. هناك تعلمت قواعد مهنة التصوير الصحفي على أصولها، وأوكلت إليها شتى المهام، من تغطية إضرابات وسائل النقل إلى تصوير استعراضات الليدو.

ثم سقط حائط برلين.. والتقط سيبا أوغلو بحدسه الصحفي أمارات اقتراب حدوث تغيير في الحدود و الأجواء. وكان مهتماً على وجه الخصوص بيوغوسلافيا. فقرر أن يرسل مصوراً إلى هناك لإجراء سلسلة تقارير ميدانية تعيد لأرشيف الوكالة جاهزيته إذا ما وقعت الواقعة، فتقدمت ألكسندرا وطلبت السفر، وهي لا تعي أن ثمة حرباً ضروساً على الأبواب.

كانت هناك قبل البداية في 1991حتى النهاية في 1999: حين اشتعلت الحرب في سلوفينيا، وحين انطلق الصرب دولةً وجيشا ومدنيين يذبِّحون المسلمين البوشناق، وحين وقعت عمليات الإبادة والتهجير في سربرينيتشا، وحين دخل الكروات في اللعبة القذرة في بروزور وموستار، ثم حين دك سلوبودان ميلوسيفيتش كوسوفو فوق رءوس الألبان وجيش التحرير، ثم حين أرسلت قوات حلف شمال الأطلسي طائراتها لدك السماء فوق رأس ميلوسيفيتش.

كانت هناك توجه عدستها على الأخص إلى الضحايا المستضعفين، وتتفرس وجوه الثكلى واليتامى والعجائز. وإن لم تُغفل تصوير الجناة المجرمين، الذين كانوا يتخذون وضعية التصوير، شاهرين أسلحتهم، ومبتسمين بدم بارد للآنسة الفرنسية الحسناء.

ها هي صورها في معرضها الباريسي، المقام لدعم قضية حرية الصحافة، تنطق بحجم المأساة، وتنبئ بأصالة الموهبة.

عند نشوب المعارك الأولى، طلب إليها جويكسن العودة، لكنها اختارت البقاء، إذ كانت قد عاشت بضعة أشهر بين أهل البلد، وبدأت ترتبط بهم، ورأت كيف راح الأبرياء يتساقطون من حولها في «طريق القناصة» بسراييفو(Sniper Alley). تقول لي والدتها: «ابنتي لم تكن تؤمن في البداية بأنها ناشطة مكلفة بمهمة إعلامية أو سياسية. ولم يكن يحركها ذلك الفضول الصحفي البارد الذي يحرك عادة الصحفيين الذاهبين لتغطية الحروب، وإنما كانت تتصرف بشكل إنساني بحت. فالفوتوغرافيا بالنسبة لها كانت وسيلة للتقرب إلى البشر.ألكس كانت شديدة الاكتراث لآلام البشر. كانت تتأثر بصدق، لهذا بقيت هناك رغم مناشدة رئيسها لها بالعودة».

وفي مهرجان فيزا الدولي للتصوير الصحفي بمدينة بربينيان، أكبر تجمع سنوي لمصوري العالم، تعرفت ألكسندرا على كِنت كوبرستين، كبير مصوري مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» العريقة، الذي عرض عليها نشر القصة الصحفية التي أنجزتها في كوسوفو.

كما كلفها بقصة طويلة حول ألبانيا، ثم بتحقيق مطول آخر حول النزاع العرقي والديني الذي نشب في إندونيسيا، بعد الإطاحة بالرئيس سوهارتو بثلاثة أعوام.

واستحبت ألكسندرا الترحال الطويل، فاستقالت من وكالة سيبا برس، وباتت تعمل كمصورة حرة. وراحت تنشر القصة تلو الأخرى في «ناشيونال جيوجرافيك». كانت تفضل ذلك النوع من الصحافة المعمقة المطولة، الذي يتيح لها أن تنفق الوقت بسخاء في اقتفاء الفكرة، وتخيّر الزاوية، والاقتراب- على مهل- بجهاز قياس الضوء من وجه الحقيقة..

كانت تشعر في أسفارها تلك بشبح الوحدة يقفو أثرها، فيفسد عليها خلوتها، أو يتجسس عليها وهي بين الناس. لكنها نجحت مع ذلك في إقامة بضع صداقات من ذلك النوع الذي ينشأ تحت القصف أو أمام المقابر الجماعية.

وجاء عام 2003، وراحت آذان العالم تتسمع طبول الحرب في العراق، وكانت هي آنذاك في أعالي جبال الأطلس الوعرة، تشتغل بقصة مبهجة لا تنسجم مع مزاج أعمالها العام، إذ كانت تصور تحقيقاً حول أعراس البربر المغاربة، في أجواء تراثية غرائبية، تقع خارج حدود الزمن. وكانت هي كمن له عينٌ في الجنة وعينٌ في النار، تحدوها رغبةٌ ملحة في التحول بكامل البصر إلى حيثما سترتفع ألسنة النار.

وقتها، كان الحصول على تأشيرة لدخول العراق أمراً عسيراً، لكن أصدقاءها في مجلة «تايم» قدموا لها هذه الهدية الثمينة، أما رؤساؤها في «ناشيونال جيوجرافيك»، فقد قبلوا أن تقطع مهمتها في المغرب كي تذهب إلى بغداد. وهناك، راحت ألكسندرا بولا توثق بالصورة والكلمة المكتوبة والمسموعة يوميات ما قبل الحرب، في قصة مطولة بعنوان «بغداد قبل القصف».

رصدت صور صدام المشهرة في كل مكان، تلك الصور العملاقة المنتمية إلى مدرسة الفن الشمولي الفجة، والتي تُنصب عادة في ميادين «العالم الثالث» حتى تمزقها لاحقاً جموعُ المتظاهرين الغاضبة، أو تقذفها بالأحذية، أو تدبج فوقها عبارات الرفض، إذا ما زحفت لإسقاط الطغاة.

في «بغداد قبل القصف»، وجهت ألكسندرا عدستها إلى مواكب الاحتفال والتأييد التي حُشدت لتغييب وعي الشعب، واجتهاد آلة الدعاية الحكومية في التضليل والكذب، وامتناع الناس حتى وقت متأخر عن اتخاذ التدابير اللازمة قبل اندلاع الحرب، لأن ساستهم أقنعوهم بأنه ما من غزاة قادمين.

هنالك كان أشهر مصوري العالم موجودين بصحبتها. في الصباح، كانوا ينطلقون جميعاً، كلٌ يمضي في طريقه، يقتنصون اللقطة الفريدة، ليعودوا في المساء، كلٌ يحمل صيده، فيعرضه بزهو على الأصدقاء. إلا هي. كانت لا تعرض صورها، فعلى عكس زملائها الذين كانوا يستخدمون كاميرات رقمية تتيح مشاهدة الصورة فور التقاطها، ظلت هي تعتمد على كاميرا ذات أفلام ضوئية. وكانت إدارة «ناشيونال جيوجرافيك» قد اتخذت قراراً حكيماً بأن طلبت ألا يتم تحميض الأفلام في العراق، ضماناً للجودة، وتحسباً لمضايقات الرقابة المشددة التي فرضتها وزارة الصحَّاف على الصحفيين الأجانب، حتى إنها ألزمتهم تجديد التأشيرة كل عشرة أيام. وبالفعل، تسبب الاطلاع على ما احتفظت به الذاكرة الرقمية من صور، في ترحيل العديد من المصورين.

كان قد مضى شهر على وجودها في بغداد حين بدأ القصف الأمريكي، وكانت معظم المجلات قد أمرت طواقمها في العراق بالمغادرة. لكنها أبت، وبقيت، وصعدت فوق الأسطح، وتحدت الجاذبية الأرضية، وصورت، وكتبت قصتها المطولة الثانية «يوميات حرب».

ها هي لقطاتها المهيبة تطل علينا اليوم في معرضها الباريسي بالقصر الصغير. لقطة يغشاها دخان أسود كثيف يملأ سماء بغداد إثر قصف آبار البترول على مشارف المدينة. ولقطة أخرى على سطح أحد المنازل، تظهر حبل غسيل تتدافعه رياح عاصفة بينما ارتفعت ألسنة نار وأعمدة دخان. ولقطات السلب والنهب تُرى فيها عباءات سوداء تهرب حاملةً كرسياً أو ألوح سرير. ثم لقطة داخل مشرحة، لجثمان طفلة متفحم الأطراف، مُدد على طاولة التغسيل الرخامية، وقد أحاطت به بطانية متسخة، وعلى حائط القيشاني في الخلفية، كُتبت كلمتان: «يمين... يسار»، مع سهمين يشير كل منهما عكس الآخر، بينما وقفت امرأتان- لابد أنهما الأم والخالة- تنوحان من أعماق القلب...

وبالطبع هناك تلك اللقطة البانورامية الشهيرة، للحبل المعلق في رقبة تمثال صدام حسين، بينما راحت مجنزرة أمريكية - بمن عليها من جنود- تشد الحبل، وحشود عراقية، إنها غوغائية الابتهاج، تنتشر كالنمل في ميدان الفردوس. كم يبدو التكوين التشكيلي لهذه اللوحة الفوتوغرافية موحياً ومثيراً للشجون بعد كل تلك السنوات!

فالجنود الأمريكيون في مقدمة الصورة، والتمثال الآيل للسقوط يبدو إلى اليمين. وجهة اليسار، بدا مسجد بديع القبة شامخ المئذنة. هنا أيضا تكاد الكلمتان المكتوبتان على حائط القيشاني في المشرحة تظهران: «يمين...يسار»، وكأنهما تؤذنان بما سيصيب جسد العراق من تنازع مذهبي وتقطع في الأوصال.

تُرى، هل جالت في ذاكرة الابنة، وهي تلتقط مشاهد الغزو الأمريكي، ذكرى صورٍ قديمة التقطتها عدسة أبيها؟ لا شك، ففي ميمنة المعرض، يمكن للزائر مشاهدة تلك الصور التي نشرها بيار بولا في مجلة لايف عام 1957، عن «ثكنات الوحوش»، وهو الاسم الذي يُطلق على أكاديمية «وست بوينت» العسكرية، التي يتخرج فيها ضباط الجيش الأمريكي، لكن صور بيار تظهرهم كوحوش مدجنة، يتلقون أوامر معلميهم بوجوه مرتعدة، وسحنات مضحكة، يلبسون سترة الحمام، ويمسكون بالمنشفة، ويصطفون في انضباط متشنج، انتظاراً لدورهم في الاستحمام، أو يرقصون «الفالس» في حصة الرقص، بوجوه ملائكية تكاد لفرط رقتها أن تبدو أنثوية.

أما صور ألكسندرا، على الميسرة، فتكاد تصرخ، مخاطبة أبيها بعد رحيله ورحيلها بأعوام، قائلة: «أرأيت؟ أرأيت يا أبت ما فعلته وحوشك اللطيفة في العراق؟».

مثل هذه الأصداء تتجاوب بين ميمنة المعرض وميسرته في شتى الموضوعات، مرة أخرى: يمين... يسار... فها هي المرأة كما صورتها عدسة بيار نهاية الخمسينيات: نادلة فاتنة في مقهى، أو سيدة مجتمع أنيقة ترتدي قفازات بيضاء وفراء، أو وجه تسكنه ملائكية الطفولة قبل أن تغزوه ملاحة الشيطنة، وتُعرف صاحبته بعد أعوام تحت اسم بريجيت باردو.

أما نساء ألكسندرا، على الجهة اليسرى من المعرض، فعلى غير تلك الشاكلة؛ فهن يمثلن نماذج أخرى مثل: لاجئة أفغانية حيزبون، غاضبة النظرات حمراء الجفنين، أو شرطيات في سلاح الرماية الإيراني النسائي، أو «شيما»، الفتاة الأفغانية التي أشعلت النار في جسدها هرباً من اضطهاد حماتها، أو الشهيدة الفلسطينية «ميرفت أمين مسعود»، أو السيدة «جميلة شانتي» النائبة الحمساوية المجاهدة ضد الاحتلال. وهي الصور التي ظهرت ضمن تحقيق موسع بمجلة Time، بعنوان: «متواضعات»، حول وضع المرأة في الدول المدرجة ضمن ما يُسمى بـ«محور الشر»، وحرصت فيها ألكسندرا على إظهار الظروف المعيشية الخاصة بالمرأة في تلك البقاع، وبينت من خلالها كيف يمكن أن تكون للحقيقة نفسها عدة وجوه.

قرابة أربعة عقود تفصل ما بين ميمنة المعرض وميسرته، لكن تحاور الجيلين يجسِّر الفجوة الزمنية، ويرسِّم الحدود بين الثوابت والمتغيرات. فها هي صور بيار بولا التي تظهر استعدادات إيف سان لوران قبل تقديم عرضه الأول عام 1962، تقابلها على الجهة الأخرى صور ألكسندرا للمصمم الأسطورة في شيخوخته، قبيل تقديم عرضه الأخير عام 2002. ثم هاهي صور بيار في بورسعيد عقب العدوان الثلاثي، تظهر استمرار الحياة رغم الدمار، تقابلها صور ألكسندرا في بيت حانون بعد عملية اقتحام، تعزف اللحن نفسه وإن استعانت بتنويعات أكثر حدة.

ورغم رحيل بيار عام 1998 بعد معاناة مع مرض الشلل الرعاش، ظل هذا الحوار الخفي قائما في رأس ألكسندرا، التي كانت تحفظ لقطات أبيها على جدار القلب. و كأن الإبداع حفزه إبداع سابق، استحث مكامن الإلهام من دون أن يتحول إلى هاجس قهري أو يمثل قيداً يأسر انطلاقة الخيال. فما من شيء كان باستطاعته أن يقيدها. ويكفي أن نطالع الصور والتقارير التي أنجزتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كانت أول صحفية غربية تدخل بيت إسماعيل هنيّة، بعد فوز حماس في انتخابات 2006. البيت كما صورته عدستها لمجلة باري ماتش، فسيح وبسيط، يعيش فيه «رئيس الوزراء» مع تسعة عشر فرداً من أفراد أسرته. صوَّرته في مكتبه بالدور الأرضي، وفي غرفة الطعام حيث جلس يأكل الفول والجبن والزيتون، وفي غرفة نومه الصغيرة بالطابق الثالث، حيث وقف أمام مرآة الحمام يضبط عقاله وغترته. في التقرير حِرصٌ على إظهار مبلغ الشعبية التي يحظى بها الرجل، وحجم الصعوبات التي تواجهها غزة إثر الحصار الدولي الخانق المفروض عليها.

قبل أعوام، كانت ألكسندرا قد التقطت صوراً مماثلة لياسر عرفات مع زوجته وابنته زهوة. وكان هو الآخر مقبلاً على حصار.

نعم، ما من شيء كان باستطاعته أن يقيدها. حتى وإن تعلق الأمر بالخروج تحت جنح الظلام، للنزول مع مجموعة من الغزاوية داخل نفق سري طوله 800 متر، وعمقه أربعة أمتار، عند مدينة رفح على الحدود مع مصر، في إطار تحقيق حول اقتصاد الأنفاق، الذي كان يعد الرئة الأخيرة لأهل غزة المحاصرين.

بعين توثيقية عنيدة ترفض اعتياد مشاهد العنف، رصدت تجليات الوجع الفلسطيني المزمن. وأولت جل اهتمامها للمرأة الفلسطينية المناضلة على خط المواجهة. فصورت أهل بيت السيدة فاطمة عمر النجار، أكبر الاستشهاديات سناً، التي قضت في عملية فدائية نفذتها في بيت حانون وهي تناهز السبعين عاماً. وصورت النائبة جميلة شانتي التي قادت بشجاعة مئات النساء في مسيرة غاضبة إلى بيت حانون بعد الاقتحام الإسرائيلي في نوفمبر 2006، لتحرير فلسطينيين محتجزين داخل مسجد، وللاعتصام داخل أحد المنازل لمنع قصفه، مما أدى إلى تراجع قوات الاحتلال عن تنفيذ ضربتهم الجوية.

عشرات القصص التي صورتها ألكسندرا كانت بطلاتها نساء فلسطينيات باسلات. وهو ما يكون قد دفعها دفعاً في اتجاه الإدلاء بشهادتها بصورة مباشرة، عبر المحاضرات والندوات. أو أنه السبب الظاهر الذي تعلل به القدر كي يقدم لها قبل الفوات هدية. ففي إحدى تلك الندوات، في فبراير 2007، التقت عيسى..

إلى جوارها، على المنصة، جلس يتحدث عن «العشاء الأخير في أبي ديس»، وهو فيلمه الوثائقي الذي يتناول فيه تأثير بناء جدار العزل على قريته الفلسطينية بعد أن وجدت نفسها منقسمة على نفسها بين ليلة و ضحاها. أما هي فكانت مشاركتها منصبة حول تأثير وجهة نظر المصور على المتلقي في إطار نقل القضايا الخلافية. وبينهما، على المنصة، جلس طفل مجنح رائع الجمال كثير الصخب، راح يرمي بسهامه الوردية في كل الاتجاهات..

على الفور، قررا أن يعملا معاً، وأبدت «ألكس» اهتماماً بدخول مجال التصوير السينمائي. وبالفعل، بدأت بوثائقي قصير عن مغني الراب الفلسطينيين، أذاعته مجلة Time على موقعها. تصف لي والدتها السعادة التي شعرت بها ابنتها حين بدأت تباشر العمل المشترك مع خطيبها، فتشبهها بشعور البهجة الملهمة التي كانت تحس هي بها أثناء عملها مع زوجها بيار. وكان من المقرر أن ينتقل عيسى وألكس للعيش في القدس بعد الزواج، لكن زمن السعادة كان خاطفاً.

تقول لي: «إنني لم أحسب أن ابنتي كانت تعتقد أن صورَها قادرةٌ على إحداث تغيير. فلقد كانت ألكسندرا إنسانة واقعية، لكنها كانت منساقة وراء ما يحمله عملها من دهشة: الدهشة من الحرب، من القتل، والقتلى، والقتلة، وأخلاق البشر حين يقعون تحت وطأة الخطر. وفوق ذلك، الدهشة من أن تكون هي نفسها صاحبة الصورة و جزءاً منها في آن واحد، ثم هناك الدهشة أمام سرعة جريان الزمن وانسلال الحياة من بين أصابعنا في غفلة منا...».

كان لألكسندرا تاريخ طويل مع الصداع، فقد بدأت معاناتها منه وهي في السادسة. كانت تنتابها حالات من الصداع الشديد بين الحين والآخر، لكن عادة ما كانت تكتفي بحبة مسكن أو اثنتين للقضاء عليه. وفي رام الله، عاودتها الآلام. فكان رأي الطبيب أن السبب هو عملها المستمر طوال اليوم، تحت شمس يونيو الحارقة. لكن نوبات الصداع تفاقمت واستمرت قرابة أسبوعين. فنصحها أصدقاؤها بعمل أشعة لفحص المخ، لكن ذلك كان يعني الذهاب إلى القدس، بما يستلزم ذلك من إجراءات وأوراق وطوابير عند نقطتي التفتيش اللتين تقطعان طريقاً لا تزيد مسافته عن 17 كيلومترا. وكانت لديها شواغل أخرى. فقالت لنفسها: «سأرحل إلى القدس غداً»، لكن الغد لم يأت بعد ذلك أبداً.. هرع عيسى إلى المشفى وأحضر عربة إسعاف. لكن، في رام الله، يقتصر دور سيارة الإسعاف على الوصول بالمصاب إلى أقرب نقطة تفتيش إسرائيلية. وهناك، عند نقطة قلندية جنوبي رام الله، بقيت ألكسندرا غائبة عن الوعي، تعاني انفجاراً في شريان المخ، في انتظار وصول سيارة إسعاف إسرائيلية مصرح لها بالدخول إلى القدس. ويبدو أنها انتظرت - كالعادة- طويلاً.

في الماضي، حين كانت تقف في طابور نقطة التفتيش، اعتادت أن تخفي في جيبها مسجلاً صغيراً، يسجل أصوات جنود جيش الاحتلال وهم يقومون بإجراءاتهم «الأمنية» الروتينية. وكانت الأصوات الآلية الغليظة تنبعث في تباطؤ، فتسأل عن توافه التفاصيل، وتتفنن في سفك الوقت، وكانت هي تقوم ببث ما تسجله على موقعها الإلكتروني.

في وقفتها الأخيرة عند المعبر، حين كاد الحجاب يُكشف، لابد أنها كانت تسمع الأصوات نفسها، أصواتاً بلا وجوه، تتحدث من حولها تلك اللغة الثقيلة على الأذن والفؤاد. ثم كانت الغيبوبة، بعد جراحة دقيقة بمركز هداسا الطبي بعين كارم التاريخية، مسقط رأس يوحنا المعمدان.

رحلت ألكسندرا بولا في 5 أكتوبر 2007. وقبيل إعلان الوفاة بباريس، منحتها الحكومة الفرنسية- مثلما كانت قد منحت والدها- لقب «فارس الفنون والآداب»، تتويجاً لقائمة طويلة من الجوائز الدولية التي حصدتها طوال حياتها العامرة رغم قِصرها. كما خصصت شركة «كانون العالمية» منحة دراسية باسمها هي ووالدها. وأطلق مهرجان «فيزا» الدولي جائزة سنوية باسمها هي ووالدها. كما حرص المتحف الوطني للفن الحديث على الاحتفاظ بمجموعة مهمة من أعمالها الفوتوغرافية، تقديراً لقيمتها التشكيلية العالية.

يقول جان فرانسوا جوليار، الأمين العام لمنظمة «مراسلين بلا حدود»، في كلمته الافتتاحية لهذا المعرض: «إن أعمال ألكسندرا بولا الفوتوغرافية لا يمكن عرضها في مكان أقل من متحف للفن، ولنتذكر أن ألكسندرا، قبل أن تصبح مصورة، كانت رسامة، لذلك لم نجد مكاناً أفضل من متحف الفنون الجميلة بباريس لكي يكون نافذة عرض لأعمالها الفنية الفذة».

***

بشيء من التسليم، قالت لي السيدة آني بولا: «لطالما تساءلت كيف تأتى لابنتي الصغيرة الجميلة أن تواجه مثل تلك المواقف العصيبة التي تفرضها الحرب؟! كنت أريد دوماً أن أطرح عليها هذا السؤال، ولكنني أبداً ما فعلت. والآن وقد رحلت، بات السؤال مستحيلاً. ولكن ربما أنها لم تكن تملك أي جواب. فأنا لا أعتقد أنها كانت تملك متسعاً من الوقت لكي تسأل نفسها مثل تلك الأسئلة. وهي في ذلك تشبهني. فقد كانت ترضى بكل ما تأتي به الأيام...».

***

وتمضي الأيام. ويحل بعد الخريف شتاء، ويتجلى إثر المعرض الباريسي معرضٌ من نوع آخر في بلادي، يحكي ملحمة سلمية دامية، قد اختلطت في آفاقها حمرة الفداء الزكي والتماعات شفق الحرية، تحت سماء ملبدة بالمظالم والظلمات. ها قد استُقدم فصل الربيع في يناير، وبُعثت في حناياه أزهارٌ لطالما داستها على ضفاف النيل السنابك.

أين كنتِ يا ألكس في ذاك الربيع؟ أين كانت نظرة الطائر المحلق فوق الرءوس المشرئبة طلباً للعدالة؟ وقفزات الهرة الرشيقة فوق أسطح البنايات المحدقة بميدان التحرير تحت أمطار الرصاص والمولوتوف؟ كل الرفاق كانوا هناك، من تقاسموا معك الخبز والخوف والمشهد، من فلسطين إلى البلقان.

كلهم كانوا في الميدان يسجلون يوميات ثورة الشعب المصري. يسجلون إلى ذلك الحين ما لا عين رأت ولا عدسة لقطت. يسجلون ولا صحَّاف يمنع أو سلطة تحجب. وفي سبتمبر، إذا ما تلفع الكون بالخريف مجدداً، فسيعرضوا صورهم في مهرجان فيزا الدولي الذي احتفى بكِ، وخصص لاسمكِ جائزة، ستُمنح لمصور سار خلفك على درب الخطر. فأي رثاء للغياب، وأي تعاظم للتكريم...

وإذ يُفرَد هذا العام حيزٌ للحدث الجلل، يقول جان فرانسوا لوروا، مدير المهرجان: «ما تلقيت قط مثل هذا الكم من المشاركات حول موضوع واحد كهذا الذي تلقيته حول الثورة المصرية في ميدان التحرير. لقد بت أحفظ كل شبر في ذلك الميدان، حتى صار بوسعي أن أرسمه من الذاكرة. بت أعرف هيئة الميدان صباحاً، وهيئته مساءً، ساكناً، أو مكتظاً بمليونياته».

***

تومض الأسماء وتتلاشى، ويأتي البشر ويرحلون، ويتوالى الشهود على الميدان.. ويبقى الميدان.
----------------------------
* كاتبة من مصر.

 

داليا توفيق سعودي*