نافس القصبجي وعبدالوهاب في التجديد الموسيقي السنباطي غير الكلثومي

نافس القصبجي وعبدالوهاب في التجديد الموسيقي السنباطي غير الكلثومي

يبقى في شخصية عملاق الموسيقى العربية رياض السنباطي جانب طالما حجبه التألق التاريخي لتعاونه مع أم كلثوم، وهو الجانب التجديدي الذي طبع أعمالاً موسيقية شامخة وضعها السنباطي في العقدين ما بين 1935 و1955 لصوته أولاً، ثم لأصوات أسمهان وليلى مراد ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد ووردة وحتى عبدالحليم حافظ. وهو الجانب الذي ظلم في حياة السنباطي وبعد رحيله، بسبب ميل جماهيري، وحتى نقدي، لحصر الشخصية الموسيقية لرياض السنباطي في إطار الصوت التاريخي لأم كلثوم.

يكفي حتى نعرف فداحة الظلم التاريخي الذي لحق بالسنباطي من جراء إهمال الجانب التجديدي في شخصيته الموسيقية الكبيرة، أنه في ألحانه التجديدية، كان منافسًا حقيقيًا لكل من محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب، أخطر مجددين في الموسيقى العربية المعاصرة، بعد سيد درويش.

وليس أمامنا لتفسير هذه الظاهرة الفنية المهمة، ما هو أكثر فائدة من العودة إلى التسلسل التاريخي الطبيعي في تطور الشخصية الموسيقية لرياض السنباطي.

البداية التأسيسية لرياض السنباطي، لم تشذ عن البداية التأسيسية لكل زملائه من عمالقة الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين، بعد سيد درويش، عنيت بهم محمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب. فقد نما هؤلاء العمالقة الأربعة في حضن الإنشاد الديني وتجويد القرآن الكريم، لكن شخصية كل منهم انطلقت بعد ذلك إلى الآفاق التي دفعته إليها مواهبه الخاصة والمكونات الذاتية لشخصيته الموسيقية.

عندما بدأ رياض السنباطي يفرض نفسه في مطلع الثلاثينيات أستاذًا لآلة العود في المعهد الموسيقي، الذي كان يريد الانتساب إليه كتلميذ في أول الأمر، كانت أم كلثوم قد انطلقت نحو اعتلاء عرش الغناء العربي، مزودة بألحان عبقريين من عباقرة الموسيقى العربية: محمد القصبجي، في خط تجديدي لامع، وزكريا أحمد في خط تقليدي رصين. ومع أن بذور التقليد كانت قوية في أساس الشخصية الموسيقية لرياض السنباطي، غير أن بذور التجديد في تلك الشخصية كانت، على ما يبدو، هي الغالبة في توجهه العام، خاصة في سنوات شبابه المبكر، عندما لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره.

الغريب أن رياض السنباطي، الذي انتهى مجددًا خطيرًا للنماذج التقليدية للموسيقى العربية في النصف الثاني من حياته الفنية، كان في النصف الأول من حياته الفنية تلك منطلقًا وراء غوايات التجديد التي كان يحملها بقوة واندفاع، كل من محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب.

لذلك، ولأنه بدأ محاولاته التلحينية الجادة مع حنجرة أم كلثوم، فقد كانت البدايات العظيمة لرياض السنباطي منطلقة من تأثره الواضح، بتجديدات العبقري محمد القصبجي. وقد بدا هذا التأثر الخلاق والمبدع في المونولوجات الأولى التي لحّنها السنباطي لأم كلثوم مثل «قضيت حياتي»، و«النوم يداعب».

ومع هذه الانطلاقة التجديدية القوية لرياض السنباطي في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات، كانت قد ظهرت في الأفق، إلى جانب حنجرة أم كلثوم التاريخية، حنجرتان نسائيتان غاية في الأهمية، هما حنجرتا كل من أسمهان وليلى مراد.

وكانت هذه الفترة التاريخية بالذات، هي فترة ازدهار صناعة السينما في مصر، حيث قضت هذه الصناعة على المسرح الغنائي، وراحت كل الأصوات الغنائية المهمة، ابتداء من عبدالوهاب وأم كلثوم، تتحول من المسرح الغنائي، محدود الانتشار، إلى السينما الغنائية، واسعة الانتشار.

ومع أن القصبجي والسنباطي كانا دائمًا بين أبرز ملحني الأغنيات السينمائية لأم كلثوم في عقد الثلاثينيات بالذات، إلا أن نزعتهما التجديدية ما لبثت أن قادتهما بقوة نحو صوتي أسمهان وليلى مراد، في الأفلام السينمائية وخارجها.

وأعتقد أن هذا الاندفاع لم يكن بلا سبب فني وجيه، فقد كانت أم كلثوم في مطلع الأربعينيات، وخاصة بعد الفشل الجماهيري المدوي لفيلم «عايدة» (بألحان القصبجي والسنباطي المتطورة)، قد بدأت تغلّب الخط التقليدي المحافظ الذي كان بطله بلا منازع العبقري زكريا أحمد، فكان طبيعيًا أن يميل كل من القصبجي والسنباطي إلى الحنجرتين العصريتين لأسمهان وليلى مراد، خاصة بعد أن أعلنت أم كلثوم مقاطعتها التاريخية لألحان محمد القصبجي، حتى رحيله.

وهنالك كثير من الحكايات التي تروي ملامح الغيرة الفنية الساخنة التي كان يحرّكها في نفس أم كلثوم، الميل الفني الواضح من القصبجي والسنباطي لصوتي أسمهان وليلى مراد. وهو الميل الذي تمثل بالنسبة لأسمهان بالذات، في تفرغ كل من القصبجي والسنباطي لإهدائها روائعهما اللحنية في فيلمها الثاني والأخير «غرام وانتقام».

قبل «غرام وانتقام» (1944)، كان السنباطي قد أهدى أسمهان في مطلع الأربعينيات لحنه الرائع «حديث عينين» (يا لعينيك ويالي/من تسابيح الليالي)، الذي كان قد أعده لأم كلثوم أولاً، لكن مزاج أم كلثوم المائل في تلك الأيام إلى الروح التقليدية، والمصدوم بالروح التجديدية لمحمد القصبجي، لم يقبل يومها لحن السنباطي ذا اللون التجديدي الواضح، والذي كان في حقيقة الأمر يليق بصوت أسمهان أكثر من أم كلثوم.

بعد «حديث عينين» وضع السنباطي لأسمهان لحنين خالدين في فيلمها «غرام وانتقام»: قصيدة «أيها النائم» ونشيد «الأسرة العلوية».

لكن رحيل أسمهان المبكر في العام 1944، جعل رياض السنباطي يميل بمزاجه التجديدي، الذي كان لا يروق لأم كلثوم، إلى صوت ليلى مراد، فأهداها ألحانًا عبقرية خالدة في فيلم ليلى (الحبيب، يا رب تم الهنا، حجبت نورك، مين يشتري الورد)، ثم راح يخصها في عدد من أفلامها بعد ذلك، حتى منتصف الخمسينيات، بروائع لحنية رومانسية كان يشبع فيها نزعته التجديدية، التي كان محرومًا من ممارستها في ألحانه العبقرية لصوت أم كلثوم العبقري. وكانت آخر إبداعات السنباطي الخالدة بصوت ليلى مراد لحنه الرائع «يا حبيب الروح» من الفيلم الذي يحمل العنوان نفسه، والذي مثلته ليلى مراد في منتصف الخمسينيات مع أنور وجدي ويوسف وهبي.

كذلك من المؤكد أن السنباطي قد بدأ يوزع في عقد الخمسينيات بالذات، إبداعاته التجديدية على الأصوات الصاعدة في تلك الأيام، فلحن لوردة أغنيتها الرائعة «يا لعبة الأيام»، ثم لحن لعبدالحليم حافظ وشادية أوبريت «لحن الوفاء» في الفيلم الذي يحمل العنوان نفسه.

وكان السنباطي، بعد ذلك وقبل ذلك، قد أعطى ألحانًا رائعة لأصوات مثل محمد عبدالمطلب «شفت حبيبي» وعبدالغني السيد «لا دمعي كفى وشفت الأمل وسواهما» ثم فايزة أحمد ونجاة الصغيرة، وغيرهم.

غير أن استعراض الجانب التجديدي في الشخصية الموسيقية للعبقري رياض السنباطي، لا تكتمل بغير الإشارة إلى كنز الألحان التي غناها بصوته وأشهرها قصائد: فجر، أشواق، ذات يوم يا حبيبي. وهي القصائد التي قال فيها الموسيقار محمد عبدالوهاب إنه لو لم يغن السنباطي غير هذه القصائد، لحق لنا اعتباره مطربًا كبيرًا.

غير أنه إضافة إلى تلك القصائد الرومانسية الطابع، غنى بصوته ومن ألحانه أغنيات ذات طابع ديني صوفي، أقرب إلى لونه التجديدي من لونه الكلثومي.

كذلك، فإن من أروع ما لحن رياض السنباطي بمزاجه التجديدي، المختلف عن لونه الكلثومي تمامًا، والأقرب إلى مزاجي القصبجي وعبدالوهاب، ألحان فيلم «حبيب قلبي» الذي شاركته تمثيله والغناء فيه النجمة هدى سلطان.

ولعل أروع ألحان هذا الفيلم مغناة «على عودي»، ثم ثلاث ديالوجات بينه وهدى سلطان، تذكرنا بديالوجات عبدالوهاب الرائعة مع ليلى مراد في فيلم «يحيا الحب».

ولو أردنا تلخيص هذا اللون السنباطي غير الكلثومي، فإننا نقول إنه ثمرة تأثره بأستاذيه القصبجي وعبدالوهاب، وثمرة سماعه لروائع الموسيقى الأوربية، الكلاسيكية منها والخفيفة وأنه كان يطلق في هذا اللون العنان لخياله الموسيقي بلا حدود، ويفكر بالتلحين للأوركسترا الكبيرة أيضًا، وليس فقط للصوت البشري، كما كان يحصل في معظم روائعه لأم كلثوم.

وفي النهاية، لا شك في أن رياض السنباطي قد تميز بين الأربعة الكبار بأنه الوحيد بينهم الذي كانت له شخصيتان لحنيتان متجاورتان، يبدع في كل شخصية منهما على حدة، بينما كان اللونان التقليدي والتجديدي متداخلين عند القصبجي وعبدالوهاب في شخصية واحدة، أما العبقري الرابع زكريا أحمد، فكان عن حق مندوب القرن التاسع عشر في قلب القرن العشرين.

ولعل هذا الاختلاف بين الشخصيتين الموسيقيتين للسنباطي، هو الذي كان سبب عدم نجاح ألحانه التي وضعها للمطربة الكبيرة فيروز، لأنها جاءت كلها بالنمط الكلثومي، الذي لا يناسب حنجرة فيروز، ولا أدري لماذا لم يطلق السنباطي العنان لشخصيته التجديدية عندما أقدم على التلحين لصوت فيروز? لعله كان في شيخوخته الموسيقية!.
---------------------------------
* ناقد فني من لبنان.

 

إلياس سحاب