عشاء

عشاء

ريشة: أمين الباشا

لم تكن كما كانت .. البارحة كان استغرابي شديداً.. تساءلت هل هي؟..
هي التي أراها الآن؟ قلت إن كانت هي، فهي
لم تكن كما كانت.. تساءلت مرة ثانية.. كيف يتغير الإنسان، من ملامح معينة وصورة خاصة به، إلى صورة ليست كصورته؟.. ثم تساءلت بدهشة هل أنا الذي تبدلت ملامحه وصورته وصرت أرى من كنت أحفظ في ذاكرتي وفي نظري ملامح الآخرين، لكنها مازالت في مخيلتي، رأيتها البارحة، ومنذ البارحة لم تبارحني صورتها؟..

تساءلت مرة جديدة، لم أشغل بالي ورأسي بامرأة كانت كما كانت وصارت كما هي الآن.. أتابع مكلماً ذاتي وما نفع إن رأيتها منذ سنين، وبقينا ملتصقين بعاطفة وحب داما سنين، ثم تطور هذا الشعور إلى صداقة.. ثم أبعدتها الأيام والسنون وأبعدتني عنها الأيام والسنين نفسها.. إلى أن ذابت صورتها وضاع اسمها بين الأسماء التي تراكمت وكدت والتي لم تدم وانقرضت وتغيرت وتبدلت؟..

مازلت في المكان نفسه، في المقهى نفسه حيث تعارفنا منذ سنوات وحيث وقع نظري عليها البارحة، وحيث اختفت دون أن تراني..

عدت أسأل نفسي، هل رأتني وتجاهلتني أم أنها استغربت عندما رأتني ورأت أنني لم أكن كما كنت؟ .. وراحت تسائل ذاتها هل مهم أن تشغل بالها بذكريات مضت لا عودة إلى ماضيها، وأنها تكتفي بما يشغل بالها مما تلاقيه من مشاغل الحياة ومشاكلها؟. هكذا فكرت وأفكر الآن، ولست واثقاً بما أفكر.. وهل كنت يوماً واثقاً بما يطرأ على فكري وعلى رأسي من أفكار.. وكم كنت وما زلت أناقض أفكاري عندما تتحول إلى أفعال.. وكم كنت ومازلت أخفي تناقضاتي مع ذاتي وأبقيها من خصوصياتي وأتناساها..

ليتني تقدمت منها وأخبرتها أنني هو وأنها هي.. لكن الجرأة.. الجرأة التي مضت مع السنين.. ها هي .. تدخل إلى المقهى برفقة امرأة.. لابد أن أفعل شيئاً .. أتبسم لها كالأبله، تنظر إليّ وتبتسم .. علامة جيدة ومشجعة.. هل أقوم وأقدم نفسي لها.. قمت.. تقدمت منها ومن رفيقتها.. مددت يدي لتحيتها، ترددت، ثم بادلتني السلام، مازلت أبتسم كالأبله..

وهي تنظر إليّ منتظرة كلمة مني، لا أستطيع قول شيء سوى هذه الابتسامة..

قالت أو هي تقول الآن: هل أتشرف بمعرفتك.. ؟ .. قلت لها: نعم.. سكتت وعلى وجهها علامات استفهام، ثم سألت: نعم، تقول لي.. ماذا تعني..

أجبتها هل نسيت أيامنا الغابرة؟ صداقتنا و.. تجيب: أي أيام؟ وبلطف سألت: أنت من؟ أجيبها: أنا؟ لقد نسيت.. وأنا أيضاً..

- أنت؟ ماذا تريد أن تقول؟..

اعتذرت رفيقتها وتركتنا..

- أعني وبصراحة أن الأيام والسنين لها حق علينا.. لقد نسيت اسمك لكني لم أنسك..

- عفواً.. عفواً.. وراحت تضحك: ماذا تقول؟ لم تنسني .. وهل كنا على معرفة؟! لا يا سيدي.. وعادت تضحك..

- أرجوك .. اسمعي .. الآن عاد اسمك إلي.. عايدة..

- عايدة؟ صدفة غريبة.. البارحة كنت أستمع إلى أوبرا عايدة..

- فردي VERDI..

- من الأوبرات المفضلة عندي..

- الآن تأكدت أنك أنت..

- إني أنا.. جميل.. إني أنا ماذا؟..

- أنا متأكد أن التي أتكلم معها الآن هي ذاتها التي ملأت ماضيّ الجميل، ثم إن عايدة ليس اسمك.. بل اسم الأوبرا التي كنت تحبين سماعها ولا تزالين.. هذا الاسم اختلط علي.. اسمك؟ نسيته.. بقي في عقلي عايدة الأوبرا.. مفضلتك..

- لا يعني أن حبي للموسيقى يقف فقط عند مؤلفات VERDI فردي..

- لا .. أعلم هذا .. وأعلم أيضاً أنك كنت أستاذتي في حبي وفهمي الموسيقى..

- وأنت أستاذي في حب أشياء كثيرة.. وراحت تضحك..

مثل ماذا؟

- أشياء كثيرة.. لن أعددها..

- أين كنت؟..

- كنت.. لم أكن هنا.. وأنت؟

- كنت هنا وهناك . هنا ضاق صدري وانقطعت أنفاسي.. وكرهت.. لن أقول ما كرهته هنا..

- هناك أي بلد.. أي مكان كنت..

- في أوربا.. في باريس خاصة..

- كنت متزوجا .. عفواً.. هل أنت متزوج؟

- لم أكن متزوجاً.

وما زلت كما كنت .. وأنت؟..

- كما كنت ..

- إذن إننا لم نفترق مدة طويلة عن بعضنا، ما زلنا كما كنا..

- الأيام والسنون..

- الطقس جميل اليوم.. ما قولك؟..

- كنت تدعوني دائما للغداء والعشاء و.. و.. اليوم أدعوك إلى العشاء في منزلي..

- ماذا ستفعلين حتى العشاء؟..

- سأنتظر معك مجيء العشاء.. مجيء الليل..
----------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

أمين الباشا*