جمال العربية: في الذكرى الثلاثين لرحيل أمل دنقل

23 يونيو 1940-21 مايو 1983 .. من تجليات الحضور والغياب في شعر أمل دنقل


لا ينتهي الشعور المأساوي بالموت: حضورًا وأجواءً ودلالة، طيلة اقترابنا من شعر أمل دنقل. كان هذا الشعور - إبّان حياة الشاعر - تصارعه وتتجاذبه نشوة الإحساس العارم بالحياة، والقدرة على الظفر بما فيها من التحدِّي والصمود. وهو الآن - في غيبة الشاعر واكتمال دائرة حضوره- يوقعنا فيما يشبه جدلية الوجود والعدم، والحياة والفناء، موج الشعر يحملنا إلى الذرى، وخواء الواقع يهبط بنا إلى السفوح. وبين المراقي والمنحدرات، تتأرجح بنا المعاني الكاشفة، والأقنعة المستعارة، وتلقي بنا - في آخر الأمر - فريسة للأحزان التي لا نهاية لها.

 أريد أن أقول إن كيمياء الحضور النفاذة في شعر أمل دنقل تملك أن تشعلنا وأن تشحننا وأن تساعدنا على اجتياز الزمن المستباح، لكنها أيضًا قادرة على إعادة صوغنا - نحن قراءه ومتأملي شعره والعاكفين على منجزه الروحي - لنكتشف كم نحن صغار، وضعاف، وأَسْرَى، في تنور زخمه اللاهب، وحُميّاه القائظة:

 أبي، لا مزيد!
أريد أبي عند بوابة القصر،
فوق حصان الحقيقة
منتصبًا من جديد

***

ولا أطلب المستحيلَ ولكنه العدلُ
هل يرثُ الأرضَ إلا بنوها؟
وهل تتناسى البساتين من سكنوها
وهل تتنكّر أغصانها للجذور..
(لأن الجذور تهاجر في الاتجاه المعاكس؟)
هل تترنم قيثارةُ الصمتِ
إلا إذا عادت القوس تذرع أوتارها العصبية؟
والصدر حتى متى يتحمل أن يحبس القلب
قلبي الذي يشبه الطائر الدمويَّ الشريد؟

***

هي الشمس تلك التي تطلعُ الآن؟
أم أنها العين - عين القتيل - التي تتأمل شاخصةً:
دمه يترسب شيئا فشيئًا
ويخضرُّ شيئًا فشيئا
فتطلع من كل بقعة دم:
فمٌ قرْمزيٌّ وزهرة شرّ
وكفان قابضتان على منجلٍ من حديد؟
هي الشمس؟ أم أنها التاجُ
هذا
هذا الذي يَنتقل فوق الرؤوس إلى أن يعود
إلى مفرق الفارس العربيّ الشهيد؟

***

أقول لكم: أيها الناس كونوا أناسًا!
هي النار، وهي اللسان الذي يتكلم بالحق!
إن الجروح يطهّرها الكيُّ
والسيف يصقلهُ الكيرُ
والخبز يُنضجهُ الوهجُ،
لا تدخلوا معمدانية الماء
بل معمدانية النار..
كونوا لها الحطب المشتهي والقلوب: الحجارة،
كونوا، إلى أن تعود السماوات زرقاءَ
والصحراء بتولا
تسيرُ عليها النجوم محمّلةً بسلال الورود
أقول لكم: لا نهاية للدم...
هل في المدينة يضرب بالبوق ثم يظلّ الجنود
على سُرُر النوم؟
هل يرفع الفخُّ من ساحة الحقل كي تطمئن العصافيرُ؟
إن الحمام المطوّق ليس يقدم بيضته للثعابين...
حتى يسود السلام،
فكيف أُقدم رأس أبي ثمنًا؟
من يطالبني أن أُقدم رأس أبي ثمنًا
لتمرّ القوافلُ آمنةً
وتبيع بسوق دمشق حريرًا من الهند،
أسلحةً من بُخارَى
 وتبتاع من «بيت جالا» العبيد؟

تلك هي الطلقة الأولى التي قصفت بها «اليمامة» أسماع القوم. ولا يتركنا «أمل» في وضع مرتبك ملتبسٍ قط، بل هو يقدم لقصيدته «أقوال اليمامة» بقوله: «فلما جاءته الوفود ساعية إلى الصلح، قال لهم الأمير سالم: أصالح إذا صالحت اليمامة، فقصدت إلى اليمامة أمُّها الجليلة ومن معها من نساء سادات القبيلة. فدخلن إليها وسلّمن جميعًا عليها، وقبّلت الجليلة بنتها وقالت: أما كفى؟ فقد هلكت رجالنا وساءت أحوالنا ومات فرساننا وأبطالنا! فأجابتها اليمامة: أنا لا أصالح ولو لم يبْقَ منا أحد يقدر أن يكافح». من أين يهبُّ علينا هذا الصهد اللافح، يشوي الجلود ويُحرّك السكون الهامد، ويقذف بنا في أتون التلقِّي؟ هل هو من الموقف ذاته، وجدلية الحياة والموت فيه، وتساوي الوجود والعدم في لحظة مصيرية لابُد فيها من قرار؟، هل هو من طبيعة هذه الصياغة الشعرية المحكمة - بكيميائها النفّاذة فينا - وقدرتها على هزّنا من الأعماق، وجوديًّا وإنسانيًّا وكونيًّا، وكأنَّ راجماتٍ هائلة تسحقنا وتبعثرنا، لتجمعنا وتلملم أشلاءنا بعد ذلك، ثم تنفخ فينا حياةً، ليست كالحياة التي كانت من قبل التلقي؟ أم هو ذلك النسيج الملحمي الذي يوقظ فينا - أو هو يحاول - بقايا نخوةٍ لم تتبدّد جميعها، من الضربات المتلاحقة، والإحباطات المتتالية، تحت سحب اليأس الكثيفة، والمرارات المتدافعة، محاولاً أن يصنع من هذه البقايا شيئا يشبه «خيال المآتة» في مهبّ الطيور الجارحة وهجماتها الكاسرة؟

إنه - باختصار شديد - شعر أمل، الحادّ المُدبّب، في مقام الوخز والتنبيه والحثّ والإيقاظ والإشارة، العميق الهمس واللين والحنان في مقام الوجد والبوح والاستعادة والتذكار وجيشان الصبوة. وبين حالتيْ الماء والنار سنلتقي دومًا بهذا الشعر المفاجئ والمباغت، المُهدهد والمزلزل، المُبطّن بوسادة حانية من العذوبة والمشاركة، والمسكون بالنار التي تشتعل في ذرى الأولمب ولا تنطفئ أبدا.

يقول في قصيدته «الملهى الصغير»:

لم يعد يذكرُنا حتى المكان!
كيف هُنّا عنده؟
والأمس هان؟
قد دخلْنا
لم تُشر مائدةٌ نحونا!
لم يستضفْنا المقعدان!
الجليسان غريبانِ، فما
بيننا إلا ظلال الشمعدان!
انظرى،
انظري،
قهوتنا باردةٌ،
ويدانا - حولها - ترتعشان
وجهكِ الغارقُ في أصباغه
وجهيَ الغارقُ في سُحْبِ الدُّخان
رُسما
ما ابتسما
في لوحةٍ خانت الرسامَ فيها
لمستان!
تُسدل الأستارُ في المسرحِ
فلنضئ الأنوارَ
إن الوقت حان
أمن الحكمة أن نبقى؟
سُدًى!
قد خسرْنا فَرسيْنا في الرهان!
قد خسرْنا فَرسيْنا في الرهان
ما لنا شوطٌ مع الأحلامِ
ثانْ!
ثانْ!

***

نحن كنا ها هنا يومًا
وكانْ
وهج النور علينا مهرجان
يوم أن كنّا صغارًا
نمتطي صهوة الموجِ،
إلى شطِّ الأمان
كنتُ طفلاً لا يعي معنى الهوى
وأحاسيسُكِ مرخاةُ العِنان
قطة مغْمضةُ العينيْنِ
في دمكِ البكرِ لهيبُ الفوران
عامنا السادسَ عشر:
رغبة في الشرايين
وأعوادٌ لِدانْ
هاهنا كلَّ صباحٍ نلتقي
بيننا مائدةٌ
تنْدَى حنان
قدمانا تحْتها تعتنقان
ويدانا فوقها تشتبكان
إن تكلّمْتِ:
ترنّمت بما همستْهُ الشفتانِ الحلوتان
وإذا ما قلتُ:
أصغت طلعة حلوةٌ
وابتسمت غمّازتان!
أكتبُ الشعر لنجواكِ وإن
كان شعرًا ببّغائي البيان
كان جمهوريَ عيناكِ
إذا قلتهُ: صفّقتا تبتسمان
ولكم ينصحُنا الأهلُ
فلا، نُصحهم عزَّ
ولا الموعدُ هان
لم نكن نخشى إذا ما نلتقي
غير ألاّ نلتقي في كلِّ آن
ليس ينهانيَ تأنيبُ أبي
ليس تنهاكِ عصًا من خيزرانْ!
الجنون البكرُ ولّى
وانتهت سنةٌ من عُمرنا
أو سنتانْ
وكما يهدأ عُنفُ النهرِ
إن قاربَ البحرَ
وقارًا واتزان
هدأ العاصفُ في أعماقنا
حين أفرغْنا من الخمر الدِّنانْ
قد بلغْنا قمة القمةِ، هل
بعدها إلا هبوط العنفوان؟
افترقنا،
- دون أن نغضبَ -
لا يُغضبُ الحكمةَ صوتُ الهذيانْ

***

ما الذي جاء بنا الآن؟
سوى لحظة الجبْن من العُمرِ الجبانْ
لحظة الطفل الذي في دمنا
لم يزل يحبو، ويكبو، فَيُعان!
لحظة فيها تناهيد الصّبا
والصّبا عهدٌ إذا عاهد: خان
أمن الحكمة أن نبقى
سُدًى
قد خسرْنا فرسيْنا في الرهان!

***

قَبْلَنا، يا أُختُ في هذا المكان
كم تناجى، وتناغى عاشقان
ذهبَا
ثم ذهبْنا
وغدًا
يتساقى الحبَّ فيه آخران!
فلندعْهُ لهما
ساقيةً
دار فيها الماءُ
ما دار الزمان!

***

بين هذين الوجهين من وجوه الإبداع الشعري توهجت جدلية الحضور والغياب في شعر أمل دنقل وفي مزاميره التي اعتصرت شجْوه وأثقلتها أحزانه الوجودية والكونية، ترسّبت شظايا وجدانه الذي نهشه غلاظ القلوب وميِّتو الإحساس وعديمو الضمير، الذين لم تخْل أيامُه من صدمة الارتطام بهم، في صورة مُبدعين زائفين، وشعراءَ متشاعرين، ومناضلين متخاذلين، ونسوةٍ يستعنَّ بالأصباغ على ما فعله الزمان، ورجالٍ استنوقت حقيقتهم وخابت مساعيهم، فصاروا جُوفًا. من بين هذه المزامير المسكونة بالشجو والأنين المزمور الذي يقول فيه:

لماذا يتابعني أينما سرتُ صوتُ الكمان؟
أسافرُ في القاطراتِ العتيقةِ،
كي أتحدّثَ للغرباء المُسنّينَ
أرفع صوتي ليطغى على ضجّة العجلات
وأغفو على نبضات القطار الحديدية القلبِ
تهدرُ مثل الطواحِينِ
لكنها بغتةً تتباعد شيئًا فشيئًا
ويصحو نداءُ الكمان!

***

أسيرُ مع الناسِ في المهرجاناتِ
أُصغي لبوق الجنودِ النُّحاسيِّ
يملأ حلقي غبارُ النشيد الحماسيِّ
لكنني فجأةً .. لا أرى!
فجأةً تتلاشى الصفوفُ أمامي
وينسربُ الصوتُ مُبتعدًا
ورويدًا رويدًا يعودُ إلى القلب صوتُ الكمان!
لماذا إذا ما تهيّأتُ للنوم يأتي الكمان
فأصغي له آتيًا من مكانٍ بعيد
فتصمتُ همهمَةُ الريحِ خلْفَ الشبابيك،
نبضُ الوسادةِ في أُذني
تتراجعُ دقاتُ قلبي،
وأرحلُ في مدنٍ لم أزرها
شوارعُها فضّةٌ
وبناياتها من خيوطِ الأشعةِ
ألقى التي واعدتْني على ضِفَّة النهرِ واقفة
وعلى كفّها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنان!

***

أُحبُّكِ... صار الكمانُ كُعوبَ بنادق
وصار يمامُ الحدائقْ
قنابل تسقطُ في كلِّ آنْ
.....................
.....................
وغاب الكمان!.