غيرلندايو «جيوفانا»
غيرلندايو «جيوفانا»
غيرلندايو هو أحد أساتذة الرسم في بدايات النهضة الإيطاليّة، ولد عام 1449م وتوفي عام 1494م، عرف في حياته شهرة كبيرة واعترافًا رسميًا به، سواء أكان ذلك في مسقط رأسه فلورنسا أم في روما، حيث عمل لبعض الوقت لصالح بابا الفاتيكان سيكستوس الرابع. درس غيرلندايو أولًا صياغة المجوهرات، ثم درس فن الرسم وصناعة الموزاييك عند أليسيو بالدوفيتي، وخلال عمله في متجر المجوهرات، كان يرسم بعض النسوة المارات في الشارع، فلفت الأنظار بموهبته، وبسرعة أصبح الرسّام المفضّل لدى عدد من العائلات الأرستقراطية في فلورنسا، فراح يرسم صورًا شخصية لأبناء هذه العائلات، وكان من بين هذه اللوحات عدد كبير يمثل نساءً، الأمر الذي كان نادرًا جدًا آنذاك. «جيوفانا» التي نرى صورتها هنا، هي ابنة عائلة أرستقراطية من فلورنسا تزوجت قبل أن تبلغ الثامنة عشرة من عمرها من نبيل يدعى لورنزو تورنابووني، بتدبير من الأمير لورنزو دي ميديتشي نفسه. وكان غيرلندايو على علاقة وثيقة بعائلة الزوج، فرسم جيوفانا هذه في عدة لوحات تعتبر هذه أشهرها. نرى جيوفانا في هذه اللوحة تتخذ وضعًا جانبيًا تمامًا، إذ تعامل الرسام مع وجهها كما يتعامل الصائغ مع نحت الميداليّات، وهو تقليد ابتكره وأرساه بيزانيللو في ثلاثينيّات ذلك القرن. وهي ترتدي ثوبًا من قماش البروكار المطرّز بخيوط ذهبيّة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن غيرلندايو كان من أوائل الرسّامين في العالم (إن لم يكن أولهم على الإطلاق) الذي رسم الذهب بالألوان، ولم يستخدم ورق الذهب الحقيقي على اللوحة، ساعده في ذلك تمرس بصره بتلاعب اللون الأصفر الذهبي تحت الضوء، من خلال عمله في فن الصياغة. ويظهر أثر خبرته في المجال نفسه من خلال الميدالية الذهبيّة المرصعة بحص كبير من الياقوت وثلاث لآلئ تتدلى على صدر المرأة، والحلية الثانية المشابهة لها الموضوعة عند حافة الفجوة على الحائط. وعندما نتطلع إلى تفاصيل الوجه (العينان، الأنف، الفم، الذقن، الشعر المسرح جيدًا...) نلحظ أن الرسّام أراد أن يجعل من جيوفانا هذه «المرأة المثاليّة»، حتى أن خصلة الشعر المتدلية على خدها، تبدو متوازية مع بعضها بشكل غير معقول في الواقع، وهذا ما دفع الرسام أيضًا إلى إطالة العنق بشكل لا يخلو من المبالغة. واستنادًا إلى قدرته الكبيرة على استخدام مادة «التامبرا» وليس الألوان الزيتية، فقد ساعدته هذه المادة على رسم مساحات كبيرة تتسم بالنقاء اللوني، وفي الوقت نفسه تمكن بموهبته من إضافة اللمسات التي تعطي المساحات أحجامًا وتقولبها حتى الحدود القصوى الممكنة بواسطة هذه المادة. أما النص المكتوب باللاتينيّة قرب هذه السيدة، والذي يستوقف الأنظار نظرًا لضخامته، فيقول: «لو أن الفن كان يستطيع نسخ الشخصيّة والروح، لما وجدت في العالم لوحة أجمل من هذه». وفي هذا تلميح واضح أن غيرلندايو كان يرى في هذه السيدة من الفضائل الأخلاقية ما لا يتمتع به أحد.
------------------------------
* ناقد تشكيلي من لبنان.