حكايات طبية: خشداشية الطبّ غسان حتاحت

 

          تذكر كتب التاريخ أن المماليك الذين جلبوا إلى وطننا العربي من بقاع شتى- وكثير منهم لا يعرفون أصولهم ولا آباءهم ولا أمهاتهم- كانوا يحسون بالولاء والانتماء أولاً وقبل كل شيء إلى أستاذهم (رئيسهم وقائدهم)، ثم إلى خشداشيتهم، أي زملائهم، وكثيراً ما كانوا يضحون بحياتهم في سبيل ذلك.

ولقد قرأت مرة مقالة للكاتب الأمريكي وليام برويلز (وهو أحد المحاربين القدماء في فيتنام، وقد صار فيما بعد في وقت ما رئيساً لتحرير مجلة نيوزويك) ذكر فيها أن كثير من المقاتلين الأمريكيين في فيتنام، كانوا في أحيان كثيرة، لا يقاتلون في سبيل وطنهم، ولا إطاعة لأمر رؤسائهم، ولا حتى سعياً وراء النصر، بل كانوا يقاتلون فقط في سبيل بعضهم البعض. لحماية أنفسهم وزملائهم، إذ تغلب هذا الانتماء وتلك الزمالة لديهم على كل ولاء آخر.

وفي دنيا الطب، ثمة رابطة قوية تجمع كل الأطباء على اختلاف بلدانهم وأجناسهم، هي رابطة الزمالة أو الخشداشية ( إن جاز أن نستعير هذا التعبير من تاريخ المماليك). فترى الأطباء في كل مكان يشعرون بالمودة والألفة بعضهم تجاه البعض الآخر، ولو باعدت بينهم الديار، واختلفت بينهم الألسن، ذلك أن رابطة الزمالة هذه وطيدة قوية.

فكم من طبيب داوى زميلاً له من بلد آخر، لم يلقه من قبل، وربما لن يرى له وجها من بعد، ومع ذلك تراه يقدم له أفضل العناية دون أن يتقاضى على ذلك أجراً مادياً، على غلاء أجور الطب، في الوقت الذي ربما كان فيه هذا الطبيب يأخذ الأجر الباهظ من أقرب أقربائه.

وليس هذا الأمر مقتصرا على مهنة الطب، بل يكاد يشمل كل المهن على اختلافها، وكأن هناك روابط خفية، لكنها قوية جداً، تجمع معا أعضاء كل مهنة، ولا شك في أن لهذه الروابط مزاياها وفوائدها، وإلا ما كانت استمرت كل تلك القرون الطويلة.

ولقد شعرت مرات كثيرة بالغضب، لأن بعض المرضى أهان أحد الأطباء أمامي، أو تكلم عليه بسوء، حقاً كان أو بهتاناً. ولو كان ذلك الطبيب منافساً لي، ولو كان ذلك الطبيب مخطئاً.

بل أذكر حادثة معينة عن والد أحد الأطفال، الذي راجعني في عيادتي، وكان هذا الرجل مصارعا أو ملاكما (لست متأكدا أي الرياضتين كان يمارس، فلقد مضت على تلك الحادثة سنوات). عندما زارني روى لي كيف أنه أخذ ولده إلى مستشفى الأطفال حيث استقبله الطبيب المناوب بشيء من الفتور، ثم عالج ابنه بصورة أحس معها الأب أنه لم يعط العناية المناسبة، فما كان منه - أي الأب - إلا أن حاول أن يظهر مواهبه الرياضية، ويضرب ذلك الطبيب المسكين، لولا أن عددا كبيراً من موظفي المستشفى منعوه عن ذلك، وحالوا دون حصول معركة غير متكافئة بين شخص أمضى معظم عمره يمرن عضلاته على حساب عقله، وآخر أمضى وقته يمرن عقله على حساب عضلاته.

وكانت نتيجة ذلك أن أخرج الأب ابنه من المستشفى، ثم جلبه إليّ في عيادتي الخاصة.

وقد داويت الطفل- كما هو واجبي- بالعناية المعتادة، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي عن التعاطف مع ذلك الطبيب الذي لا أعرفه، والذي هدده صاحبنا الملاكم أو المصارع، وكان أكثر ما أثار حنقي وغيظي أن صاحبنا هذا روى لي القصة متفاخراً ببطولته، وكأنه حاز ميدالية ذهبية أو وساما رفيعا. جاهلاً أن في عالم الطب، كما في عالم المصارعة والملاكمة، خشداشية قوية.

ومع أن الأب ارتاح إلى معالجتي، وأعجب بها، وتمنى أن يصير من زبائني الدائمين، إلا أن زيارته تلك كانت زيارة يتيمة.

أما لماذا كانت تلك الزيارة كذلك، فثمة سبب غامض تجاوز معرفته مدارك صاحبنا، إذ كان كلما اتصل هاتفيا بالعيادة وردت عليه الممرضة وعرفت صوته أنبأته أنني غير موجود، أما إذا حدث ولم تميز صوته ووصل الهاتف إليّ فإنني- لسبب أشد غموضاً على مداركه- يجدني دائماً مشغولاً جداً، لا أستطيع أن أعطيه أي موعد قريب لفحص ابنه، مع أنني ربما كنت في واقع الحال أفرغ من فؤاد أم موسى. ولكن ماذا كنت أستطيع أن أفعل ورابطة الخشداشية بتلك القوة والشدة؟ ومن لا يعرف ذلك فليقرأ تاريخ المماليك.

 

غسان حتاحت