خواطر في العروبة والقومية: عَوْد على بَدْء

خواطر في العروبة والقومية: عَوْد على بَدْء
        

          لقد أجج العدوان الثلاثي على مصر في خريف 1956 الشعور بالحاجة إلى القوم, أو بعبارة أخرى قد أيقظ التضامن بين أبناء الأمة العربية, وهذا الشعور نطلق عليه القومية العربية, فما حدث في الكويت - وكانت تحت الحماية البريطانية في ذلك التاريخ - من تظاهرات ومهرجانات خطابية وجمع للتبرعات السخية لجيش مصر حدث مثله في شتى أقاليم الوطن الكبير, فاهتزت لهذا التضامن الصلب أعمدة الاستعمار الغربي, وأدرك الناس في كل مكان أن رحيل هذا الاستعمار قد أزف لا محالة, فالصوت الشجاع الذي كان ينطلق من القاهرة مندّداً بحلف بغداد, والاستعمار الغربي لم يلذ بالصمت بعد الهجوم الثلاثي الشرس على مدن قناة السويس وفي مقدمتها مدينة بورسعيد الباسلة الخالدة, وإنما ازداد ذلك الصوت الشجاع القادم من القاهرة قوّة وعنفاً, والقائد الذي وقف في وجه العدوان الثلاثي بعزيمة الأبطال التاريخيين أصبح بعد ذلك العدوان بطلاً قومياً للأمة العربية جمعاء.

          لقد رفضت سوريا الاكتفاء بنسف أنابيب النفط القادم من العراق إلى البحر الأبيض المتوسط أثناء ذلك العدوان, وأصرّت على دخول الحرب إلى جانب مصر, غير أن عبدالناصر رفض ذلك رفضاً شديداً, وقال للقادة السوريين: إن الفرنسيين ما خرجوا من سوريا ولبنان عام 1945 إلا مرغمين, وهم يحنّون إلى العودة, فلا تمكـّنوهم من ذلك, إن هذا الموقف يكفي في هذه الظروف. أما نهرو رئيس وزراء الهند, فقد أبرق إلى عبدالناصر وقال له: قاتل قاتل واثبت ولا تتراجع, وإلا عاد الاستعمار إلى بلدان الشرق كافة. وكانت المقاومة المصرية في بورسعيد للغزاة كمقاومة الروس للغزاة النازيين في مدينة ستالينغراد, وتحدّث الشعراء والكتّاب كثيراً عن بطولات هذه المدينة العظيمة, وكان التحام المتطوعين بالجيش في تلك المقاومة الضارية مفخرة من مفاخر تاريخ مصر الحديث.

          وخرج الغزاة يجرّون أذيال الخيبة والهوان, فقد ظنوا عند بدء الهجوم أن بعض السياسيين في مصر سيجبرون عبدالناصر على التنحي عن الحكم حفاظاً على سلامة المدن المصرية من الدمار, تلبية لنداءات الغزاة التي وجّهتها محطة الشرق الأدنى البريطانية من قبرص نحو الشعب المصري زاعمة أن القوات الغازية لا تريد غير خلع عبدالناصر, وسيبقى شعب مصر صديقاً وحبيباً إلى قلوب قادة ذلك العدوان, ولقد كان ذلك النداء الذي كرّرته إذاعة الشرق الأدنى من قبرص بضعة أيام كافياً لالتحام الشعب المصري بقيادته التاريخية.

          ولم يسكت الأحرار في بريطانيا وفرنسا على ذلك العدوان فخرجوا في تظاهرات صاخبة يطالبون بخروج المعتدين من مصر, ووقف العدوان, واضطر المستر إيدن رئيس الوزراء البريطاني إلى الاستقالة, وترك العمل السياسي وانزوى بعيداً عن الناس.

واجبات لم تتحقق

          إن هذا الانتصار الذي حققه عبدالناصر في معركة قناة السويس قد ألهم القيادات الوطنية في كل قطر عربي القوة والعزيمة والإقدام, ودفع الاستعماريين إلى التشبث بالنفوذ الذي يتمتعون به في بعض الأقطار العربية, فازداد ضغط حلف بغداد على سوريا والأردن في محاولة يائسة لإرغام البلدين على الارتباط بهذا الحلف, وكان من واجب عبدالناصر وقد خرج من المعركة بطلاً عظيماً أن ينهي الحكم الشمولي, ويعيد الحكم الديمقراطي إلى مصر, ويسمح للأحزاب المصرية بالعودة إلى النشاط السياسي, وكان من الواضح أن أي حزب من تلك الأحزاب لا يستطيع أن يحقق انتصاراً على أي حزب يقوده عبدالناصر, غير أن عبدالناصر - رحمه الله - قد اتخذ من التفاف الجماهير المصرية والعربية حوله حافزاً للإيغال في التفرّد بالسلطة المطلقة, وصمّ أذنيه عن أصوات أساتذة الجامعات والمفكّرين والكتّاب المخلصين المؤمنين بمبادئ ثورة يوليو 1952 وبالديمقراطية أيضاً.

          وهذا ليس بغريب في تلك الفترة التي ساد فيها الحكم الشمولي في كثير من القارات, غير أن هذا التفرّد وعدم الالتفات إلى الأصوات المطالبة بالديمقراطية قد دفعا عبدالناصر إلى الكثير من الأخطاء.

          وعلى أي حال, فقد استطاع عبدالناصر أن يعزل حلف بغداد, ويبعده عن تهديد الأردن وسوريا, بإقدامه على إنزال بعض وحدات الجيش المصري في ميناء اللاذقية عام 1957 لمشاركة الجيش السوري في الدفاع بعد الحشود التركية على حدود سوريا الشمالية, فجُنّ السوريون بهذه الخطوة الجريئة, وأخذوا يطالبون بالوحدة الفورية بين الإقليمين المصري والسوري, وما هي إلا أشهر حتى قامت الوحدة بين القطرين الشقيقين - فبراير 1958 - وسُميّت دولة الوحدة الجمهورية العربية المتحدة. أما ساسة العراق, وعلى رأسهم نوري السعيد, فقد اشتد هلعهم بعد انتصار عبدالناصر في معركة قناة السويس, وأصدر أحد أقطابهم وهو الدكتور فاضل الجمالي صحيفة سمّاها (العمل) لمهاجمة العمل العربي الذي يقوده عبدالنـاصـر. وكـان نوري السعـيد وفاضل الجمالي لا يعتقدان أن نجم الاستعمار البريطاني سيأفل, فقد ربطا وجودهما بوجود القواعد البريطانية في الحبّانية بمحافظة الدليم والشعيبة بمحافظة البصرة حتى بلغ الحقد بنوري السعيد أن حثّ المستر إىدن على إزاحة عبدالناصر بالقوة في رواية نشرها الوزير البريطاني أنتوني نوتنج في حديثه عن العدوان الثلاثي, إذ قال: كان المستر إيدن قد دعا نوري السعيد إلى تناول العشاء معه مساء يوم 23 يوليو 1956, وأثناء العشاء, كنت أستمع إلى الإذاعة البريطانية, وهي تنقل خطاب عبدالناصر بمناسبة أعياد الثورة, فإذا به يعلن تأميم قناة السويس, فذهبت إلى المستر إىدن وهمست في أذنه بالنبأ, فرمى الشوكة والسكين من يديه ووجم, فسأله نوري السعيد: ما الأمر؟ فقال المستر إيدن: إن عبدالناصر أقدم هذه الساعة على تأميم قناة السويس, فردّ عليه نوري السعيد قائلاً: ليس هناك من حل غير إزاحته بالقوة. وبعد قيام الوحدة بين القطرين الشقيقين المصري والسوري تأجج الشعور القومي على نحو مذهل, وكان من واجب عبدالناصر, وقد بلغ المنزلة الرفيعة في قلوب الجماهير العربية أن يرفض الممارسات القمعية سواء أكانت في الإقليم الشمالي أم في الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة, ولا ننسى أن انحياز مصر إلى الاتحاد السوفييتي في جميع وسائل إعلامها قد أثار المخاوف في قلوب بعض القادة العرب, فهم - وإن كانوا يتمنون هزيمة الاستعمار الغربي ورحيله عن البلاد العربية - لا يقبلون أن يك ون البديل نفوذاً شيوعياً مرعباً.

المد الشيوعي

          وزاد الطين بلة ما حدث بعد ثورة تموز 1958 في العراق من مد شيوعي دموي بشع ربيع 1959 وبعده بتأييد من الاتحاد السوفييتي ومباركته, وقد قتل في تلك الردة مئات الأبطال من العسكريين والسياسيين وسحب بالحبال في شوراع بغداد والموصل والبصرة مئات الأبرياء.

          وعلقت بعض النسوة على أعمدة الكهرباء لرفضهن تلك الردة, وقد كانت تظاهرات الشيوعيين في المدن العراقية تقترن بشتم عبدالناصر عقاباً له على انتقاده للاتحاد السوفييتي ووقوفه بحزم أمام انحراف عبدالكريم قاسم.

          ولقد وجد عبدالناصر نفسه أمام قوى رهيبة تناصبه العداء, وتسعى إلى القضاء عليه, وفي مقدمتها الصهيونية العالمية بقضها وقضيضها, والاستعمار الغربي بعجره وبجره, والشيوعية الدولية بالأتباع السائرين في ركابها في كثير من الأقاليم العربية, غير أنه بقي مؤمناً بقضايا أمته معتمداً على وعي الجماهير وقدرتها على الكفاح والنضال.

ماذا حدث في اليمن؟

          لقد كانت الوحدة بين مصر وسوريا تتويجاً للانتصار على المعتدين في قناة السويس, غير أن انحراف ثورة العراق بقيادة عبدالكريم قاسم, وتململ السوريين من الحكم الشمولي الذي ساد البلدين, وأخطاء عبدالحكيم عامر الفادحة - وكان ممثلاً لعبدالناصر في سوريا - قد دفع بعض الضباط السوريين إلى إعلان الانفصال أواخر سبتمبر 1961, وكان قائد الانفصال مدير مكتب عبدالحكيم عامر في دمشق. وكانت هذه المفاجأة المؤلمة قاسية جداً على قلب عبدالناصر, فحاول أن يبعث ببعض قواته إلى سوريا للانضمام إلى بعض وحدات الجيش السوري في حلب واللاذقية لإعادة الوحدة, إلا أنه عدل وطلب من الوحدات التي نزلت اللاذقية أن تعود, وبارك لسوريا ما أرادت, وما هي إلا أشهر حتى أهدت إليه الجزائر نصرها المؤزر, ذلك النصر الذي رقص له جميع الأحرار في شتى أنحاء المعمورة.

          إن ثورة الجزائر - وإن كانت قد تبناها عبدالناصر منذ البداية - كانت ثورة جميع أبناء العروبة, لأن استعمار الجزائر استعمار استيطاني كالاستعمار في فلسطين, لذلك وجدنا الكويت - على سبيل المثال - تفرض ضريبة على تذاكر السينما باسم ثورة الجزائر, وكان المواطنون يتبرّعون باستمرار لهذه الثورة. وفي الأيام الأولى للاستقلال أمر الشيخ عبدالله السالم أمير دولة الكويت بدفع عشرين مليون دينار للحكومة الجزائرية, وهذا مبلغ كبير في ذلك الوقت, وبعث إلى هذا البلد العربي الذي قدم لاستقلاله أكثر من مليون شهيد بعثة طبية كبيرة لسد النقص في الأطباء بعد عودة الفرنسيين إلى وطنهم.

          وبعد أشهر من انتصار ثورة الجزائر, قامت ثورة اليمن أواخر سبتمبر 1962 على الإمام البدر بن أحمد بن يحيى حميد الدين, وأعلنت الجمهورية في صنعاء, فمدّ الثوار أيديهم نحو عبدالناصر, فأخذ يمدّهم بالآلاف من جيشه لصد هجمات رجال القبائل, ولم يكتف الجيش المصري في اليمن الشمالي بصد هجمات القبائل الموالية للإمامة, وإنما هبّ يدرّب أبناء السلطنات والمحميات على القتال لإرغام الإنجليز على الرحيل من جنوب اليمن, وكانت مدينة تعز قاعدة للتدريب والتسليح, وهي تبعد زهاء مائتين وخمسة وعشرين كيلومتراً إلى الجنوب من صنعاء.

          لقد حمل عبدالناصر عبء اقتلاع الاستعمار الفرنسي من شمال إفريقيا, وعبء اقتلاع الاستعمار الإنجليزي من جنوب الجزيرة العربية والعراق والخليج العربي, بالإضافة إلى مد العون للشعوب الإفريقية المناضلة على الرغم من الإرهاق الذي أصابه, وكان من الحكمة وبُعد النظر أن تكون خطواته محسوبة بدقة بعد أن قدم لليمن أكثر من سبعين ألف جندي وضابط مع دباباتهم وطائراتهم وجميع أسلحتهم الثقيلة والخفيفة لنصرة الجمهورية في صنعاء, وتدريب أبناء الجنوب على القتال, وهو يعلم أن القواعد البريطانية في عدن تعتبر العمود الفقري للقاعدة البريطانية في الخليج العربي, فإذا ما رحلت تلك القواعد من جنوب الجزيرة, أصبح وجود القاعدة البريطانية في الخليج لا معنى له ولا فائدة تُرجى منه.

          لقد تناولت الإذاعات المصرية ووسائل الإعلام الأخرى قضية القواعد الأجنبية في البلاد العربية بالكثير الكثير من التهييج والإثارة, حتى صار المواطن العربي يشعر بالحرج الشديد إن كانت هناك قواعد أجنبية في بلاده, فيؤيد أيّ تحرّك عسكري أو جماهيري نحو إزالة هذه القواعد, فقد حدث هذا للقواعد العسكرية البريطانية في العراق, وللقواعد البريطانية في عدن والخليج, والقواعد الأمريكية البريطانية في ليبيا والقاعدة الفرنسية في بنْزَرْتْ بتونس وغيرها. ولا غرابة في الأمر, فقد كان عبدالناصر يكره هذه القواعد ويحاربها بشدّة, وقد رأى الكثير من عدوانها وطغيانها حينما كانت هناك قواعد بريطانية في القاهرة والإسماعيلية, وأماكن أخرى من أرض مصر العزيزة.

          لذلك رأيناه بعد الهجمات الإعلامية الشديدة على الحبيب بورقيبة جرّاء قبوله ببقاء القاعدة العسكرية الفرنسية في بنْزَرْتْ ينطلق في وفد كبير إلى تونس ليستعرض معه القوات التونسية التي خاضت معركة ناجحة في هذه القاعدة عام 1963, وأجبرت فرنسا على سحب أسطولها والرحيل عن تونس, كما رأيناه عند قيام ثورة العراق في تموز 1958  يقطع زيارته ليوغوسلافيا وينطلق إلى موسكو يطلب موقفاً جادّاً منهم إذا ما حاول البريطانيون التصدّي للانقلاب من قاعدتي الشعيبة والحبّانية, ويأمر في الوقت نفسه بنقل كميات ضخمة من الأسلحة من الإقليم الشمالي - سوريا - إلى العراق.

          إن هذه المعارك الناجحة التي خاضتها الجماهير العربية بدافع من شعورها بالتضامن العربي الذي نسمّيه القومية العربية ما كان لها أن تنجح لولا الزعامة التاريخية التي كان يتمتع بها عبدالناصر, ولقد كان من واجب عبدالناصر وقد نزل بقواته المتميزة في اليمن الشمالي لدعم الجمهورية الوليدة, ومصارعة الوجود البريطاني في اليمن الجنوبي أن يكون أشدّ يقظة لما يحيكه له أعداؤه وفي طليعتهم عصابة تل أبيب الآثمة الباغية, فقد أطلقت إسرائيل إشاعة تقول إنها تستعد لغزو سوريا في مطلع عام 1967, لدفع عبدالناصر إلى المواجهة لتحقيق الحلم بتركيع هذه الزعامة العربية الشامخة, ومع ذلك, فقد طلب عبدالناصر من عبدالحكيم عامر تقريراً عن استعداد الجيش لصدّ أي هجوم غادر من إسرائيل, وكان جواب عبدالحكيم عامر أمام جميع الوزراء بعد أن ضرب عنقه بكفّه الأيمن بضـع مرّات: برقبتـي هذه يا ريس إن الجيش على استعداد لدحر إسرائيل إن هي أقدمت على الهجوم.

          وجاء هجوم إسرائيل المباغت صباح يوم 5/6/1967 مستغلة نصف ساعة تهمل فيها المراقبة الجوية لتناول الطيّارين طعام الصباح, فانهارت أعصاب القيادة العسكرية وعلى رأسها عبدالحكيم عامر, فأمر بالانسحاب إلى غرب قناة السويس, ومع ذلك, لم يركع عبدالناصر لإسرائيل, فأشعل حرب الاستنزاف, وأخذ يُعدّ جيشاً حديثاً, بعد عزل عبدالحكيم عامر.

          إن حرب 1967 ليست بحرب على الإطلاق, وقد ظلم فيها الجيش المصري, وهو الذي دكّ خط بارليف بعد عبوره قناة السويس في ساعتين في حرب أكتوبر 1973, ولولا التدخل الأمريكي لتغيّر الحال.

عودة التضامن

          بعد الهزيمة المزعومة يونيو 1967 سارعت العصابات  الصهيونية إلى إغراق البلاد العربية بالنشرات الملوّنة ذات الإحصائيات والبيانات عن الجيوش العربية ونفقاتها, وما يصرف على تسليحها دون فائدة كما قالت, وطلبت التوقف عن الحروب والاستسلام للإرادة الصهيونية, وكان ردّ التضامن العربي حرب أكتوبر 1973.

          ولا غرابة في الأمر, فلقد حدثت النكسة أو الهزيمة - كما تسمّيها إسرائيل - في يونيو 1967 والخلاف على أشدّه بين القاهرة والرياض, وفي مؤتمر القمة بالخرطوم في أغسطس بعد النكسة بشهرين, اختلى الملك فيصل بعبدالناصر زهاء نصف ساعة, ثم خرجا, وأعلن الملك فيصل أن دخل قناة السويس الذي يبلغ مائة وثلاثين مليون جنيه استرليني - الإسترليني قبل التخفيض - تتحمّله المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا, فصفّق القادة العرب طويلاً وهتفوا للتضامن العربي الذي لا يتزعزع مهما كانت الخلافات, فتحمّلت المملكة خمسين مليوناً والكويت خمسة وخمسين, وليبيا خمسة وعشرينا, كما رأينا موقفاً سعودياً شجاعاً آخر في حرب أكتوبر جرّ معه الكويت والإمارات وقطر حينما لجأت الدول الأربع إلى تقليص إنتاج النفط للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية الموالية لإسرائيل, وقد أدى ذلك الإجراء إلى ارتفاع أسعار النفط ارتفاعاً شديداً, فليس هناك من بلد في جزيرة العرب وقف معادياً للتضامن العربي, أو معرقلاً لرحيل الاستعمار.

          غير أن نزول القوات المصرية في اليمن خريف 1962 صحبه نزول الخبراء الروس فيها, ثم جاء فوز سالم ربيع علي وصحبه من الماركسيين, علي قحطان الشعبي وصحبه من القوميين في يونيو 1969, فازدادت المخاوف من النفوذ السوفييتي وقحطان تسلم رئاسة الجمهورية في عدن في مطلع نوفمبر 1967 وارتمى الماركسيون بقيادة سالم ربيع علي في أحضان السوفييت, وظلت هذه الجمهورية تتخبط في علاقاتها مع جيرانها إلى أن ظهرت ملامح الضعف في الاتحاد السوفييتي عام 1990, فأقدم قادتها على الوحدة مع الشمال.

          إن التضامن العربي, أو ما يعرف بالقومية العربية, قد خاض معارك طاحنة في سبيل استقلال البلاد العربية, وكان لواء هذه المعارك بيد القاهرة, وكان قائدها هو بطل العرب التاريخي جمال عبدالناصر, ولم يطرح جمال عبدالناصر أي أيديولوجية للتضامن العربي, فكان نداؤه نداء مبرأ من الخلاف والاختلاف. ولقد فشلت الأيديولوجيات التي اخترعها بعض القادة العرب للتضامن العربي ليتمحوروا فيها, وهاهي أيديولوجية حزب البعث في العراق قد طعنت التضامن العربي في الظهر صباح الثاني من أغسطس 1990 بعمل عسكري فاشستي ذميم, ومن قبل ذلك, أقدمت تلك الأيديولوجية الرعناء على غزو إيران دون وجود أسباب توجب إعلان الحرب.

          أما الإخوة الليبيون, فقد اخترعوا أيديولوجية للقومية أو التضامن العربي, وهي الوحدة العربية الفورية من المحيط إلى الخليج, ولما اصطدموا بالواقع, قالوا إنهم براء من العروبة والقومية العربية, وأن القارة الإفريقية أهم لديهم من العروبة والقومية, ولو ترك التضامن العربي دون أيديولوجيات لحقق للأمة العربية الكثير من الإنجازات العظيمة.

          وعلى الذين ردّدوا ما تذيعه إسرائيل حول انتصاراتها في يونيو 1967 أن يتذكروا هزيمة بريطانيا في معركة دنكرك في الحرب العالمية الثانية, وعليهم أن يتذكروا ما فعله اليابانيون بالأمريكيين ساعة المباغتة, ثم ماذا حدث بعد ذلك, ولمن كان النصر آخر المطاف.

          ولمَ لم نتذكّر هزيمة المسلمين في أحد حيـنـما خالف بعضهم أمر الرسول الكريم, واندفعوا نحو الغنائم, فكرّ عليهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من الخلف, فكانت الهزيمة؟

          إن الحروب كرّ وفرّ, ويوم لك ويوم عليك, ولكن هذه الأمة لا تنام على ضيم, ولا تستسلم للأعداء.

          لقد حقق عبدالناصر للشعب العربي الحرية والاستقلال, وحقق للشعب المصري مكاسب ضخمة في مقدمتها خروج الإنجليز من مصر, والتقدم الهائل في مجال التصنيع, وتوزيع الأراضي على الفلاحين, وتحديد الملكية الزراعية, وإنشاء السد العالي الذي حمى مصر من الفيضانات المدمّرة, وإعداد جيش حديث أخذ ثأره من إسرائيل في أكتوبر عام 1973, وأسس مع الزعيمين اليوغوسلافي والإندونيسي - تيتو وسوكارنو - منظمة عدم الانحياز. غير أن عبدالناصر لم يستطع أن يكبح جماح الإعلام لتهدئة المتخوّفين من النفوذ الروسي المتزايد في البلاد العربية, ووقف مكتوف اليدين أمام عبدالحكيم عامر ونفوذه القوي في الجيش حتى حلّت النكسة, ولم يلجأ إلى ركن ركين يحميه من الاندفاع غير المحسوب ألا وهو النظام الديمقراطي القائم على الانتخابات الحرّة النزيهة.

          والذي دعانا إلى الحديث عن معارك التضامن العربي من أجل الحرية والاستقلال بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 هذا الجيل الجديد الذي جاء بعد تلك الأحداث, وأصبح لا يعرف شيئاً عن تلك المنازلات القاسية بين الاستعمار الغربي وأدواته في البلاد العربية, وبين الأحرار المخلصين من أبناء هذه الأمة, وقد ظن كثير من أبناء هذا الجيل أن الاستعمار الغربي قد رحل عن ديارنا العربية طائعاً مختاراً, لذلك رأينا أن نقدم هذه الخواطر عن كفاح أمتنا حينما كان التضامن العربي دون أيديولوجيات, فالأمة العربية لم تجن من أيديولوجيات بعض القادة العرب غير المتاعب والنكبات.

          ونؤكد في الختام أن مصر التي سحقت التتار على حدودها الشرقية, وقضت على حملات الصليبيين, وأنقذت بيت المقدس من شرّهم واستعمارهم ستبقى قائدة للنضال العربي, فقد حباها الله موقعاً استراتيجياً متميزاً, وجيشاً عرمرماً له تاريخ في الذود عن الأمة العربية, وكثافة سكانية مريحة, ووفرة في العلماء والمثقفين والمبدعين, وركائز ثابتة في الاقتصاد, ولن يضيع حق عربي مادامت القاهرة تضم حولها المخلصين من قادة هذه الأمة.

 

أحمد السقاف