ثقافة إلكترونية: التعليم عن بُعد في عصر الإنترنت

فكرت قبل فترة وجيزة أن أستعيد حلمًا قديمًا باستكمال تعلم اللغة الفرنسية التي كنت قد قطعت شوطًا في تعلمها قبل سنوات طويلة وتوقفت لأسباب عديدة لعل أهمها ضيق الوقت. لكني في خلال فترة الدراسة الأخيرة اكتشفت أن المقارنة بين دراسة اللغات قبل 15 عامًا وبينها الآن، في ظل وجود شبكة الإنترنت، أصبحت مقارنة بين عالمين مختلفين تمامًا، كانها انتقال بين عصرين وحقبتين زمنيتين وليس مجرد مرور عدة سنوات!

على سبيل المثال فقد كان البحث عن تصريفات الأفعال في الفرنسية في الأزمنة المختلفة، وهي كثيرة، تقتضي البحث عن مراجع أو كتب متخصصة في تصريفات الأفعال، أما اليوم فإن إمكانات البحث الهائلة التي توفرها محركات البحث على شبكة الإنترنت يمكن أن توفر البحث عن تصريف أي فعل ومعناه في لحظات. كما أن المواقع الجديدة الخاصة بالترجمة على الشبكة توفر ايضا تحصيل العديد من المرادفات في زمن قياسي، وليس هذا فحسب، بل وبالنطق الصحيح أيضًا، حيث تتضمن أغلب مواقع الترجمة الآن إمكانية الاستماع الى الناطق الآلي الذي يزفر النطق الصحيح للكلمة.

هذه الملاحظات السريعة جعلتني أفكر في الكيفية التي أصبحت عليها اليوم إمكانات التعلم عن بعد، وكذلك الإمكانات التي توفرها الإنترنت اليوم لما يعرف بالتعليم الافتراضي أو On line Education، أو التعليم عن بعد.

وقد هالني بالفعل العدد الكبير جدا للفصول الدراسية Courses المتاحة على شبكة الإنترنت للتعليم الذاتي، التي توفر الكثير منه جامعات مرموقة في ارجاء العالم؛ خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا. كما توفره أيضا مؤسسات تعليمية وأكاديمية خاصة أو استثمارية. وفي تخصصات مختلفة من الاقتصاد والإدارة إلى الفنون والسينما، ومن الفلسفة والمنطق إلى فلسفة العلوم.

وصحيح أن الكثير من تلك الدورات أو الفصول الدراسية الافتراضية بمقابل مادي نظير المناهج والاختبارات والأدوات والمؤلفات الدراسية، لكن هناك اتجاهًا آخر للعديد من تلك المؤسسات التي تدعم التعليم عن بعد توفر تلك الفصول الدراسية مجانا.

فرص هائلة

والحقيقة أننا لا يمكن أن ننظر إلى تلك الوسيلة، أي الدراسة عن بعد، كوسيلة يمكن أن تحل محل الدراسة النظامية في الحرم الجامعي التقليدي، بطبيعة الحال، لأسباب كثيرة وعديدة، من بينها أن هناك في النهاية تخصصات علمية لا يمكن أن تنجح بالدراسة النظرية فقط، مثل دراسة الطب والعلوم والدراسات الزراعية، والتكنولوجية وغيرها، لأن الدراسة بها لا تكتمل من دون الجانب العملي الذي يقتضي توافر المختبرات والمعامل والقاعات البحثية وما شابه ذلك.

لكنها، في المقابل، توفر فرصاً هائلة للعديد من الدارسين، ممن يرغبون في دراسة تخصصات معينة قد لا تتوافر لهم في الجامعات القريبة من مواطن سكنهم أو إقامتهم، وفي الوقت نفسه قد لا يمتلكون المال اللازم إنفاقه للسفر للتعلم في تلك الجامعات البعيدة.

وهذه أيضا واحدة من أبرز مزايا هذا النظام التعليمي الجديد، أنه يتيح للدارس أن يتعرف على العديد من التخصصات العلمية التي قد لا تتوافر له المعرفة بها، في إطار مجتمعه الدراسي والعائلي الضيق الذي يرى في ألوان التخصصات العلمية التقليدية غاية الأمل في التعليم والدراسة، بينما يمكن، من خلال المواقع الالكترونية المتخصصة في التعليم عن بُعد، التعرف على تخصصات جديدة تمتلئ بها ساحات العلوم في أرجاء العالم اليوم، خصوصاً أن الحقل الأكاديمي اليوم ينحو بشدة باتجاه المزيد من التخصص بسبب التطور الكبير والطفرة الهائلة التي مرت بها البشرية في جوانب العلم المختلفة.

تخصصات دراسية جديدة

وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك اليوم توجهات علمية وتخصصات مختلفة لم تكن منتشرة من قبل، وبينها مثلاً بعض الحقول العلمية التي تمزج بين مجالين علميين مثل فلسفة العلوم، وهي في الأساس أحد فروع الفلسفة الذي يهتم بدراسة الأسس الفلسفية والافتراضات والمضامين الموجودة ضمن العلوم المختلفة، بما فيها العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا، والاجتماعية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية. بهذا المفهوم تكون فلسفة العلوم وثيقة الصلة بالإبستمولوجيا والأنطولوجيا فهي تبحث عن أشياء مثل: طبيعة وصحة المقولات العلمية، طريقة إنتاج العلوم والنظريات العلمية، طرق التأكد والتوثيق من النتائج والنظريات العلمية، صياغة وطرق استعمال الطرق العلمية المختلفة أو ما يدعى بالمنهج العلمي، طرق الاستنتاج والاستدلال التي تستخدم في فروع العلم كافة، وأخيرا تضمينات هذه المقولات والطرق والمناهج العلمية على المجتمع بأكمله وعلى المجتمع العلمي خاصة.

نماذج من العلوم الجديدة

من الأمثلة على التخصصات التعليمية والبحثية التي لم تكن موجودة في الحقول الأكاديمية والتعليمية قبل نحو عشر سنوات تقريبا: الإعلام الجديد: وهو ما يختص بالإعلام الإلكتروني بشكل محدد، حيث يجمع بين تخصص الصحافة والنشر والتنظيم الإلكتروني.

ومجال التكنولوجيا البيلوجية: ويجمع بين مجالي التقنية وعلوم الأحياء، وكذلك علوم الزراعة العضوية: التي تبحث في دراسة وسائل الزراعة الحديثة التي تقتضي توفير محاصيل ومنتجات لا تتضمن أية إضافات صناعية.

هناك أيضا مجال دراسي تم استحداثه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، هو علم الأمن القومي المحلي: ويختص بدراسة العوامل النفسية وتأثيراتها في حدوث أعمال هجومية، ودراسة أعمال الإغاثة بعد حدوث كوارث، وكيفية التعامل مع المواد الخطرة.

هناك كذلك تخصصات جديدة فرضتها التطورات التي تحدث على شبكة الإنترنت مثل إدارة الأعمال الإلكترونية، والتسويق الإلكتروني، بالإضافة إلى مجال جديد تماماً يتعلق بتصميم الألعاب الإلكترونية وينقسم الى قسمين، قسم برمجي يختص بالبرمجة، وقسم فني يختص بالتشكيل الفني لهذه البرمجيات (الرسم والتصميم وأعمال الجرافيك).

ومن التخصصات الدراسية الجديدة أيضا ابتكرت أخيرا مادة علمية تتخصص فيما يعرف بالمحاسبة الجنائية: فبعد العديد من الأزمات المالية العالمية أصبحت الحاجة ملحة الى تخصص جنائي يستطيع التنقيب عن الثغرات المحاسبية، وهذا التخصص يمكن تعريفه أو تصويره بأنه بمنزلة معمل جنائي للبحث في دفاتر المحاسبين عن أية أدلة في القضايا المحاسبية الكبيرة.

المجتمع والبيئة: يقوم هذا التخصص بدراسة العلاقة بين المجتمع والبيئة والتفاعل بينهما.

النانو تكنولوجي: وهو العلم الذي يعنى بتطوير إمكانات التكنولوجيا الدقيقة (بالغة الصغر)، لكي تستخدم علوماً أخرى كالفيزياء والكيمياء والأحياء، ويعد صرعة جديدة ستحدث العديد من الطفرات العلمية في المستقبل القريب. وهناك مجالات أخرى عديدة بالتأكيد.

ضرورات التعليم عن بعد

لكن هذه الميزة التي يوفرها البحث في العالم الافتراضي للتعرف على التخصصات العلمية الجديدة أو المهمة، لا تمثل السبب الرئيس لزيادة وتوسع نطاق الدراسة عن بعد اليوم، فهناك في الحقيقة ثمة أسباب أخرى أكثر جوهرية تتعلق بالتزايد المستمر في أعداد الطلبة والدارسين في العالم، مقارنة بالأماكن المتاحة لهم في الجامعات والمؤسسات التعليمية والأكاديمية المختلفة التي لا تتوسع بنفس النسبة بالتأكيد، ومن هنا يأتي التعليم عن بعد كحل ضروري وأساسي للعديد من الطلبة، كما يؤدي إلى تخفيف الضغط نسبيًا على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. وهناك دول مثل الصين والهند لا يمكنها أن توفر في المستقبل، مهما بلغت إمكاناتها، العدد الملائم من المعاهد والجامعات التي يمكن أن تستوعب الزيادة الهائلة المتوقعة في أعداد الدارسين والطلبة في المستقبل. وبالتالي فإن هاتين الدولتين على سبيل المثال لا الحصر طبعا، سيصبح التعليم عن بعد بالنسبة لهما ضرورة وحلاً أساسيًا لبرامج التعليم العام للدارسين بها في المستقبل القريب جدا. كذلك يُعد التعليم عن بعد حلاً جيداً لمن أنهى دراسته الأساسية والتحق بوظيفة أو عمل، ثم أدرك احتياجه للمزيد من التخصص العلمي في مجاله مثلا، فهو يمكن أن يعمل لساعات أقل ويدرس عن بعد مثلاً، كذلك الأمر بالنسبة للسيدات اللائي تتعارض ظروف حياتهن العائلية بعد الإنجاب مثلا مع التعليم المنتظم في حالة رغبتهن في استكمال الدراسة العليا أو تطوير تحصيلهن العلمي أو التعليمي بشكل عام. كما أنه بالنسبة للدارسين من الدول التي تقل فيها متوسطات الدخول القومية للأفراد مثل إفريقيا مثلا، ويرغب بعض الدارسين المتفوقين في تلك الدول في الحصول على مستوى عالٍ من التعليم الأكاديمي قد لا يتوافر في بلادهم، أو لا يتوافر إلا بتكلفة تفوق قدراتهم، فإن التعليم عن بعد في الجامعات المرموقة قد يصبح حلاً مثالياً لهم، لأن التعليم عن بُعد سيوفر الكثير مما قد يستلزم إنفاقه على الانتقال والسفر والإقامة، كما أن نفقات الدورات أو الفصول الدراسية ستكون أقل كلفة.

إمكانات ومزايا

هناك اليوم بعض الجامعات وبينها مثلا جامعة ليسسيستر University of Leicester is ، في بريطانيا توفر للدارسين عن بعد من الطلبة الذين يعيشون في مناطق ما بعد الكوارث والأزمات، خصوصاً في إفريقيا، ممن قد يعانون من عدم توافر بث شبكة الإنترنت بشكل جيد، توفر لهم أجهزة «آيباد» يقومون بتحميل البرامج الدراسية عليها في وقت توافر بث الشبكة، ولكنهم لاحقا لا يحتاجون إلى الشبكة في الاطلاع والتحصيل العلمي لتلك المقررات الدراسية.

في بعض التقارير الصحفية التي نشرتها صحف غربية عدة، وبينها صحيفة «الجارديان» على سبيل المثال؛ تورد العديد من المقابلات المقتضبة مع نماذج من الطلاب والطالبات في بريطانيا ممن لجأوا إلى التعليم عن بعد، إما لأن بعضهم اضطر للعمل مبكراً بعد إنهاء تعليمه المدرسي الثانوي، أو بسبب الظروف العائلية وتكوين أسر في وقت مبكر، أو لعدم الإمكانية بسبب القروض الواجب الحصول عليها للتعلم في بعض الجامعات لمن لم تتوافر لهم منح دراسية.

ويجمع هؤلاء على أنهم في مقابل ما قد يفتقدونه من نظام معيشة أكاديمي في حرم الجامعات فإنهم في المقابل، ومن خلال الالتحاق بنظم التعليم عن بُعد، يكونون قد ضمنوا تحصيل الدرجة العلمية التي يبتغونها، ومن دون أن يضطروا لتكلف ذلك الحجم من الديون الذي يُضطر العديد من الطلبة إلى تحمله في أوربا وأمريكا.

لكن موضوع الدراسة عن بعد أيضا ليس بالسهولة التي قد يتصورها البعض، فللقبول في الدراسة تطلب الجامعات المختلفة مستويات جيدة من التحصيل العلمي السابق للدراسة الجامعية مع قدرات عالية في القراءة والكتابة بسرعات معقولة وكذلك بإمكانات بحثية.

التعليم الافتراضي ليس سهلاً

لذلك فإن الشخص الذي يقرر الدراسة عن بعد لا بد من أن يعد نفسه بشكل جيد، خصوصا في المجال الذي يود أن يدرسه، لاسيما إذا كان مجالاً علميًا متخصصًا.

من جهة أخرى، فإن الشخص الذي يبحث عن مقرر دراسي مناسب له عن بعد لا بد من أن يتأكد من النظام الدراسي ومدى وضوحه بالنسبة له، فليس المنهج واحدًا في النظم المختلفة للتعليم عن بعد، وهناك جامعات توفر منهجًا دراسيًا تفصيليًا واضحًا مقارنة بغيرها من الجامعات.

وإذا لم يجد الشخص الباحث عن فصل دراسي في موقع الجامعة ما يجيب عن أسئلته فهذا يعني أن مصممي البرنامج الدراسي عن بعد يفتقدون القدرة على توفير البرنامج الملائم للدارسين.

كما يقدم خبراء التعليم عن بعد نصيحة لمن يرغب في هذا النوع من الدراسات قائلين إنه إذا لم تكن لديك الرغبة في التعلم بشكل جاد، وبنفس الجهد الذي ستبذله في حالة انتظامك في الدراسة المنتظمة، فلا داعي لأن تلتحق ببرنامج الدراسة عن بُعد، لأنك لن تجتازه إذا لم توفر له نفس الجهد الذي يتطلبه أي منهج دراسي تقليدي.

والفكرة التي يقدمها الخبراء أنه في حالة ما إذا كان المتعلم يعمل في وظيفة بدوام كامل، فعليه أن يتأكد قبل اتخاذ القرار أن تصميم البرنامج الدراسي يسمح له بالدراسة والعمل في نفس الوقت، من خلال مراجعة تصميم البرنامج الدراسي والتأكد من عدد الساعات الدراسية المطلوبة أسبوعيا والتأكد من قدرته على الوفاء بها.

وفيما يلي رابط مهم لمن يرغب في التعلم عن بعد ليتعرف أولا على المواصفات المطلوبة في اي شخص يرغب في التعلم عن بعد، من جهة، إضافة إلى أن الرابط يوفر عددا من المواقع المهمة الخاصة بجامعات توفر نظم التعليم عن بعد في بريطانيا وكندا وغيرهما من دول العالم.

www.tonybates.ca/2012/02/29/a-student-guide-to-studying-online/

هذا الرابط أيضا يتضمن كل ما يجب توفره من مهارات لدى الشخص الذي يرغب في الدراسة عن بعد، مع الإحالة على حالات مختلفة ومتنوعة لعدد من الطلبة ممن أنجزوا شهاداتهم العلمية بنجاح في إطار نظام التعليم عن بُعد، حيث يقدمون خلاصة خبراتهم في الدراسة والكيفية التي اجتازوا بها ما واجههم من عقبات.

 

 









فتحت الإنترنت آفاقاً جديدة للتعليم بشكل عام ولفرص التعليم عن بعد بشكل خاص



بفضل الإنترنت والثقافة الرقمية وجدت خلال السنوات الأخيرة تخصصات علمية جديدة لم يكن لها وجود من قبل



أحد المواقع الإلكترونية المتخصصة في التعليم عن بعد



بعض الجامعات التي توفر فرص التعليم عن بعد توفر للدارسين أجهزة آيباد خاصة لتحميل المقررات الدراسية عليها



التعليم عن بعد لايزال يفرض آفاقاً جديدة في المستقبل