حان الوقت لنحدث الآخرين عن أنفسنا.. ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي

حان الوقت لنحدث الآخرين عن أنفسنا.. ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي

اختارت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري حاكماً عربياً شاعراً لرعاية الملتقى الدولى الذي اختارت له هذا العنوان «ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي»، وقد تكفل الشاعر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، باستضافة هذا الملتقى، في الفترة من 16 إلى 18 أكتوبر 2011، في رحاب دبي التي أصبحت العاصمة الاقتصادية للدولة، فضلاً عن كونها ثاني أكبر إمارة في الاتحاد بعد إمارة أبوظبي، حيث تبلغ مساحتها 4,114 كم2 وهو ما يعادل 5% تقريباً من مساحة الإمارات.

شهدت دبي تطوراً كبيراً خلال السنوات الماضية، حتى إن المنطقة التي يطلق عليها اسم «دبي فستيفال سيتي»، والتي تضم الفندق الذي شهد انعقاد هذا الملتقى، لم يكن لها أي وجود على أرض الواقع قبل خمس سنوات فقط.

وتتميز دبي بأن دخلها لا يعتمد على الإيرادات النفطية بشكل أساسي، على عكس أغلب دول الخليج العربي، فاقتصاد دبي ينهض في الأساس معتمداً على حركة التجارة، والخدمات المالية، فضلاً عن السياحة وتجارة الترانزيت.

وقد بسط الشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين، رئيس مجلس الأمناء، أهداف هذا الملتقى في كلمته التي استهل بها حفل الافتتاح الذي حضره ورعاه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، وشهده عدد من الساسة في مقدمتهم: حارث سيلاجيتش، رئيس البوسنة والهرسك السابق، والمشير عبدالرحمن سوار الذهب، رئيس السودان الأسبق، وفؤاد السنيورة، رئيس وزراء لبنان الأسبق، ومايكل فرندو، رئيس برلمان مالطا، وحامد برهان، رئيس برلمان جمهورية القمر المتحدة، وسفين الكلا، وزير خارجية البوسنة والهرسك، وجيوفاني بيتيلا، النائب الأول لرئيس البرلمان الأوربي، وعمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي: «أفتتح كلمتي بتحية مفعمة بالود والتقدير لراعي الحفل الفارس الشاعر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وأشعر بسعادة غامرة، ونحن نعقد هذا الملتقى في فضاء جزيرتنا العربية، الأرض التي قدّست الكلمة، أرض المعلقات والآيات، حيث رمالها المترامية لم تنبت شيئاً سوى الشعر، وسماؤها الصافية لم تمطر غير كلام الله، وبين المعجز البشري والمعجز الإلهي ترعرعت قبائل هذه المنطقة لتكون الأداة البشرية لتحقيق أعظم تطور في تاريخ الإنسان.

وقد رأت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري أن تجمع في هذا الملتقى بين الشعر والحوار، لنكوّن من هذين الجذرين شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وقصدنا أن يرقى الحوار بالشعر إلى ملامسة الهم الإنساني العام، وأن يسند الشعرُ الحوارَ ليصبح ثقافةً يتبناها الجميع».

وذكر البابطين أن الشعر والحوار في أرفع تجلياتهما هما من نبع واحد، فالشعر العظيم هو انطلاقة للروح من قيودها ومن تضاريس الواقع الخانقة إلى آفاقٍ لا نهائية، حيث يمتزج الحلم بواقع جديد أكثر إشراقاً وشفافية، كما ينطلق منهج الحوار بالناس من الخنادق التي حفرت لهم، والكهوف التي حشروا فيها إلى الفضاء الإنساني العام، حيث السلام والأمن والاحترام للجميع.

واعترف البابطين بأنه في دعوته إلى الحوار لا يأتي بجديد، فتراثنا حافل بهذا النهج:

فالقرآن الكريم يحثنا على التعامل مع المختلف ديناً: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

وينظر إلى المختلف عرقاً وقوماً: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا .

ويؤكد على حتمية الاختلاف: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ .

وقال: نحن نطمح في هذا الملتقى الذي يمثل نخبة من المثقفين والسياسيين والإعلاميين والأدباء وفدوا من مختلف القوميات والبلدان، ويمثلون الأديان والمذاهب على تعددها، إلى أن نؤكد وحدة الإنسان (كلكم لآدم) في وجه كل من يعملون على تقسيمه طوليًّا أو عرضيًّا، ونأمل في أن تبقى الكلمة في وجدان الشاعر والإعلامي طاهرةً مقدسةً تجنح إلى تأكيد التآلف والتفاهم وقبول الآخر، وتسعى إلى نزع الألغام من نفوس البشر ومن أرض الواقع.

وتعزيزاً لهذا النهج الذي سلكناه في كل دوراتنا وملتقياتنا، فقد أرسينا في الدورة السابقة في سراييفو سنّة جديدة هي تكريم أحد الرموز الإنسانية التي ساهمت في إرساء قيم التفاهم والتسامح بين الشعوب، وهو صاحب السمو الملكي الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا، واليوم نحن نعتز في هذا الملتقى بالقرار الذي أصدره مجلس أمناء مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بتكريم فخامة الرئيس عبدالرحمن سوار الذهب في هذا الملتقى، لأنه الرئيس الذي خرق للمرة الأولى قاعدة «الرئيس إلى الأبد» وكان له دور كبير في تعزيز قيم السلام والتسامح والتفاهم بين مكونات المجتمع البشري، فتحية له مني ومن كل حضور هذا الملتقى.

وتتوالى كلمات الافتتاح مع جيوفانى باتيلا، النائب الأول لرئيس البرلمان الأوربي، الذي أكد أهمية الحوار، وقيمة الإبداع لإشاعة مبادئ احترام الشعوب لبعضها بعضًا.

بعد ذلك تحدث عمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، قائلاً: «كثيرةٌ هي وظائفُ الشِّعر في حياة الشعوب ، وقديمٌ هو الشِّعرُ في تاريخها، فالشعوب كثيرة تتسع باتساع الفكر ومفردات التعبير الإنساني، والشعر قديمٌ بِقِدَم النُّطق ومحاولات البحث عن أسلوب أكثر جمالية في التعبير عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس.

إن الشعر جزء من التعبير الإنساني في أيِّ مجتمعٍ من المجتمعات القديمة والحديثة، وقد كان ولا يزال يُعبّر عن تطلعات الإنسان وهمومه، والشعوب وقضاياها، وهو لا ينفصل عن تراثها وإرثها الحضاري، بكل ما فيه من الانتصارات والانكسارات ، والحروب بين الأمم والشعوب.

إن علينا أن نبحث في القواسم المشتركة في حركة الشعر، وتجلياته الإنسانية الراقية، الكاشفة عن رؤية شاملة للحياة والإنسان، وحرياته وكرامته وحقوقه في الحياة الإنسانية الكريمة، وانفعاله أو تفاعله مع قضايا الإنسان في كل مكان، وقضايا الشعوب الساعية إلى تحقيق حريتها وكرامتها.

وعلى هذا الصعيد سنجد أننا نقترب في المنطلقات الإنسانية كثيرًا مع الآخرين، لأننا جميعنا بشرٌ، نتفاعل مع الخير، نرفض الشر، ونعتقد أن الآخرين يملكون من الحقوق مثلما نملك نحن من الحقوق.

إن تاريخنا وثقافتنا تعرّضت للتشويه عند الغرب حين تركنا الآخرين يتحدثون عنّا، وعلينا أن ندرك الآن بعد توافر كل الإمكانات وبعد تطور وسائل الاتصال بشكل مذهل، أن الوقت قد حان لنتحدث نحن إلى الآخرين عن أنفسنا، وهذا يتطلّب قيام مؤسساتنا الثقافية المنتشرة في الوطن العربي والإسلامي، وفي مقدّمتها هذه المؤسسة الرائدة، مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري بتحمّل جزء من هذه المهمة الكبيرة، وهي نقل التراث الشعري العربي إلى العالم عبر الترجمات الدقيقة باللّغات الأخرى، ليكون التواصل مشهودًا من الطرفين، كما نعتقد أن من الـمُهم إقامة المنتديات المشتركة بين الشعراء العرب والشعراء من غير العرب ليستمعوا ونستمع، ما يساعد الجميع على إيجاد الوشائج الإنسانية البعيدة عن تقاطعات السياسة وتقلّباتها.

ويشهد حفل الافتتاح تكريم الرئيس السوداني الأسبق، المشير عبدالرحمن سوار الذهب، بمنحه الميدالية التكريمية للمؤسسة، لإيمانه بتداول السلطة وتركه منصبه مختاراً.

يعقب ذلك إلقاء الإعلامية والشاعرة السودانية روضة الحاج لقصيدة «العطش» بمصاحبة عازف العود العراقي الفنان صادق الجعفر، وفي المقابل يلقي الشاعر الدنماركي نيلز هاو قصيدته «زيارة من أبي»، بمصاحبة زوجته السيدة كريستينا بيوركى، على البيانو.

أولى الجلسات

وقد حملت أولى جلسات الملتقى عنوان «صورة الآخر في الشعر العربي القديم»، وأدارها الدكتور أحمد السمدان، وتحدث فيها الدكتور عبدالله التطاوي، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة، عن «حضور الآخر في الشعر العباسي»، والدكتور عبدالرزاق حسين، أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك فهد، عن «الآخر المسيحي في الشعر العربي في الأندلس وصقلية»، والدكتور أحمد فوزى الهيب، الأستاذ الجامعي السوري عن «الشعر في ظلال الحروب الصليبية».

وفي بحثه أشار الدكتور عبدالله التطاوي إلى أن وجود «الآخر» في عمق القصيدة العربية القديمة كان ضرورة ماثلة، على اختلاف درجات حضوره، وعبر مستويات التعامل معه، أو من خلاله سلبًا أو إيجابًا إلى جانب الطبيعة النوعية لتقبُّله أو التلاقي معه طبقًا لأنماط التجارب الفنية للشعراء، أو المواقف التي انطلقوا منها إلى تصوير وجداناتهم وأفكارهم ورؤاهم بما يدعم ظواهر التفاعل والتلاقي والتجانس والحوار.

لعل هذا يتطلب بدوره محاولة كشف تجليات صور ذلك «الآخر» في الشعر العباسي من خلال عدة أبعاد وقسمات وملامح يمكن رصدها في مساق الحضور السياسي للآخر، أو الحضور الحربي، أو الحضور الاجتماعي، أو الحضور الثقافي والفكري، أو الحضور الأخلاقي والديني، أو غير ذلك من توصيف صنعته حركة الشعر واستوعبته مناهج الشعراء طبقًا لإيقاعات المرحلة وعطاءات الفترة.

كما أشار التطاوي في بحثه، الذي يقع في أكثر من 75 صفحة، إلى أن العصر العباسي وشعراءه يظل لهم دور متجذر في حضور «الآخر» بحكم طبيعة الحياة العباسية، وما شهدته من تدفق تيارات الحضارات عليها وحولها من كل اتجاه على مستوى أنماط الجنسيات المشاركة في صناعة الحياة اليومية، إلى امتداد بعض المشاركات حتى في عمق الحياة السياسية.

كما يتطرق البحث إلى الآخر التركي، والنصراني واليهودي والمجوسي.

وفي بحثه يذكر الدكتور عبدالرزاق حسين أن الاتصال بالآخر المسيحي قديم في الشعر العربي قِدم الشعر نفسه، فقصة امرئ القيس في استغاثته بملك الروم لإعادة ملكه تُبين عن هذا الاتصال المبكر في الجاهلية، وعمل بعض الشعراء المترجمين في بلاط كسرى مثل عدي بن زيد العبادي، ولقيط بن يعمر الإيادي، تمثل هذا الاتصال من خلال أشعارهم التي تنبئ عن الآخر، وتتحدث عن نواياه في غزو بلاد العرب، كما في قصيدة لقيط.

ولا شكَّ أنَّ الشعر الذي قاله الشعراء الجاهليون الوثنيون في مدح ملوك المناذرة في الحيرة، وملوك الغساسنة في البصرة الذين كانوا يدينون بالنصرانية هو لونٌ من هذا الاتصال أيضاً، وبانتشار الإسلام الذي أرسى علاقة رائدة في ميدان الاختلاف الديني مع الآخر، وتأكيده على أنَّ هذه العلاقة هي علاقة مواطنة وحقوق لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوزها، بدأ هذا الاتصال يقوى ويشتد، ونلمس أثره في مشاركة فعالة من شعراء النصارى في العصر الأموي كالأخطل وغيره، وتتسع رقعة هذا الاتصال لتشمل جوانب حياتية متعددة.

والأندلس وصقلية ليستا بدعاً في ذلك، وإنْ كانت لهما خصوصية أقوى وأعمق، حيث نسبة الآخر المسيحي واضحة، ووجوده مؤثر في البؤرة والمحيط، كما أنَّ هذه العلاقة المتباينة وبخاصة العسكرية شدّاً وجذباً جعلت من إلحاح حضور الآخر المسيحي قضيةً تفرض نفسها على كل صعيد، وأظهرها الصعيد الشعري.

وإذا رحنا نبحث عن هذه العلاقة وهذا الظهور، فإنَّ استجلاء بداية هذه العلاقة يبدأ مع بداية اللقاء التاريخي بين الديانتين: الإسلام والمسيحية، ويستمر هذا اللقاء ثمانية قرون من نهاية القرن الأول حتى بداية القرن التاسع الهجري، حيث انفصل هذا اللقاء بإخراج المسلمين من هذا الصقع الجميل في الأندلس، وتبعه أو رافقه خروج من صقلية، أما في صقلية فمع وجوه التشابه الكبيرة بين البلدين، فإنَّ خصوصيةً ما تظهر في صقلية، إذ إنَّ المسلمين ظلوا في صقلية حتى بعد أن خسروا الحكم لمدة قرنين كاملين محكومين، ولكنهم كانوا يمارسون لغتهم وشعرهم، ما أدَّى إلى ظهور مختلفٍ للآخر المسيحي في شعرهم.

وتكاد بداية الفتح الإسلامي لكلا البلدين تتشابه في التعامل مع الآخر المسيحي، فكلا البلدين كان يدين بالمسيحية قبل الفتح الإسلامي، وكلا البلدين تمَّ فتحهما من خلال دعوة المسلمين لتخليص هذين الشعبين من ظلم واضطهاد حكامهما، فالأندلس كما جاء في نفح الطيب، وقع الخلاف بين لذريق ملك القوط وملك سبتة الذي على مجاز الزّقاق، فكان ما يذكر من فتح الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى بن نصير.

وتكاد صقلية تتشابه في ذلك مع الأندلس، حيث يستنجد أحد قادتها وهو «أوفيميوس» بالأغالبة ضد الرومان، ويشجعهم على فتح صقلية، وهنا تُجمِع الروايات على أنَّ أحد القادة ويدعى «فيمي» أو «أوفيميوس» هرب من صقلية، وتختلف تلك الروايات في سبب هروبه، ويوجزها «جوستاف لوبون» بقوله: «كانت جزيرة صقلية من أعمال حكومة بيزنطة، وكانت حكومة بيزنطة ترسل إليها حكامًا ليمارسوا السلطة فيها، وما حدث أَنْ عهد إلى أمير البحر «أوفيميوس» بالدفاع عنها، وما إن علم «أوفيميوس» أن قيصر بيزنطة أمر بقتله، حتى قتل حاكم صقلية ونَصَّب نفسه أميراً عليها، فثار أهلها عليه، ففر إلى إفريقيا طالباً حماية المسلمين».

ولا يتوقف التشابه عند هذين الأمرين، بل إنَّ قوة الحكم العربي في البلدين أيضاً تشابهت، فبينما كان حكام الممالك النصرانية يخضعون لعبدالرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر، كذلك كان حكام الممالك الإيطالية يخضعون لحكم حاكم صقلية من العرب في زمن القوة، والفتنة التي حصلت في الأندلس حصلت في صقلية، وما تبعها من انقسام إلى ممالك للطوائف، ومن بعد ذلك سقوط المدن، فنحن أمام حالتين متماثلتين: في حالة الصحة، وفي حالة المرض، ولكن النهاية بدت مختلفة قليلاً، ومن هنا كان لصقلية في شعرها وعلاقته بالآخر شيءٌ من التميُّز.

أما الدكتور أحمد فوزى الهيب فيرى أن الحروب الصليبية، كما سماها الغرب، أو حروب الفرنجة، كما سماها أجدادنا في تواريخهم، من أوضح صور العدوان والوحشية في تاريخ البشرية، والتي لا يشابهها إلا ما قام به الغرب في العصر الحديث من عدوان علينا، أدى إلى احتلالنا وتقسيمنا إلى دويلات متخاصمة، وإلى سلب فلسطين ليقيم اليهود عليها بمساعدته كيانًا صهيونيًا سرطانيًا يريد أن يمتد من الفرات إلى النيل. وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن كثيرًا منا، ومع الأسف، لا يريد أن يصحو أبدًا لسبب أو لآخر، وجعل بينه وبين الصحوة أمدًا بعيدًا.

ويقول: «نريد أن نرجح صنيع أجدادنا في تسميتهم تلك الحروب بـ«حروب الفرنجة» على تسمية الغرب لها في الماضي والحاضر بـ«الحروب الصليبية»، وذلك لأن مدلولات مصطلح «الصليبية» تؤدي إلى حال من الفوضى والارتباك، لأنه يحمل تناقضًا بين دلالته اللغوية وحقيقته التاريخية، فالدلالة اللغوية المستمدة من الصليب الذي صلب عيسى - عليه السلام - حسب الاعتقاد المسيحي، تؤدي إلى أنه رمز الفداء والتضحية بالنفس في سبيل الآخر، بينما الحقيقة التاريخية لتلك الحروب هي الاستعمار الاستيطاني القائم على الإثم والعدوان، والقسوة والوحشية، والقتل والإبادة، وإلغاء الآخر والتعصب الديني الأعمى الذي لم تعرفه المسيحية الحقة، كما أن هذا المصطلح أيضًا يسيء إلى المواطنين المسيحيين الذين نالهم في كثير من الأحيان ما نال مواطنيهم المسلمين من نار تلك الحروب اللعينة وبأسائها وضرّائها. وفضلًا عن ذلك أضفي هذا المصطلح، وهو الصليبية، على الأطماع الدنيوية الدنيئة المسعورة أستارًا من القدسية الدينية تخفي بها وجهها الأسود القبيح، مع أن الدين الحق منها براء.

بدأت أحداث حروب الفرنجة الفعلية سنة 488 هـ - 1095م ، وذلك بالخطبة الشهيرة التي ألقاها البابا أوربان الثاني (1088-1099م) في حشود المستمعين الذين اجتمعوا في «كليرمون» جنوبي فرنسا، وكانت هذه الخطبة خاتمة للمجمع الديني الذي عقده البابا لمناقشة أحوال الكنيسة الكاثوليكية المتردية، وقد استمع إليه، مع رجال الكهنوت، بعض كبار الأمراء والإقطاعيين والنبلاء والفرسان، فضلًا عن العامة الذين دعاهم فيها إلى شنّ حملة عسكرية مقدسة تحت راية الصليب ضد المسلمين في فلسطين والشام، وبيّنَ لهم أن هذه الدعوة ليست دعوة باسمه الشخصي، وإنما هي دعوة الربِّ.

انتهى كلام الدكتور أحمد فوزي الهيب وبقى تعليق مهم لنا، وهو أن قداسة البابا بنديكت السادس عشر، بابا الفاتيكان، وهو يرأس اجتماعاً عالمياً بشأن الأديان يوم الخميس 27 أكتوبر في مدينة سان فرانسيس بإيطاليا، اعترف بأنه يشعر بخزي عظيم لأن المسيحية استخدمت القوة خلال تاريخها الطويل، وطلب المغفرة لاستخدام كنيسته العنف في الماضي.

صورة الشرق في الشعر العالمي

أما الجلسة الثانية، التي رأسها الدكتور محمد الرميحي، فجاءت تحت عنوان «صورة الشرق في الشعر العالمي»، وفيها تحدث الباحث البريطاني الدكتور جيم وات، عن «حضور الشرق في الشعر الإنجليزي»، والفرنسي الدكتور جان كلود فيلاّن عن «العرب والمشرق في الشعر الفرنسي»، والإسباني الدكتور خوان بدرو سالا، من جامعة قرطبة، عن «حضور الشرق في الشعر الإسباني»، والروسية الدكتورة ناتاليا كيلمانين، عن «صورة الآخر في الشعر الروسي»، والبولندية الدكتورة باربارا ميخالاك، عن «الإبداعات الأدبية العربية كمصدر إلهام للشعراء البولنديين»، واختتم الباحث السوري الدكتور وضاح الخطيب الجلسة الثانية بورقته التى تحمل عنوان «على خطى الأجداد: الشعراء العرب المسيحيون المحدثون والإسلام».

وقد أوضح الدكتور جيم وات في ورقته كيف يمكن لعدد من الكتاب الرومانسيين البريطانيين، كالسير «وليام جونز»، و«روبرت ساوثي»، و«لورد بايرون»، و«لي هانت» التلاقي مع الآخر «المشرقيّ» في أعمالهم.

وأشار إلى أنه لم تكن هناك أية أيديولوجية بريطانية متآلفة في تلك الفترة، وذلك لحقبة من الزمن أواخر القرن الثامن عشر، فيما يمكن بحثه في شركة الهند الشرقية، من أحوال السكان التابعين لها.

وأضاف: «لم تكن الطريقة التي تواجه بها القصائد الرومانسية «المشرقية» قارئها «الآخر» مباشرة أو سهلة الفهم، بل كانت تتطلب اقترابًا واهتمامًا أكثر من قرائها.

كان يبدو أن شعر بايرون المشرقي، يعمل ضد التيار الثقافي، كما لو أنه كان يريد الإبقاء على إمكان وجود البدائل لسياسات الحاضر، ففي معظم كتاباته المتنوعة، أعطى بايرون عدة منظورات، أو وجهات نظر، في تلك الأيديولوجيات العرقية، والعسكرية، والتوسع الاستعماري الذي كان يبدو في تزايد.

أما الدكتور جان كلود فيرى أن الشعر العربي لم يدخل سوى نسبيًّا جدًّا في الشعر الفرنسي، سواء بسبب الترجمات غير الكافية التي أهملت أجزاء كاملة من تراث الشعر العربي وكذا من الشعر الحديث والمعاصر، أو بسبب قصور في الانفتاح الذي لا يزال يبقي الشعر العربي على درجات سلم الثقافة المنفتحة على الكون التي من عادة فرنسا الافتخار بها.

وركزت الدكتورة ناتاليا كيلمانين على أهمية الشاعر الروسي «بوشكين»، الذي يتشابه مع شاعرنا العربي أبي القاسم الشابي في أن كلاً منهما من شعراء العمر القصير، فقد رحل «بوشكين» عن عمر يناهز السابعة والثلاثين، قدم خلاله إبداعاً مثيراً للدهشة، حتى أنه اعتبر شمس القصيدة الروسية، ونبهت إلى أن حوار الثقافات يجب ألا يهيمن لمصلحة ثقافة بحيث يفقدها خصوصيتها وتميزها.

ورصدت الدكتورة باربارا ميخالاك تأثير الإبداعات الأدبية العربية في مؤلفات الشعراء والكتّاب البولنديين التي ما زالت مستمرة حتى القرن العشرين. وذكرت أن الأدب العربي دخل إلى بولندا بطريقة غير مباشرة من خلال أوربا الغربية وخصوصًا فرنسا وإيطاليا، وذلك نتيجة للعلاقات الثقافية النامية التي تربط بولندا بهذين البلدين، وكذلك نتيجة رحلات أبناء بولندا إلى الخارج، واهتمامات المبدعين منهم خاصة، ورأت أن التوسع الجغرافي للعرب والاحتكاكات السياسية والثقافية وأسفار الرحالة من أهم العناصر التي أدت إلى وصول الموضوعات والأجناس والأشكال الأدبية العربية إلى القارة الأوربية ومن ضمنها بولندا، كما أشارت الباحثة إلى أن الموضوعات الأدبية الشرقية قد تسربت إلى أدب الباروك الذي كان أول ظهور له في القرن السادس عشر في أوربا وبعد ذلك تفاعل وتغلغل في أوربا بصورة كاملة واستمر حتى القرن الثامن عشر.

كما أشارت إلى اهتمام «جيفوسكي» (1785-1831) بالاستشراق حيث تعرف إلى الأدب العربي، وقد أسس وموّل أول مجلة استشراقية في العالم «Fundgruben des Orientes» وذلك في أعوام (1809-1818)، حيث مكث عدة سنوات في سورية وفي شبه الجزيرة العربية، وألف كتابًا بعنوان «Sur les chevaux orientaux» وهو مخطوطة ما زالت موجودة حتى الآن في المكتبة الوطنية في وارسو. وله أيضًا كتاب «ألحان عربية» وهي أغانٍ عناصرها وموضوعاتها عربية.

وأكد الدكتور خوان بدرو سالا أن أثر الشرق على أدباء اللغة الإسبانية عميق بعيد الجذور ويتجلّى في صور عديدة غنية بتنوعها وفريدة في أشكالها، فالموضوعات والشخصيات والاستعارات والرموز الشرقية تشكل جزءًا مهما من التقاليد الأدبية الإسبانية في الشعر والنثر. فقد استخدم أدباء اللغة الإسبانية على مرّ القرون في اللغة والأدب العديد من العناصر الجغرافية والثقافية والدينية والسياسية المستوحاة من الشرق.

ورفض الدكتور وضاح الخطيب افتراض أن العرب المسلمين والمسيحيين على خصومة مطبقة، وقال إن المؤلفين المسيحيين واجهوا مهمتين؛ الأولى المشاركة في تشكيل الحداثة العربية الجديدة، والثانية مقاومة المحاولات من قبل قوى خارجية حاولت استدراج ولائهم كأقلية.

وأوضح الخطيب أن الشعراء في المقتطفات الشعرية قدموا سلسلة واضحة من التمثيل للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والقرآن كنص مشكل لفردية العرب ووعيهم، وتفرد التاريخ المشترك لكل العرب، والمصير المشترك لهم.

صورة الآخر في الشعر العربي الحديث

ورأست الدكتورة رفيعة غباش الجلسة الثالثة التي حملت عنوان «صورة الآخر في الشعر العربي الحديث»، وشارك فيها كل من: فخري صالح من الأردن بورقته «الاغتراب والانتماء في شعر المهاجر الأمريكي»، والدكتورة سعاد عبدالوهاب من الكويت بورقتها «حضورالآخر في الشعر العربي الحديث .. المدينة»، والدكتور يوسف نوفل من مصر بورقته «رؤية الآخر في مرآة الشخصيات والنماذج الإنسانية العالمية في الشعر العربى الحديث».

وأشار فخري صالح إلى أن حركة الشعر المهجري، والأدب المهجري عمومًا تعد ثمرة واحدة من النّزوحات العربية الكبرى، السورية - اللبنانية على وجه الخصوص، في تجاه العالم الجديد، بشقّيه الأمريكي الشمالي والأمريكي الجنوبي، منتجة تيارين عريضين في حركة الشعر العربي الحديث ممثلين في الرابطة القلمية، التي نشأت في المهجر الشمالي، والعصبة الأندلسية، التي نشأت في المهجر الجنوبي. ومع أن بعضًا من الباحثين والنقاد الذين كتبوا عن هذين التيارين ينظرون بعين الرضا إلى نتاج الرابطة القلمية، بسبب من تمثّل بعض شعرائها للشعر الأمريكي، إلا أن صيغ تلقي هذين التيارين لتجربة الغربة والمنفى تبدو متقاربة. فقد شكّلت الهجرة السورية واللبنانية المتواصلة، هربًا من الظروف الاقتصادية الصعبة، أو بسبب الاضطهاد السياسي والديني الذي عانى منه أهل بلاد الشام في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني مهادًا لنشوء هذين التيارين الشعريّين الكبيرين اللذين أثّرا تأثيرًا واضحًا في تطوير القصيدة العربية الحديثة، وحملا إلى الشعر العربي في القرن العشرين تأثيرات الرومانتيكية الإنجليزية والأمريكية وأشاعا الصوت الفردي؛ النّبويّ حينًا كما في كتابات جبران خليل جبران، والحكمي التأملي كما في شعر إيليا أبي ماضي حينًا آخر. لكن هذه الحركة الشعرية الجديدة، التي تلقحت بتأثيرات شعرية ثقافية أمريكية، كما كان واضحًا في كتابات شعراء الرابطة القلمية، أو أنها بقيت تدور في فلك المنجز الشعري العربي الكلاسيكي، كما في كتابات شعراء العصبة الأندلسية، تشكّلت كرد فعل على الاصطدام بالعالم الجديد، سواء أكان ذلك في صيغة اعتناق قيم العالم الجديد وتصوراته الثقافية، أم جاء على هيئة استعادة للموروث وقيم الماضي ومعتقدات مسقط الرأس الذي انفصل عنه هؤلاء الشعراء بالجسد وظلوا على تواصل معه بالفكر والرؤيتين الثقافية والشعرية. وكما يشير شموئيل موريه فقد مرّ «هؤلاء الشعراء في وطنهم الجديد بتجارب قاسية، عانوا من الشوق والحنين إلى الوطن، ومنوا بالإخفاق وخيبة الأمل في حياتهم اليومية، وواجهوا عالمًا مختلفًا كل الاختلاف عما كانت مدارس الإرساليات المسيحية قد أعدتهم له من قبل ونعموا بالحرية في بلد يموج بالحركة والتغير المستمر، على نحو اضطروا معه إلى أن يرتفعوا إلى مستواه، وأحسوا بالحاجة إلى التعبير عن عالمهم الداخلي وهو ما عنى تركيزًا على تجلية ثيمات الحنين والغربة والانتماء إلى الوطن الأم، والتعبير، صراحةً أو ضمنًا، عن رغبتهم في العودة إلى الوطن تخلصًا من حنين مقيم في النفس والجسد.

وفي بحثها ذكرت الدكتورة سعاد عبدالوهاب أن علاقة قوية تربط الشعر بالبدائية، وبالبداوة، إذ تستجيب الأفعال والأقوال لدوافع الفطرة بأقل قدر من قيود العقل، أو ضوابط المجتمع، أو حتى ملاءمة الواقع. لم تكن «المدينة» في الحسبان، العصور القديمة عرفت المدن، ولكن من الخطأ أن نتصور روما، أو أثينا أو الإسكندرية في العصور القديمة على صورة ما هي عليه الآن، أو حتى منذ خمسمائة عام، «المدينة» ليست تجمعًا بشريًا وامتدادًا من البيوت بقدر ما هي طريقة في الحياة والإنتاج ونمط في العلاقات، وهذا هو ما يمثل عنصر «الضغط» على الشاعر ويشعره بالاغتراب، بأنه «آخر» في المدينة الحديثة، إنه لا ينتمي إليها حتى وإن كان مولودًا بها.

وقالت: «يمكننا أن نعثر على إشارات قديمة في نقدنا العربيّ المبكر، تؤكد على العلاقة بين الشعر والحياة الصحراوية (البداوة)، فعندما صنع محمد بن سلام الجمحي (توفي 232 هـ) كتابه: «طبقات فحول الشعراء» قسّم شعراء العصر الجاهلي إلى عشر طبقات، وجميعهم يعيشون في البادية، في بيوت الوبر أو الشَّعر، وفصَّل بينهم وبين شعراء القرى (المدن) وكانت بعض هذه القرى - على قلتها - لا يعرف بها شاعر!! وهذا يدل على أن هذا الناقد المبكر (ابن سلام) رأى أن الشعر العربي - في تياره الأساسي - صادر عن البادية ومعبِّر عن روحها وحياتها ورؤيتها، وأن تجسيد هذه الحياة البدوية هو مصدر صلابته وتميزه، ومن هنا كانت العبارة الشهيرة المنسوبة لأبي عمرو بن العلاء، الساخرة من شعر المدن: «هذا شعر حضري إذا أنجد اقشعّر»، ويلتقي المعنى النقدي في هذه العبارة المأثورة بإشارة المتنبي في انحيازه إلى البادية.

هذا الانحياز إلى المكان أو المهاد الطبيعي ليس خاصًا بالعصر الجاهلي، وليس منحصرًا في العرب، ففي بداية القرن التاسع عشر اختلف شاعران إنجليزيان (رومانتيكيان) حول مفهوم الشعر ومصادر تجربة الشاعر ولغته وصوره. الشاعران: ورودزوورث وكولردج، كانا صديقين، اتفقا على إصدار ديوان مشترك، هو الذي صدر تحت عنوان: Lyrical Ballads وترجم العنوان إلى: الأغاني الرعوية، والأقاصيص الشعرية الوجدانية، وكانت الخطة التي قسّما العمل بموجبها أن اختار ورودزوورث أن يذهب إلى الريف ويخالط الرعيان في الجبال، ويأخذ عنهم موضوعات قصائده وأفكارها ولغتها على أن يرتفع بها إلى مستوى التذوق الشعري، في حين اختار كولردج أن يقرأ الأساطير والفلسفات، يستمد منها موضوعات قصائده ولغتها، على أن ينزل بها إلى مستوى التذوق الشعري. وهكذا يلتقيان في منتصف المسافة بين الفكر البسيط جدًّا، والفكر المتسامي جدًّا.

وفي بحثه أشار الدكتور يوسف نوفل إلى أن مفهوم المعاصر «للآخر» تجاه «الأنا» تحدد في جدلية العلاقة بين طرفين تتنوع مصالح أفراد كل منهما، تتكامل وتتناغم، أو تتضارب وتتناقض، بما يعني التفاعل الخلاّق، أو التنافر الحاد، دون شرط يحتّم أنْ يكون الموقف صراعًا، أو تصادمًا.

آفاق التواصل على مائدة الملتقى

واختتمت الجلسات البحثية للملتقى بمائدة مستديرة رأسها الدكتور عبدالله المهنا، ودارت حول «آفاق التواصل»، وارتحال الشعراء شرقاً وغرباً، وقضايا ترجمة الشعر بين المغامرة والتواصل، والأدب المقارن بين التأثير والتأثر. وقد ضمت هذه المائدة الدكاترة: محمود الربيعى، الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وأحمد درويش، الأستاذ بجامعة قطر، ومارتون فالوسي، وزهرة حسين، الأستاذة بجامعة الكويت، وجوكو سكيناري، عضو البرلمان الفنلندي. وقد أفاضت الدكتورة زهرة حسين في الحديث عن الأدب المقارن وخرائطه وقضاياه ومدارسه الفرنسية والأمريكية، في حين تحدث الدكتور أحمد درويش عن ترجمة الشعر من خلال تجربته الشخصية في نقل العديد من القصائد الفرنسية إلى العربية، منوهاً بالمآزق التي يتعرض لها المترجم عندما يسعى إلى نقل روح القصيدة إلى متلق جديد، وبين أن للترجمة عدداً من المستويات، منها: ترجمة الشعر إلى النثر، وترجمة الشعر نظماً، وترجمة الشعر، شعراً، معرفاً الترجمة، بأنها: القدرة على أن يستقبل المتلقي الرسالة المماثلة للنص الأصلي، بمعنى تلقي الشكل والمضمون بما ينطويان عليه من موسيقى ووزن وأسلوب.

ومن خلال خبرته الطويلة مع تدريس الأدب والترجمة، تحدث الدكتور محمود الربيعي عن صعوبة ترجمة الشعر، مستشهداً بمقولة الجاحظ عن استحالة ترجمة القصيدة، مستعرضاً تجارب غربية في ترجمة رباعيات الخيام، وتساءل الدكتور الربيعي عن سر صعوبة ترجمة الشعر، لافتاً إلى خصوصيته التي تقوم على الموسيقى، من جهة، والمجاز من جهة أخرى، مبيناً أن الموسيقى مثل الضوء لا يمكن ترجمتها، وأن المجاز يختلف من ثقافة إلى أخرى، واقترح ألا تكون الترجمة فردية، وإنما تشاركية بين عدد من الشعراء من اللغة الأم واللغة المترجم لها، ومترجم عارف بخصوصية اللغتين والثقافتين.

وذكر الدكتور مارتون فالوسي أن المترجم يجب ألا يتوقف عند حدود اللغة أثناء الترجمة، إنما عليه أن يقارب بين الثقافتين.

تحية لسالم.. وسلاّم

ومن الجدير بالذكر أن هذا الملتقى كشف عن قدرات هائلة لمجموعة من المترجمين الذين نقلوا إلى العربية قصائد من لغات شتى، وأبرزهم الشاعر السكندري عبد المنعم سالم الذي نجح في نفي مقولة أن الترجمة خيانة للنص الأصلي، عندما أخضع موهبته الشعرية، وعشقه للإنجليزية لإنتاج ترجمات عربية تحمل روح الشعر في لغته الأصلية.

ومما لفتني أيضاً قيام شاعرنا رفعت سلام، الذي أمتعني بترجمته وتقديمه للأعمال الكاملة لـ «بودلير»، بإعداد سفر صدر في هذا الملتقى بعنوان «أنا الآخر»، ضم مختارات مترجمة إلى العربية من قصائد: ريتسوس، بوشكين، طاغور، لوركا، رامبو، كفافيس، ليرمونتوف، وغيرهم من شعراء العالم الذين ينشدون حرية الأوطان والكف عن الغي، والظلم، وقهر البشر، إيماناً منهم بقدرة الشعر على نشر ثقافة التعايش الجميل بين البشر.

حياة جديدة للقصيدة

ولأن الشعر هو البطل في هذا الحدث، فقد التقى محبوه، في «دبي» بشعراء العالم في ثلاث أمسيات وظهريات شعرية، فضلاً عن القصائد التي تغنت بها المطربة اللبنانية، غادة شبير: وقد حفلت الظهيرة والأمسية الشعرية بأصوات من الشباب، والكبار تغنت باللسان العربي، وبالعديد من اللغات، وقد أدار إحداها الدكتور خالد الشايجي، وكان حضور الشاعرة الكويتية الشابة دلال صالح البارود لافتاً لانتباه الجمهور، لاسيما كبار النقاد والشعراء العرب الذين استعادوها عدة مرات وهي تلقي قصيدتها «مستهزئاً كحلى»، ومن مصر كان الشاعر ياسر أنور الذي ألقى قصيدة «آخر أخبار ليلى العامرية»، والتونسي المنصف المزغنى الذي استعاد لياقته في التواصل مع جمهوره بحسه الساخر وقصائده القصار المغموسة في هم اللحظة، والشاعر العراقي حسين قاصد الذي ألقى قصائده العمودية، كما أنشدت الشاعرة الجزائرية حنين عمر قصيدة «أبحث عن فمي»، أما الشاعر الأمريكي براين تيرنر فقد قرأ قصائد من وحي تجربته كجندي في العراق، وفيها أكد رفض الشعراء لمبدأ الحرب وسلب حريات الشعوب، كما ألقى الشاعر العراقي فارس حرام قصيدته «عنه وعن أمه» الفائزة بجائزة البابطين في دورة 2010، وتبعه مواطنه الشاعر عمر عناز بقصيدة «مفترق»، وكان ختام الظهيرة الشعرية مع السنغافوري كيربال سينغ.

ومع حفل ختام فعاليات الملتقى كانت آخر الأمسيات الشعرية التي قدمت: الشاعرة الكردية كولالة نوري، لتلقي قصيدتها «الجسور التي لا تبلغ مدى»، والشاعر العراقي محمود الدليمي، فيما قرأت الشاعرة الفنلندية توا فورستروم قصيدتها «تموج الثلوج»، وألقى الشاعر المصري حسن شهاب الدين قصيدته «أبجدية المصباح»، وعادت الشاعرة الكويتية دلال البارود لإلقاء قصائدها التي استحسنها الضيوف.

وقرأ الشاعر البريطاني بول جيمر قصيدته «مايا أنجيلو»، وتلا الشاعر الأردني محمد تركي حجازي قصيدة «دعوة للنقاء»، وقرأ الشاعر الدنماركي نيلس هاو مقاطع من قصائده، واختتم الأمسية الشاعر السعودي جاسم الصحيح. ثم جاء البيان الختامي الذي ألقاه الدكتور خليفة الوقيان:

المشاركون في ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي» الذي دعت إليه ونظمته «مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري»، الذي حضره نخبة من الأدباء والكتاب والشعراء والمفكرين من القارات الخمس، وقدمت فيه البحوث المعمقة حول الشعر والتآلف الإنساني، يؤكدون بعد تدارسهم للأوضاع الإقليمية والعالمية، أن العالم يمر بمرحلة صعبة من التغيير، تتجلّى مظاهره في الحراك الشعبي العربي الكبير، وفي الأزمات الدولية المتفجرة، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وأن مثل هذه الأزمات تأتي كما هو متوقع بتوترات هيكلية قد تقود إلى ما لا تحمد عقباه من اندلاع نزاعات عنيفة بين البشر. ويؤكدون أن البشرية لا يمكن أن تتقدم إلا بإعلاء السلام العادل والمحبة والتآلف بين الشعوب وإقامة الحوار البناء. وهو أمر يدعو إليه الشعر العربي والعالمي قاطبة.

إن حوار الحضارات والثقافات وتفهم الآخر والتوزيع السليم والعادل للقوة الاقتصادية والسياسية بين الشعوب، هو مخرج أساس في سبيل تخطي هذه العقبات التي تواجه البشرية اليوم.

من هنا، فإن المجتمعين في ملتقى «الشعر من أجل التعايش السلمي» قد أجمعت رؤاهم على أهمية السلام العادل والتعاون والتآزر بين الشعوب، وأهمية الحوار البناء الذي يقود إلى حل الأزمات الهيكلية التي تواجه بني البشر في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وهو تعاون يأخذ بالحسبان مصالح الشعوب وتطلعاتها، كما يأخذ بالحسبان البعد الإنساني الذي تدعو إليه الرسالات السماوية ويدعو إليه الدين الإسلامي الحنيف دون تهميش أو ضيم. ويهيب المجتمعون بالقيادات السياسية وقيادات المجتمع المدني وبالشباب أمل المستقبل أن يكون السلم والتعاون وفهم الآخر، دستور العمل العام لدى هذه الجماعات والمجتمعات، من أجل تجنيب الإنسانية الشرور المحدقة، المتمثلة في اللجوء إلى العنف لحل المشكلات العالقة سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي.

ويرى المجتمعون أن حرية الإنسان هي جزء لا يتجزأ من حرية الأوطان، فكلاهما مكمل للآخر، ولا تنتعش الحرية إلا باحترام الآخر وتفهم مطالبه الحقّة، وكلّما اتسع نطاق الحرية اتسع نطاق العدل، وتحقق للإنسان الرفاه. إن المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحيط بالعالم هي مخاطر حقيقية، خلفت في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين حروبًا شعواء في أكثر من مكان من هذا العالم وخاصة في منطقة المشرق العربي. وقد آن الأوان لرفع الصوت عاليًا من جميع أهل الضمير لتأكيد أن الطريق إلى الغد هو طريق مفروش بأزهار التفاهم لا بمواسير البنادق، إن احترام كرامة الإنسان الذي كرمه الله عز وجل هو أكثر الطرق سلامة للوصول إلى حالة من الرضا والعدل والأمان».
----------------------------------
* كاتب من مصر.

 

متابعة: مصطفي عبدالله*