الإنترنت: حديث النعم والنقم

الإنترنت: حديث النعم والنقم
        

          في نهاية الستينيات, تم إنشاء شبكة الإنترنت ضماناً لسرعة الاتصالات بين مراكز البحوث الأمريكية في حال قيام الخصم السوفييتي آنذاك بضربة نووية مفاجئة, وبعد زهاء ربع قرن من إنشائها تواتر القول بأن هذه الشبكة نفسها وليدة الحرب الباردة ستهدي العالم إلى ثقافة جديدة, ثقافة الإنترنت Cyberculture, التي ستؤدي بدورها إلى ثقافة عالمية يسودها السلام الشامل والدائم, تلك واحدة من متناقضاتها, وإليك أخرى, لقد حرصت الإنترنت في بدايتها على استقلاليتها ولامركزيتها وحرية تبادل المعلومات من خلالها ورفض القائمون عليها رفضاً قاطعاً أن تستغل لأغراض تجارية أو شبه تجارية تماماً كما فعل أهل الإذاعة والتليفزيون في بداية عهدهم, ولم يدم الحال طويلاً قبل أن تتحول الشبكة إلى ساحة للتجارة الإلكترونية e-commerce وبوق إعلانية لمن يرعى كلفة تشغيلها وتطويرها, وننهي بثالثة, لقد استخدم العلماء الشبكة كحرم أكاديمي لتبادل المعلومات العلمية فيما بينهم حتى اكتشفت صناعة الجنس فيه سوقها المثلى, فراحت تدنّس أرجاء هذا الحرم بكل ما هو فاضح ومبتذل, أحسب أن هذه العينة من المتناقضات الصارخة - وعلى شاكلتها الكثير - تكفي لتأكيد حاجتنا لحديث محايد عن الإنترنت يتناول إيجابياتها وسلبياتها, حيث يتجاوز خطاب الهوس بها الذي يروّجه عادة التكنوقراط وأصحاب المصلحة زاعمين أنها - أي الإنترنت - ولا شيء غيرها هي العلاج الناجع لجميع مشاكلنا: سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية.

وداعاً للتدرّج

          ولتكن نقطة انطلاقنا لحديث المتناقضات هذا وقفة قصيرة ننظر خلالها إلى تاريخ التطور التكنولوجي, لقد شهدت البشرية على مر العصور سلسلة متصلة من الثورات العلمية والتكنولوجية يحدوها الأمل في كل جولة منها إلى مزيد من الاستنارة والرفاهية والعدالة, وكم هي عسيرة المنال تلك الآمال التي سنظل نطاردها, فما إن نظن أننا نقترب منـها حتى نراهـا تتـباعد عنّا, فها هي البشرية في مطلع ألفيتها الثالثة تجر وراءها تاريخاً مليئاً بتجارب النجاح والفشل والبناء والدمار والازدهار والانحدار, ها هي تواجه برصيدها التاريخي هذا أكثر معاركها الحضارية ضراوة, ألا وهي معركة الانتقال إلى مجتمع المعلومات, لقد ولى إلى الأبد زمن التقدم التدريجي المنتظم ذي الطابع الخطي المستمر Linear بعد أن باتت حالياً عملية التحوّل المجتمعي, بفعل التكنولوجيا الحديثة عموماً وتكنولوجيا المعلومات بصفة خاصة, سلسلة من النقلات أو القفزات النوعية الحادة ذات الطابع المتقطع التي يصعب التكهّن بقادمها استناداً إلى سابقها. لقد أوضح لنا عالم الديناميكا الحرارية إىليا بروجوجين الحائز جائزة نوبل أن التغير الذي يطرأ على منظومة المجتمع التي تتسم بدرجة عالية من التعقد يختلف اختلافاً جوهرياً من حيث مساره وطابعه عن ذلك للمنظومات البسيطة المغلقة, مثلها في ذلك مثل جميع النظم المعقدة المفتوحة التي تتفاعل أخذاً وعطاء مع البيئة المحيطة خارجها, فهذا التغير يسلك سلوكاً غير خطي   non-linear يصعب التنبؤ به, بقول آخر إن هذه المنظومات قادرة دوماً على أن تفاجئنا بما لم يكن في الحسبان, رغم كل هذه العتمة التي تغلف مستقبل البشرية, ورغم خيبة أمل مَن سبقوهم من أصحاب التنبؤات التكنولوجية, مازال هناك من يتجاسر مدّعياً أن لديه البصيرة الكافية التي تبدد تلك العتمة, و (كذب المنجمون) ولو تسلحوا في جولتهم الحالية بأدق النماذج الإحصائية وآخر إنجازات فلسفة العلم وتاريخ التكنولوجيا وعلوم المستقبليات, وليس أمام البشرية كعهدنا بها وهي تواجه تحوّلاتها المصيرية إلا أن تعتلي موقعها مرة أخرى على أرجوحة التفاؤل والتشاؤم, تتنازعها من جانب أحلام المبشّرين التكنوقراط وسيناريوهاتهم الوردية المسرفة في تفاؤلها تعد بيئة أفضل وحياة أكثر ث راء, وعالم أكثر وئاماً واتساقاً, ومن جانب آخر, يروعها حديث الكوارث وقرب النهاية التي ينذر بها الكثيرون من فلاسفة وعلماء اجتماع واقتصاديين وتربويين وإعلاميين وشعراء وفنانين يحذرون من الآثار السلبية للتقدم التكنولوجي معصوب العينين, والتي من أبرزها تدهور البنية, وزيادة الصدع في بيئة المجتمع الإنساني وتفاقم مشاكله الاجتماعية والنفسية.

مداهمة في زمن اللااستقرار

          لم تكن أرجوحة التفاؤل والتشاؤم تلك أكثر تأرجحاً واضطراباً بقدر ما هي عليه الآن في مرحلة الانتقال إلى مجتمع المعلومات, ويمكن إرجاع ذلك لأسباب عدّة من أهمها:

          (أ) الاختلاف الجوهري لطبيعة تكنولوجيا المعلومات وما سبقها من تكنولوجيات, وذلك نظراً لتعاملها مع جميع عناصر المجتمع الإنساني المادية وغير المادية, وهو ماجعل من تكنولوجيا المعلومات قاسماً مشتركاً في جميع الأنشطة الإنسانية سواء زراعية أم صناعية, سياسية أم اقتصادية, عسكرية أم ثقافية, إعلامية أم تعليمية.

          (ب) كثرة الاحتمالات والبدائل المطروحة كنتيجة للمرونة الهائلة التي تتميز بها تكنولوجيا المعلومات والقدرات الفائقة التي تتيحها, وما أقساه ذلك التحدي الذي يواجهه حالياً المنظرون الاجتماعيون: سياسيون واقتصاديون وثقافيون إزاء كمّ الظواهر المستحدثة التي يطرحها مجتمع المعلومات, والذي يتجاوز قطعاً الفكر الاجتماعي الفلسفي التقليدي, وما الجدل الدائر حالياً حول الحداثة وما بعدها, والعولمة والعولمة المضادة إلا قمة جبل الجليد, مجرد مبادرات متواضعة لتناول هذه الإشكالية بالغة الصعوبة التي شبهها البعض كمن يمارس لعبة شطرنج جديدة ذات ألف قطعة.

          (ج) ان الثورة التكنولوجية الجديدة قد داهمت عالمنا وهو يشغي بالصراعات السياسية والاقتصادية والعرقية, والخريطة الجيوبولتيكية مثلها مثل الخريطة الجيومعرفية أبعد ما تكون عن الاستقرار, وعليه فإن إقامة المجتمع المعلوماتي الجديد هو بمنزلة بناء على زائغ يصعب تجميده أو حتى تحديد معالمه ولو بصورة تقريبية.

          (د) اللقاء المثير بين تكنولوجيا المعلومات والميكروبيولوجي الحديث وهندسته الوراثية, وهو اللقاء الذي أزعم - مستخدماً مصطلح أهل الوراثة - أنه (الحلزون المزدوج double helix) في أقصى صوره, حيث يتضافر (الرمزي) مع (البيولوجي) في مزيج علمي تكنولوجي لا يمكن لأحد الإلمام بجوانبه أو توقع احتمالاته, ولكن ما من شك أن اقتراب التكنولوجيا للمناطق الحميمة من عقل الإنسان وخلاياه قد أبرز الجوانب الأخلاقية للخطاب التكنولوجي حتى نادى البعض بضرورة اعتبار التكنولوجيا فرعاً من فروع فلسفة الأخلاق.

          (هـ) أخيراً وليس آخراً, لم تعد تنطلي على أحد مزاعم التكنوقراط في أن حل مشاكل التكنولوجيا هو مزيد من التكنولوجيا, لقد وصل الأمر ببعضهم إلى القول بأن تكنولوجيا المعلومات قادرة على امتصاص, أو عكس الآثار الجانبية التي خلّفها ما سبقها من تكنولوجيات, وهو الموقف الفكري الذي يتناقض بصورة أساسية مع حقائق تاريخ التطور التقني التي أكّدت أن الآثار الجانبية للتطبيق التكنولوجي لا تظهر إلا بعد فترة طويلة, فبعد ما يزيد على نصف قرن من تطبيق التكنولوجيا الصناعية على نطاق واسع اتضح للجميع الأضرار الجسام التي نجمت عنها من مشاكل بيئية واقتصادية واجتماعية ونفسية, لقد أيقن الجميع أن التقدم التكنولوجي مقطوع الصلة بالسياق الاجتماعي وذو كلفة باهظة, ولم يعد بالقطع ضماناً كافياً لإحداث تنمية حقيقية قابلة للاستمرار والاستقرار.

مالها وما عليها

          والآن ننتقل إلى الحديث عن شبكة الإنترنت ما لها وما عليها بصفتها ذروة التكنولوجيا المعلوماتية وأخطر ظواهرها الاقتصادية والثقافية على الإطلاق, لقد انصهرت الإنترنت في كيان المجتمع الحديث: أفراده ومؤسساته, مصانعه ومكاتبه, منازله ومدارسه, نظمه ومنظماته, سياساته وثقافته, وتشير الدلائل إلى أن الحياة عمّا قريب ستصبح موزّعة بين عالم واقعي Real تحكمه القوانين والقيود والأعراف, وفضاء معلوماتي Cyberspace مترامي الأطراف لم تحدد بعد ماهيته أو ديموغرافيته, فضاء يزخر بعوالم غير واقعية Virtual  (خائلية) تبدو لنا وكأنها واقع, بل تسلك أحياناً سلوكاً مناظراً لذلك في عالم الواقع, فمن خلال عوالم الإنترنت الخائلية يمكننا أن نتسوّق ونزور المتاحف والمعارض ونتحاور مع البعيد, وندفع بحضورنا عبر العالم على اتساعه ونحن قابعون في أماكننا لنشارك الآخرين أعمالهم وأحداثهم ومنتدياتهم.

          وعلى ضوء ما أسلفناه ووفقاً لآراء الكثيرين, علينا أن نسلم بأن الإنترنت محفوفة بالمخاطر بقدر ما تبشّر به من آمال, وعلينا أن نعي بكل وضوح تلك المخاطر, فكلفة إغفالنا لها ستكون باهظة للغاية, فهي تمسّ وجودنا ككل: أجسادنا وعقولنا, وثقافتنا ونظمنا وعملنا ولهونا, وإليك شريحة من قائمة ثنائيات الآمال والمخاطر التي تنطوي عليها هذه الشبكة الفريدة نتبعها باستعراض موجز لكل منها, ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن هذه القائمة دائمة التوسع, فهي تستضيف كل يوم تناقضاً جديداً.

ديمقراطية أم مزيد من السيطرة؟

          لقد بات جلياً أن الديمقراطية السياسية السائدة حالياً ما هي إلا وهم زائف, فكم هي بعيدة عن تلك التي شهدتها ساحات أثينا القديمة, وما بشرت بها مدنها الفاضلة, إن دور المواطن في ظل هذه الديمقراطية الصورية ينتهي ما إن يسقط بطاقة اختياره في صناديق الانتخاب والتي ساق إليها بعد أن يكون الإعلام السياسي قد فعل بعقله ما فعل, ناهيك عمّا نعرفه جميعاً فيما يخص نزاهة العملية الانتخابية في كثير من البلدان, هناك من يزعم أن الإنترنت ستسقط الحلقات الوسيطة بين الحكام ومواطنيهم محققة بذلك نوعاً جديداً من الديمقراطية المباشرة التي يشارك فيها الجميع في عملية اتخاذ القرار دون حاجة إلى تمثيل نيابي توكل إليه هذه المهمة, في المقابل هناك مَن يرى في ذلك ضرباً من الفوضى سيؤدي بدوره إلى مزيد من تدخل الحكومة من أجل السيطرة على جحافل جماهيرها, خاصة أن الإنترنت ستوفر الوسائل العملية الفعّالة لإحكام عملية السيطرة تلك, حيث ستسجل للمواطنين مواقفهم وأفعالهم لتكشف بالتالي عن أهوائهم السياسية والثقافية والعقائدية مما يجعلهم أكثر عرضة لهذه الرقابة الإلكترونية التي لا تغفو لها عين.

عدالة اجتماعية أم استقطاب اجتماعي؟

          هناك مَن يقول إن الإنترنت بإتاحتها المعلومات والمعرفة (أهم موارد التنمية) للجميع على حد سواء, ستوفر مناخاً أفضل لتحقيق العدالة الاجتماعية وتمنح فرصاً متكافئة للتعليم والتعلم مما يضيق الهوة الفاصلة بين العالم النامي والعالم المتقدم ويقلل الفوارق بين الفئات الاجتماعية المختلفة, على النقيض من ذلك, هناك مَن يؤكد أن الإنترنت ستزيد من حدّة الاستقطاب الاجتماعي بين مَن يملك ومَن لا يملك, وستؤدي إلى ظهور نخبة جديدة تجمع بين القوة المادية لرأس المال والقوة الرمزية المتمثلة في المعارف والمعلومات, إن المعلومات عبر الإنترنت في رأي هؤلاء لن تظل حرّة طليقة مشاعة للجميع وذلك بعد أن أدركت القوى الرأسمالية التقليدية المغزى الاقتصادي للموارد الرمزية وهم مصممون على أن يحيلوا المعلومات والثقافة إلى سلع تُباع وتُشترى وفقاً لقانون العرض والطلب.

          على صعيد آخر, هل ستؤدي الإنترنت إلى علاقة أكثر توازناً بين الرجل والمرأة أم ستزيد من اختلال هذه العلاقة لصالح الرجل بحكم كونه أكثر نفاذاً لشبكة الإنترنت, ودعنا هنا نستدرج هذا التساؤل إلى واقعنا الخاص بدعوة المرأة العربية التي فرضت عليها الظروف أن تبقى في منزلها لرعاية أسرتها إلى أن ترى في الإنترنت منفذاً للمعرفة والعالم على اتساعه, وربما يشجعها على القيام بذلك ما تشير إليه إحصاءات الإنترنت في المجتمع الأمريكي من أن استخدام الإناث لها سيفوق ذلك للذكور بحلول عام 2002.

ألفة أم غربة؟

          تنتشر خلال الإنترنت حالياً حلقات النقاش وجماعات الاهتمام المشترك التي تربط البشر عالمياً, وهو ما يُعرف بالجماعات الخائلية Virtual Comminities, ويتم حالياً التواصل من خلال تبادل الرسائل المكتوبة, ويمكن أيضاً إضافة عنصري الصوت والصورة, يرى البعض في ذلك ثورة حقيقية في عملية التواصل الإنساني, إنها على حد قولهم شفاهة عصر المعلومات, وقد تخلصت من قيود المكان وقيود الجنس (ذكر أم أنثى) واللون والفوارق الاجتماعية الأخرى لتطلق يد الفرد في إقامة شبكة علاقاته على اتساع العالم بأسره, على الطرف النقيض من هذه النظرة المتفائلة, هناك مَن يشكك في جدوى هذا النوع من التواصل, فشتان الفرق بين التواصل الحيّ المليء بالانفعالات والإيماءات, وذلك التواصل البارد من خلال الوسيط الإلكتروني الذي يحدّ من قدرة الفرد على نقل أفكاره وأحاسيسه, علاوة على كونه عرضة للخداع والتنكّر وإمكان استغلاله لأغراض غير مشروعة, ومعايشة الظروف نفسها, ويطرح هؤلاء المتشككون تساؤلاً لا يخلو من وجاهة مؤداه: كيف لإنسان هذا العصر أن يتواصل مع غيره عن بعد من خلال أداته الجديدة, في حين أنه قد فقد القدرة على التواصل عن قرب مع الجار والشريك والزميل, ألا يمكن أن يؤدي ذلك الإبحار في الفضاء المعلوماتي, أو الانغلاق بداخله, إلى انعزال الفرد عن واقعه ومجتمعه وعشيرته الفعلية تحت وهم الانتماء إلى عشائر الإنترنت التي تتشابه عليه وكأنها بديلة الواقع, بقول آخر, هل التواصل خلال الإنترنت منفذ لإثراء الفرد أم قوقعة تعفيه من التصدي للواقع أو مهرب لتفريغ شحنة إحباطاته من هذا الواقع؟

حوار ثقافات أم صراع حضارات؟

          كما أسلفنا توفر الإنترنت وسائل عديدة للحوار بين الأفراد والجماعات والمؤسسات, ولهذا يمكن أن تكون ساحة لحوار مثير بين ثقافات الشعوب يثري هذه الثقافات, ويمزج بينها دون أن يطمس هويتها وخصوصيتها, بل هناك مَن يزعم أن ثقافة الإنترنت هي المدخل لتحقيق أمل البشرية في إرساء ثقافة تمهّد لسلام حقيقي ودائم تنعم في ظله البشرية في (هيتروطوبيا) من تنوع الثقافات وتعددها, يناقض حلم الوئام هذا الرأي القائل بحتمية الصراع واستحالة الوفاق العالمي والاجتماعي, بل هناك مَن يؤكد أن الإنترنت ستؤدي إلى جرف حاد يفصل بين الثقافات والفئات الاجتماعية, وستعيد فرز المجتمعات الإنسانية وفقاً لمعايير عصر المعلومات, وأن العالم سيشهد (دارونية ثقافية) شرسة تلتهم فيها الثقافات الأقوى - والثقافة الأمريكية تحديداً - ما عداها من الثقافات, وكما كادت التكنولوجيا الصناعية تقضي على التنوّع البيولوجي, فإن التكنولوجيا المعلوماتية يمكن أن تقضي بدورها على التنوع الثقافي لتنقرض الثقافات بلغاتها وقيمها وتقاليدها في ظل تجانس ثقافي بغيض يهيمن عليه القطب الأوحد, ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل هناك مَن ينذر بنشوب حروب بين القوى الاقتصادية العالمية من أجل السيطرة على موارد المعلومات, كما نشبت في الماضي من أجل السيطرة على المواد الأولية.

          وتجدر الإشارة هنا في صدد الحديث عن صراع الحضارات إلى الحملة الشعواء التي يتعرض لها الإسلام حالياً خلال شبكة الإنترنت, وما كتب حول العداء المتزايد للإسلام حالياً, حيث ينظر إليه بعض منظري الغرب بصفته الأيديولوجية التي تقف عقبة أمام تنفيذ رؤيتهم عن العولمة على الصعيد الثقافي كشرط لفرضها اقتصادياً.

معلومات أكثر أم معرفة أقل؟

          كانت الشكوى فيما مضى هي ندرة المعلومات, أما الآن, وبعد أن أطلقت الإنترنت إعصار المعلومات من قمقمه, فقد انقلب الوضع ليصبح الإفراط المعلوماتي هو المشكلة التي لا تقل صعوبة عن سابقتها, والتساؤل حالياً: كيف يمكن للعقل الإنساني أن يواجه حمل المعلومات الزائد Information Overload, هل ستؤدي وفرة المعلومات إلى مزيد من المعرفة أم مزيد من تشتت العقل أمام وابل المعلومات المصوّب إليه؟ فليست المعلومات إلا شقّاً واحداً من المعرفة التي تمتزج فيها المعلومة مع الحدس والخبرات العملية والقدرة على الحكم, لقد تميز العقل البشري بقدرته الفائقة على توليد معرفة كبيرة على أساس من معلومات قليلة, فما مصير هذا العقل أمام ظاهرة الإفراط المعلوماتي, هل سيركن إلى الاسترخاء منهزماً أمام الإعصار, أم سيستحدث أدوات جديدة تصدّياً له, ويأتي على قائمة هذه الأدوا ت فيما يخصنا تلك المتعلقة باستخدام اللغة العربية التي باتت في أمس الحاجة لنظرة أشمل وأعمق تلبية لمطالب ثقافة الإنترنت.

إبداع أم اجترار؟

          هناك مَن يقول أن الإنترنت ستزيد من قدرة الإبداع والابتكار من خلال مداومة الإبحار اللامحدود في فضاء المعلومات وتوفير العديد من الوسائل للتعلم الذاتي, وتنمية القدرات الذهنية علاوة على التفاعل المباشر الذي تتيحه مع الغير, بالإضافة إلى ما يؤدي إليه التعامل مع النظم الآلية والبرمجيات من تنمية التفكير المنطقي والمنهجي, يفسّر ذلك الاهتمام الشديد الذي يوليه حاليا الباحثون في مجال علم نفس الذكاء وعلوم المعرفة والذكاء الاصطناعي لدراسة أثر الإنترنت على عمليات اكتساب المعرفة وتوظيفها, في المقابل, هناك مَن يقول إن الإنترنت ستحيل عملية الإبداع إلى نوع من الاجترار (أو إعادة الإنتاج) لينحو الأدب إلى الوثائقية والفن التشكيلي إلى الكولاج (القص واللصق) والموسيقى إلى نوع من المزج الإلكتروني, ويصبح إبهار العرض عوضاً عن مضمون الرسالة تحقيقاً للمقولة التي ذاعت عن مارشال مكلوهان رائد التنظير الإعلامي: (الوسيط هو الرسالة  (The media is the message).

بيروقراطية أم (معلوماتية) ؟

          ستخفف الإنترنت من قبضة البيروقراطية التقليدية بعد إسقاطها لكثير من الحلقات الوسيطة, وأتمتتها لكثير من نظم إمداد الخدمات دونما حاجة إلى تدخل بشري, وذلك علاوة على الشفافية المعلوماتية العالية التي توفرها الشبكة, والتي ستحرم البيروقراطية من استخدام أمضى أسلحتها ألا وهو التعتيم على المعلومات واحتكارها, كل هذا سيمكـّن الإدارة مدعمة بنظم المعلومات من التعامل المباشر مع عناصر الإنتاج والتوزيع, ولكن هناك مَن يقول إن ذلك الوضع سيؤدي إلى بيروقراطية جديدة أو (معلوقراطية) تحل فيها الآلة ونظمها محل طبقة البيروقراط لتحكم قبضتها على حياة البشر عامها وخاصها, بعد أن أصبح اليوم كثير من المؤسسات والمرافق رهينة للنظم الآلية وعرضة للشلل التام ما إن تتعطل هذه النظم, ويكفي مثالاً هنا ما سمعناه عن رعب الفيروسات التي تهدد أمن الإنترنت.

عمالة أم بطالة؟

          ولاشك في أن الإنترنت سيكون لها أثرها الواضح في كيفية القيام بالأعمال ومتابعتها, وبالتالي المهارات اللازمة لتأديتها, ولاشك أيضاً في أنها ستؤدي إلى ظهور نوعيات جديدة من الوظائف أبعد ما تكون عن تلك التي أفرزتها التكنولوجيا الصناعية, ولكنها في الوقت نفسه ستمحو من الوجود كثيراً من الأعمال التقليدية, إن فرص العمل آخذة في النقصان يوماً بعد يوم حتى كاد العمل  يصبح هو الآخر نوعاً من الرفاهية لن ينعم بها إلا النخبة القادرة, وفي كتابه (فخ العولمة) ينذر هانس بيتر مارتين ببزوغ مجتمع الخمس, ويقصد بذلك خمساً واحداً فقط يعمل, وأربعة أخماس تلحق بطابور البطالة, ولن يفلت من هذه البطالة الجديدة أحد سواء في قطاعات الإنتاج أو الخدمات, متعلمين وغير متعلمين, وعلى الإنسان أن يواجه قدره وما فعلته به صنيعته.

 

نبيل علي